4. هل الفلسفة غير مُفيدة؟  تجربتان عقليتان تضعان هويتك محلًا للشك!!

11

|||

هل أنت واثق من معرفة من أنت؟

 

وضع ديكارت جميع معارفه في خانة الشك بهدف التوصل لفكرة لا ينالها الشك، هذه الطريقة التي ساعدته كي يبني فكره الفلسفي «أنا أُفكر إذًا؛ أنا موجود». أي كل ما هو واضح لديكارت أنه موجود و(يفكر).

لكن، يعتقد بعض الفلاسفة أنه ذهب بفكره بعيدًا؛ فكل ما يمكن قوله أنّ هناك فكر وأن ثمة من يفكر. على أية حال، ليس من العجيب أن يعتقد هؤلاء الفلاسفة ذلك، فقد شك بعض الفلاسفة حتى في الهوية الشخصية.

جرت العادة أن نفكر في أن الوعي والهوية هما حصيلة لعمليات فيزيائية تتم في الدماغ. نتبع في ذلك جون لوك (John Locke) في عمله: مقال عن الفهم البشري (An Essay Concerning Human Understanding) حيث أوضح أن الهوية هي ثمرة للتتابع السيكولوجي، تحديدًا لتوالي الذكريات. لكن، توجد بعض التجارب العقلية التي تضع حتى هذا المبدأ في نطاق الشك -على الرغم من أنه يبدو لنا أمرًا مفروغًا منه- وجعلونا نشك في مدى صحة استخدام الضمير (أنا).

الانتقال عن بعد في فيلم (ستارتريك- Star Trek).

انتقال المادة عن بعد:

لنفرض أن ناسا طلبت مُتطوعًا لتجربة آلة تنقل الأجسام عن بعد(Teleportation) كما في فيلم (Star Trek)، وبالفعل تنجح التجربة ويظهر المتطوع على الجانب الآخر في المريخ. تعمل هذه الآلة عن طريق عمل نسخة كاملة لكل خلية من خلايا الجسم، ثم تدمر النسخة الأصلية تمامًا ويُعاد تشكيلها مرة أُخرى في الجهة المُقابلة؛ أي تفكك الشخص تمامًا ثم تستنسخه. مع العلم أن النسخة الجديدة تحمل كافة الذكريات بما فيها الجرح الناجم عن الحلاقة الصباحية التي قام بها المُتطوع قبل التجربة.

أدرج ديريك بارفيت (Derek Parfit) هذه التجربة في كتابه آراء وأشخاص (Reasons and Persons)، لكننا أجرينا عليها بعض التعديلات.

مما سبق؛ يبدو واضحًا أن الشخص الأصلي قد اختفى، وما هو مؤكد أن هناك تتابع سيكولوجي، حيث أن الشخص المَنقول للمريخ يمكن أن يُكمل حياة الشخص الأصلي دون أدنى مُشكلة كما لن يلاحظ ولن يعرف أحد أن هناك أي اختلاف باستثناء خُبراء ناسا. بالنسبة لهذا الشخص كل ما حدث أنه ولج آلة نقلته على الفور إلى كوكب آخر.

لنقل بطريقة أخرى على نهج الفيلسوف جوليان باجيني (Julian Baggini) في كتابه الخنزير الذي أراد أن يكون لحمًا مطبوخًا (El cerdo que quería ser jamón). تخيل أن ثمة من قاموا باختطافك منذ عشر سنين ثم قاموا باستخدامك لإجراء تجارب انتقال المادة عن بعد ثم أعادوك مرة أخرى لسريرك دون أن تدري بأي شيء، وبعد عودتك سارت حياتك كما هي ولم تشك في أي شيء حتى اللحظة؛ هل يمكن أن تقول إنك لست من تعتقد؟ هل يمكن أن تصرح بأنهم قتلوك؟

إذا شاهدت فيلم (برستيج- The Prestige) ستدرك ما تمثله هذه القبعات وعلاقتها بالمقال.

وإذا كانت تلك هي فرصتك لتظل على قيد الحياة؟

يرى بارفيت أن التتابع الجسدي ليس هامًا كما نعتقد؛ فالانتقال عن بعد ليس أفضل من البقاء على الحالة الطبيعية ولكن الانتقال عن بعد أفضل من الموت.
تحدث ديفيد هيوم (David Hume) عن الهوية في رسالة في الطبيعة البشرية (A Treatise of Human Nature) حيث شبّه المخ بنوع من المسرح حيث يتوالى ظهور أحداث مختلفة. بالنسبة لهيوم نحن لسنا أكثر من مجموعة أو حزمة من المُدركات الحسية التي تؤدي الواحدة منها إلى أُخرى بسرعة فائقة كما تظل هذه المُدركات في تدفق وحركة دائمة. إذًا فليس هناك داعي للتفكير بأن هناك جوهر ما وراء تلك المُدركات أو الأحاسيس. هويتنا هشة أكثر مما نعتقد.

ومع ذلك، ستواجه ناسا صعوبات للحصول على متطوعين، ما لم يكن السيناريو مشابهًا لما طرحه الفيلسوف دانيال دانيت (Daniel Dennett) في مضخات الفكر (Intuition Pumps). لنفترض أن شخص ما سافر للمريخ في مركبة فضائية لكن عندما وصل حدث انفجار وتدمرت القاعدة ومات الجميع وفرصته الوحيدة للنجاة هي أن يستخدم آلة الانتقال عن بُعد. هل يستحق العناء استخدام هذه الآلة؟ ألن يموت على أية حال؟

سأل دانيال دانيت عما إذا كانت الهوية في الأساس عبارة عن معلومة بحيث يمكن نقلها عبر آلة الانتقال عن بعد دون أن تُفقد.
على سبيل المثال، لو قمنا بنقل فيلم على (USB flash drive) ومحينا النسخة الأصلية، سيظل الفيلم كما هو؛ هل يمكن أن نطبق المثل مع الأشخاص أم أننا أكثر من مجرد معلومة؟ هل مناهضتنا لآلة الانتقال هي من باب المُفارقة التاريخية كما اقترح دانييل دانيت أم أنها غريزة البقاء على قيد الحياة؟

يعتقد ألفونسو مونيز كوركويرا (Alfonso Muñoz Corcuera) الأستاذ بجامعة ولاية جورجيا أننا لسنا فقط معلومة أو مخ فقط لأنه عضو متصل ببقية الجسم ويشكل جزءًا منه، فكما أوضح نحن عبارة عن خليط من عدة أشياء وكل منها يمكن أن يكون مُهمًا في تشكيل هويتنا. ومن ثم؛ التتابع الجسدي أو السيكولوجي ليسا المسؤولان الوحيدان عن تشكيل هويتنا فالمجتمع الذي نعيش بداخله يساهم أيضًا في تشكيل الهوية.

زراعة مزدوجة لمخ:

لنقل إننا متفقين أنه من المهم وجود نوع من التتابع الجسدي بجانب التتابع السيكولوجي -باستثناء البروفيسور كوركويرا- فمثلًا، لو نقلنا مخ شخص ما في جسد شخص آخر؛ فسيعتقد الكثير أنه بعد العملية أن الشخص الذي نخاطبه هو الشخص صاحب المخ وأن عملية زرع الجسم مختلفة تمامًا عن عملية زرع أي عضو.

لدى بارفيت أيضًا تجربة عقلية لكي يختبر هذه الفكرة. سنمثلها بشخص (أ) لديه أخوان (ب) و(ج).

سافر (أ) مع إخوته (ب) و(ج) ووقع حادث مُروع في الطريق بسبب المرور. تحطم جسد (أ) بالكامل لكن عقله مازال يعمل، بينما تدمر مخ كلا الأخوين. يعلم الأطباء أنه في حالات خاصة يمكن أن يعيش الإنسان بنصف مخ ولذا؛ يقرر الأطباء أن يضعوا في كل جسد نص مخ، كما يعرفون تقنية تجريبية لنقل نص المخ. من ثم؛ يشرع الأطباء في إجراء العملية. بعد العملية يستيقظ في جسد كلًا من (ب) و(ج) ذكريات (أ)، فلو سألنا كليهما عن الاسم سيجيبان باسم الشخص (أ).

قد يبدو سخيفًا أن يتحول شخصان لشخص واحد آخر لكن لبارفيت إجابة بهذا الشأن: لو أن (ب) مات أثناء العملية واستيقظ (ج) بنصف مخ مصرًا على أنه هو نفسه (أ)، هل سنواجه حينها مشكلة في تقبل نتائج العملية؟ ألن تكون عملية نقل المخ هي نفسها كما ذكرناها في الفقرة السابقة؟

على كُلٍ، ليس من السهل الاعتراف بوجود نسختين من الشخص (أ)، هل إذا مات جسد (ب) بنص مخ (أ) هل سيموت بذلك (أ)؟ ولو فرضنا أن كلاهما ظل حيًا، أليس من المحتمل أن يموت (أ) هل في هذه الحالة سيكون حيًا وميتًا في نفس الوقت؟ ومن سيرث في هذه الحالة أبناء (أ) الشخص الأصلي أم أبناء (ب) الذي لديه نصف مخ (أ)؟

يدلي البروفيسور كوركويرا في هذه المسألة ويقول أنّه ليس كافيًا أن يعترف الاثنان أنهما نفس الشخص، فنحن كبشر فريدون؛ فمنذ اللحظة التي صارا فيها اثنان سيحييا حياة مُختلفة طبقًا لتجاربهم الحياتية وتفاعلهم مع المجتمع.

بطريقة أُخرى، هل يمكن أن تُجبر أحد أن يكف عن الاعتقاد فيمن يكون؟

لِمَ هذه الاختبارات مهمة؟

قد يبدو للبعض أن هذه الألعاب العقلية لا نفع لها؛ فلا يوجد جهاز نقل المادة عن بُعد ولا أحد سينقل له نص مخ.
يخبرنا البروفيسور كوركويرا الذي يستخدم مثل هذه الألعاب العقلية في محاضراته بأن الفلاسفة يستكشفوا حدود هذه المفاهيم من خلال هذه الافتراضات؛ لأنها توضح جوهر المشكلة وتوقظ الحدس لدينا جميعًا.

يتابع البروفيسور أنه في حالة الهوية الشخصية فإنها تشكل قضية ذات صلة بمواضيع أخرى جدلية مثل: الإجهاض، الموت الرحيم، الموت الدماغي… والتي لها علاقة بقرارات أخلاقية يجب اتخاذها خصوصًا في الحالات القصوى. مثل هذه الحالات تجعلنا نطرح أسئلة.
على سبيل المثال، متى يتوجب على أحدهم أن يتقلد شخصية ما، ومتى يجب أن يكف عن ذلك؟

في حالة الموت الرحيم، هل هو قرار طبي أم العائلة -مثلًا- لديها ما تقوله؟ لو أن أشخاصًا محكوم عليهم بـ 15 أو 20 عامًا من السجن، في مثل هذه الحالات هل ستظن إن استخدام عبارة (لم أعد نفس الشخص الذي ارتكب الجريمة حينها) يجعل المسؤولية الشخصية أمرًا هشًا؟

وضع بارفيت في كتابه بعض الاستنتاجات الأخلاقية والشخصية لهذه التجارب ولتجارب أُخرى عديدة. الشك في هويتنا كما فعل بارفيت يمكن أن يجعلنا مضطربين، لكن بالنسبة له فإنها تجعلنا مُتحررين: «التفكير بهذه المسألة تجعلني أقل قلقًا فيما يتعلق بالمستقبل وتجعلني أقلل اهتمامي فيما يتعلق بشؤون الآخرين». سواء علمنا أم لم نعلم من نحن، حري أن نتذكر أننا لسنا على هذا القدر من الأهمية الذي ننسبه لأنفسنا في كثير من الأحيان.

المصدر: https://verne.elpais.com/verne/2017/02/07/articulo/1486479996_663714.html

ترجمة: رُقية التهامي
مُراجعة: مُحمد فتحي.

 

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي