كيف نعرف أننا نعرف؟

hhhh

|

 

(الإبيستيمولوجي-Epistemology):

هو فرع من فروع الفلسفة، يهتم بدراسة المعرفة البشرية وطبيعتها وأنواعها وكيفية الحصول عليها، وأيضًا العلاقة بين المعرفة والحقيقة والمعتقدات.

إذن، ما هي المعرفة؟ كيف يمكننا أن نقول بأن شخصًا ما يعرف أو لا يعرف؟
تبدو هذه الأسئلة بديهية، فحياتنا اليومية تجعلنا نصدق أننا نعرف ماهية المعرفة.

بالتفكير بشكلٍ أعمق، لا يبدو أن هناك تعريف واضح لها. كان ذلك حتى نموذج (الإيمان الحقيقي المبرر-Justified True Belief) الذي وضع مقياسًا واضحًا لتحديد ما إذا كان الشخص يعرف أم لا. لكن، وفي عام (1963م) قام (إدموند جيتير-Edmund Gettier) بنشر ورقة بحثية قلبت نموذج الإيمان الحقيقي المبرر رأسًا على عقب، حيث عرضت ورقته مواقف معرفة الأشخاص فيها حقيقية ومبررة، ولكن من الواضح أيضًا أن هؤلاء الأشخاص لا يعرفون، وهنا أوضح جيتير الثغرة في نموذج الإيمان الحقيقي المبرر.

سُميت تلك المواقف أو الحالات بحالات جيتير وبدأ الفلاسفة منذ ذلك الحين بمحاولة إصلاح نموذج الإيمان الحقيقي المبرر أو رفضه كليًا وإيجاد تعريف أخر يفسر حالات جيتير ويرينا طبيعة المعرفة.

هنا سوف نعرض بعض الحلول المحتملة لمشكلة جيتير ثم سنبين مشكلة إيجاد ذلك الحل من الأساس.
أولًا، يقول نموذج الإيمان الحقيقي المبرر أنه ليعرف شخص (أ) أن (ب) يجب أن:

  • يكون (ب) حقيقي.
  • يصدق (أ) أن (ب) حقيقي.
  • يوجد سبب يبرر تصديق (أ) أن (ب) حقيقي.

عرض جيتير في ورقته حالتين تعارضان نموذج الإيمان الحقيقي المبرر، سنذكر هنا واحدة منهما فقط. ما إن نفهم كيفية بناؤهم؛ فإنه من المعتاد أن تخترع حالات جيتير أخرى.

• حالة جتير الأولى:

تخيل معي شخصين، قام جيتير بتسميتهم سميث وجونز، تقدموا لوظيفة. وبينما هما ينتظران إعلان الفائز بالوظيفة، عد جونز العملات المعدنية في جيبه ووجدهم عشرة. شاهده سميث وهو يفعل ذلك. كان مدير الشركة قد أخبر سميث سابقًا أن جونز هو من سيحصل على الوظيفة على أية حال.
فكر سميث بأن: جونز الذي في جيبه عشر عملات معدنية سيحصل على الوظيفة.
واستنتج أيضًا أن: الرجل الذي في جيبه عشر عملات معدنية سيحصل على الوظيفة. الغريب في الأمر هو حصول سميث على الوظيفة وأنه هو أيضًا لديه عشر عملات معدنية في جيبه ولكنه لا يعلم ذلك.

بالعودة إلى معايير نموذج الإيمان الحقيقي المبرر؛ فإنه يمكننا القول بأن سميث يعرف؛ لأن ما يصدقه حقيقي ولديه مبرر حتى يصدقه. تكمن مشكلة جيتير في كون سميث لا يعرف، كما هو واضح، فهو يظن أن جونز هو الذي سيفوز بالوظيفة. هنا تظهر المشكلة (مشكلة جيتير) في ذلك النموذج حيث لا يُقدم لنا نموذج الإيمان الحقيقي المبرر معايير كافية لنحدد إن كان الشخص يعرف أم لا يعرف.

الجدير بالذكر هنا، أن إمكانية تأليف حالات جيتير أخرى لا يعني أنهم متساوون. نعم يبدو هذا غريبًا ولكن إن كانوا متساوين؛ فبإمكاننا إذن أن نقلص المشكلة كلها إلى حالة واحدة فقط. بالتالي، إيجاد حل لتلك الحالة الفريدة يعني، نظريًا، إيجاد حل للمشكلة كلها. لكن الأمر ليس كذلك كما سيظهر لاحقًا. ففي بداية التفكير لإيجاد حل، فإنه من الضروري أن نأخذ في الاعتبار حالات أكثر بقدر المستطاع.

الحل المحتمل 1- فضيلة الفكر:

يربط هذا الحل بين تفكير الشخص ووصفه بأنه يعرف أو لا يعرف. ليعرف (أ) أن (ب)، يجب عليه أن يعرف ذلك بفضل قدرته على التفكير المنطقي. في حالات جيتير، فالأشخاص محل السؤال لا يعرفون بسبب فضيلتهم الفكرية.

لا يعد هذا الحل قاطعًا كونه ينقل النقاش إلى تعريف ماهية الفضيلة الفكرية وحدودها.
لنأخذ مثالًا: في حالة شهيرة تُعرف بالخروف في الحقل والتي تحدث كالتالي: ماري في الحقل وترى مخلوقًا يشبه الخروف فتعتقد أنه يوجد خروف في الحقل. ما رأته ماري ليس خروفًا ولكن، ربما لسوء حظنا، يوجد تل أمام ماري وورائها، نعم كما خمنت تمامًا، خروف! الآن يصبح ما تعتقده ماري صحيحًا؛ فحقًا يوجد خروف في الحقل، لكن هل وصلت ماري لتلك الحقيقة عن طريق فضيلتها الفكرية؟ بالطبع لا.

دعنا نتخيل الآن أنها بدلًا من القفز إلى الاستنتاجات، سألت ماري مزارعًا عن وجود خروف في الحقل وأكد لها المزارع وجوده. لسوء حظنا ثانية، فمن سألته ماري لم يكن مزارعًا، كان فقط يرتدي زي أحدهم وعند سؤاله تذكر أنه رأى ما يشبه الخروف فقال بأن هناك خروف. فموقفه مثل موقف ماري في البداية تمامًا.

السؤال حاليًا: هل وصلت ماري إلى اعتقادها، مع صحته، بسبب فضيلتها الفكرية؟ إجابة هذا السؤال متنازع عليها فهي تحوي الكثير من التعقيدات. شخصيًا أميل لقول نعم؛ لأنه ماذا يمكنها أن تفكر أو تحلل أكثر مما فعلت لتقف على أرضٍ صلبة وتصل إلى اعتقادها الصحيح؟ هكذا يمكننا القول بأنها تعرف بينما نحن نعلم جيدًا أنها لا تعرف!

الحل المحتمل 2- لا افتراضات خاطئة:

هذا الحل يضع شرطًا إضافيًا على شروط نموذج الإيمان الحقيقي المبرر؛ ليجعله كافيًا لتوصيف المعرفة. ينص الحل على أنه ليعرف (أ ب) يجب أن:

  • يكون (ب) حقيقي.
  • يعتقد (أ) في حقيقة (ب).
  • لدى (أ) سبب يبرر اعتقاده.
  • لا يعتمد اعتقاد (أ) على أي افتراضات خاطئة.

يبدو ذلك معقولًا وبديهيًا. دعونا نرى كيف يعمل.

في حالة جونز وسميث، افترض سميث بشكل خاطئ أن المدير يقول الحقيقة. لولا هذا الافتراض الخاطئ لأمكننا تفادي المشكلة برمتها. لنرى كيف يعمل هذا الحل في حالة أخري.
حالة الساعة المُتوقفة، التي تجري كالتالي: ديف ينظر إلى ساعة الحائط ويراها تقرأ (3:00) مثلًا فيعتقد ديف أن الساعة هي (3:00)، هو لا يعرف أن أحدًا ما أوقفها، ولأن للمصادفة دورًا فقد كانت الساعة وقتها (3:00) تمامًا كما قالت الساعة المُتوقفة. يخبرنا هذا الحل بأن ديف لا يعلم؛ لأنه بنى اعتقاده على افتراض خاطئ وهو أن الساعة تعمل. وأخيرًا حلًا يعمل! نعم هذا الحل يعمل لكنه أيضًا عديم الأهمية ولا يفيدنا بأي معلومات، فضلًا عن كونه غير عملي، فلماذا قد يفكر المرء في أن المديرين كاذبون وأن الساعات قد أًوقفت؟

الحل المحتمل 3- القضاء على السببية غير اللائقة:

يقارن هذا الحل بين المعرفة الحسية وأنواع المعرفة الأخرى. تولد المعرفة الحسية من إيماننا بحواسنا التي تعمل بالشكل ذاته تقريبًا لنا جميعًا كبشر، ومن ثم يعد إيماننا هذا حقيقي ومبرر. من هنا نفهم أن المعلومات الحسية التي نتلقاها من حواسنا تُسبب معرفتنا الحسية.

بالطريقة ذاتها، يقترح هذا الحل أن نعدل نموذج الإيمان الحقيقي المبرر بحيث تكون الأسباب التي تجعل (ب) حقيقيًا هي أيضًا تلك التي تجعله موجودًا.
مثلًا، في حالة سميث وجونز (ب) حقيقي؛ لأن كما يلي:

  • حصل سميث على الوظيفة.
  • سميث لديه عشر عملات معدنية في جيبه.

لكن (1،2) لم يسببوا (ب) لوجودها، ب وجدت؛ لأن سميث رأى جونز وهو يعد عملاته، ولأن المدير أخبر سميث سلفًا أن جونز سوف يحصل على الوظيفة. على الرغم من نجاح هذا الحل، فإنه قاصر حيث لا يستطع مثلًا أن يقدم تفسيرًا للمعرفة الرياضية أو المنطقية فهذه حقائق أولية لا تحتاج إلى علاقات سببية لتوجد.

إلى جانب ذلك، فالمقارنة مع المعرفة الحسية ليست دقيقة تمامًا. فهي مثلًا، تفشل في حالة الخروف في الحقل؛ لأن الاعتماد على المعلومات الحسية فشل في التسبب في وجود (ب)، (ب) هنا هو الاعتقاد بوجود خروف في الحقل، ونتج هذا من الخداع الذي تقع فيه حواسنا في كثير من الأحيان.

بالنظر لتلك الحلول المحتملة تتضح لنا المشكلة في إيجاد حل لحالات جيتير، فالحل دائمًا ما يكون عام جدًا أو محدد جدًا. محدد جدًا حيث يعمل فقط مع بعض الحالات ويفشل في أخرى؛ وبالتالي لا يرقى ليكون حلًا عامًا. عام جدًا للدرجة التي يصعب معها القول بأن المعرفة ممكنة من الأساس فيفقد معناه ويصبح حلًا عديم الأهمية.

مشكلة مشكلة جيتير:

على الرغم من اختلاف حالات جيتير وعدم تساويها، فإنه من الممكن أن نضع طريقة لتوليدها فربما توفر لنا تلك الطريقة فهمًا أفضل لمشكلة جيتير، تتكون الطريقة من خطوتين:

  • الخطوة الأولى: خذ اعتقادًا يؤدي بطريقة ما إلى اعتقاد خاطئ لكنه مبرر.
  • الخطوة الثانية: اجعل هذا الاعتقاد الخاطئ صحيحًا لأي أسبابٍ كانت بشرط ألا تمس كونه مبررًا.

من الممكن أن تكون تلك الأسباب هي: الخداع كما في حالة الخروف في الحقل، التغير كما في حالة سميث وجونز حيث غير المدير رأيه أو كذب، والحظ وهو السبب الذي كان أكثر وضوحًا كما في حالة الساعة المُتوقفة، وأيضًا المصادفة في كون سميث لديه نفس عدد العملات التي يمتلكها جونز. بناءً على ذلك؛ فإن حالات جيتير غير محتملة الحدوث وقليلة. وهذا بالطبع لا يعني عدم أهميتهم.

يمكننا أن نرى الموقف من وجهة نظر أخرى. الاستنتاج الأخير لحالة سميث وجونز هو: الرجل الذي سيحصل على الوظيفة لديه عشر عملات معدنية في جيبه، لكن ماذا يعني الرجل هنا؟ لنجيب على ذلك فليس هناك مفر إذن من سؤال المتحدث (سميث)، لكن سميث سيقول أنّ الرجل هنا تشير إلى جونز. هل نستطيع الآن أن نستبدل الرجل بجونز؟ فتصبح الجملة: جونز الذي سيحصل على الوظيفة لديه عشر عملات معدنية في جيبه؛ فورًا والآن فقط يمكننا القول بأن هذه الجملة غير صحيحة؛ وبالتالي سميث لا يعرف وهو فعلًا لا يعرف كما نعلم من البداية. من هنا نرى أن النقد الذي صوبه جيتير ضد نموذج الإيمان الحقيقي المبرر غير دقيق فهو في طياته خطوات غير منطقية، كربط حقيقتين منفصلتين ببعضهما فليس هناك أي علاقة أيًا كانت بين أن يمتلك رجل عشر عملات وأن يحصل على وظيفة.

على الطرف الأخر، فهناك علاقة بين أن يملك جونز عشر عملات وأنه سيحصل على الوظيفة، لكن هنا أيضًا تظهر مشكلة أخرى وهي نية المتحدث وما إذا كان لدينا ما يبرر تبديل الكلمات بناءً على نيته أم لا.

أعتقد أنه على الرغم من شهرة حالات جيتير، فإنها لم تستطع تدمير نموذج الإيمان الحقيقي المبرر؛ لأنه في الواقع نادرًا ما نحصل على حالة من حالات جيتير.

حقيقة أن جيتير يستغل الحظ ليفني تعريفًا عاملًا وعمليًا للمعرفة هو شيء فقط يحزنني. مشكلة جيتير ما هي إلا جرس إنذار بأنه يمكننا أن نُبلي بشكلٍ أفضل ونأتي بتعريفٍ أدق للمعرفة يتسع لكل ما عرفناه وكل ما يمكننا أن نعرفه يومًا.

إعداد: فاطمة محمود.
مراجعة وتصميم: مُحمد فتحي.

المصادر:

 [1] “ON THE GETTIER PROBLEM PROBLEM.” Accessed February 9, 2018. http://www.unc.edu/~ujanel/Gettier.htm.

[2] “Gettier Problems | Internet Encyclopedia of Philosophy.” Accessed February 9, 2018. http://www.iep.utm.edu/gettier/#H9.

 [3] Manifest-Failure-The-Gettier-Problem-Solved. (n.d.). Retrieved from  https://quod.lib.umich.edu/cgi/p/pod/dod-idx/manifest-failure-the-gettier-problem-solved.pdf?c=phimp;idno=3521354.0011.008;format=pdf 

[4]  Gettier. (n.d.). Retrieved from http://www-bcf.usc.edu/~kleinsch/Gettier.pdf 

 

 

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي