الشركات متعددة الجنسيات ودورها الاقتصاديّ العالميّ

الشركات متعددة الجنسيات

تعتبر العولمة ظاهرة عالميّة تسعى إلى تعزيز التكامل الاقتصاديّ بين مختلف دول العالم، عن طريق ربطهم بمجموعة من العلاقات الماليّة والتجاريّة والاقتصاديّة والتكنولوجية، كما تساهم العولمة في ربط مختلف القطاعات المحليّة والعالميّة، من خلال تعزيز انتقال الخدمات والسلع ورؤوس الأموال بحرية بين الدول. وهي عملية تطبقها كافة المنظمات والشركات والمؤسسات بهدف تحقيق نفوذ دوليّ، أو توسيع عملها ليتحول من محليّ إلى عالميّ، من خلال دعم القطاع التجاريّ ضمن كافة أنحاء العالم؛ وتحديدًا من خلال المنشآت الكبرى التي تنتج الخدمات والسلع ضمن دول عديدة ومتنوعة.[1]

وفي ظل هذه الأوضاع نشأت الشركات العالمية أو التي قد تسمى أحيانا بالشركات متعددة الجنسياتِ (Multinational Enterprise)، وهي شركات ترجع ملكيّتها وإدارتها لسيطرة عدة ملاك من جنسيّات مختلفة، وتمارسُ هذه الشركاتُ نشاطاتها المختلفة في أكثر من دولة، على الرغم من أنّ استراتيجياتها وخططَها وسياساتها تكون موجّهة للعمل في دولة معيّنة، تُعرف باسم الدولة الأمّ للشركة، ولكن يتجاوز عمل هذه الشركات الحدود الوطنيّة الإقليميّة للدولة الأمّ، ويتسعُ لدولٍ أخرى تُعرفُ باسم الدول المضيفة.

وتمتاز هذه الشركات أيضًا بامتلاكها مِزية تنافسية تميز منتجاتها عن غيرها بقدر كبير، مما يجعل لها القدرة على الأداء بأسلوب واحد متميز بحيث لا يمكن اتباعها من قبل المنافسين الآخرين في السوق.

فما هي الشركات متعددة الجنسيات؟ وما دورها الاقتصاديّ العالميّ؟

الشركات متعددة الجنسيات

هناك العديد من التعريفات التي تم وضعها لتعريف الشركات متعددة الجنسيات، كما تعددت تسمياتها، فهناك من يطلق عليها اسم «شركات متعددة الجنسيات»، وهنالك من أطلق عليها مسمى «الشركات عابرة الوطنية» أو «الشركات عابرة القومية» أو «الشركات العالمية» أو «المشروع متعدد الجنسيات» أو «المؤسسة المتعددة الجنسيات». ولكن مع اختلاف تسميتها إلا أن التعريف الاصطلاحي الدقيق لها هو «أنها شركات ذات رؤوس أموال ضخمة تتركز في إحدى الدول  وتُعرف بأنها المركز الأم لها، وتنقل نشاطها إلى الدول الأخرى من خلال فروعها»، وهناك مَنْ عرّفها بأنها «منظمة يزيد رقم أعمالها أو مبيعاتها السنوية عن 100 مليون دولار، والتي تملك تسهيلات أو فروعًا إنتاجية في ست دول أجنبية أو أكثر».  وهناك من ركز على دورها الاقتصاديّ في الاستثمارات الدوليّة واعتبرها بأنها «الشركة التي تقوم بشكل أو بآخر وحسب اختصاصها باستثمارات مباشرة في أكثر من دولة، وتنظم نشاطاتها في الحاضر والمستقبل فيما يخص التسيير والإستراتيجية على المدى الطويل في الإطار الدولي».

أما الأمم المتحدة فقد أقرت تسمية هذه الشركات عام 1974 تحت اسم «الشركات عابرة القوميات» وأنشأت مركزًا بهذا الاسم يتبع المجلس الاقتصادي والاجتماعي في الأمم المتحدة. ويمكن إجمالًا تعريف الشركات متعددة الجنسيات بأنها «كيان اقتصادي يزاول التجارة والإنتاج عبر القارات، وله في دولتين أو أكثر شركات وليدة أو فروع تتحكم فيها الشركة الأم بصورة فعالة، وتخطط لكل قراراتها تخطيطًا شاملًا”».[2]

طبيعة عمل الشركات متعددة الجنسيات

يعتمد عمل الشركات متعددة الجنسيات بشكلٍ كبير على العمل في أسواق العديد من الدول، بحيث تكون الإستراتيجيات والقرارات التي تتخذها ذات طابعٍ عالميّ ودَوْليّ، ويمتلك أصحاب هذا النوع من الشركات حريّة كبيرة في نقل الموارد وعناصر الإنتاج، وكذلك نقل المزايا التقنيّة أي نقل التكنولوجيا المستخدمة من مكانٍ لآخر، وتتعدّدُ أساليب الإنتاج في هذا النوع من الشركات، حيث يمكن نقل أساليبِ إنتاجها من مكان لآخر في حال ارتفعت قيم أحد عناصر الإنتاج.

ومن أشهر الأمثلة للشركات متعددة الجنسيات شركات استخراج وتكرير البترول التي تعمل في مختلف دول العالم وشركات السيارات وشركات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، ناهيك عن شركات المياه الغازية والعصائر مثل كوكا كولا وبيبسي وغيرها من الشركات العالميّة ذات العلامات التجاريّة ذائعة الصيت.

أمثلة عن شركات متعددة الجنسيات.

خصائص الشركات متعددة الجنسيات

تتمتع الشركات متعددة الجنسيات بعدة خصائص تميزها عن غيرها من الشركات، ومن أهمها:

  1. ضخامة حجمها وكبر رأسمالها، حيث تتميّز هذه الشركات بأنها كيانات اقتصاديّة عملاقة، ومن المؤشرات التي تدلّ على ضخامةِ حجمها: كبر حجم استثماراتها، وكبر حجم رأسمالها، وتنوّع إنتاجها، وارتفاع حجم مبيعاتها وبالتالي ارتفاع حجم إيراداتها، بالإضافة إلى كبر حجم الشبكات التسويقيّة التي تعمل لصالحها.
  2. ارتفاع حجم الإنفاق على البحث والتطوير، حتى تستطيع إيجاد مزية تنافسية لمنتجاتها.
  3. كفاءة الهيكل التنظيميّ والإداريّ وقدرته على تنظيم الأعمال لتحقيق وُفورات اقتصاديّة.
  4. التنوّعُ الكبير في الأنشطة، إذ تقومُ سياسة هذه الشركات على تنوّع المنتجات التي تخرجُها الشركة بهدفِ تقليل حجم الخسائر لأدنى درجةٍ ممكنة، ففي حالِ حدوث الخسارة في أحدِ المنتجات التي تنتجها هذه الشركات يحدثُ ربحٌ في المنتجاتِ الأخرى، وبالتالي يسهمُ ذلك في تحقيقِ التوازن والربح العالي.
  5. اتساع رقعة عملها جغرافيًّا، حيث تعمل في العديد من الدول على مستوى العالم، وهو أكثر ما يميّز هذا النوع من الشركات، حيث تتسع المساحة الجغرافية التي تغطيها في أعمالها، بحيث توفّر لها هذه المزية إمكانيّاتٍ هائلة في التسويق، وبالتالي تكون منتجاتها موجّهة لعددٍ كبير من سكّان العالم، ولعلّ استخدامَها التكنولوجيا ووسائلَ الاتصالاتِ الحديثة هو أحدُ العوامل المساعدةِ في انتشارِها.
  6. إقامة التحالفات الإستراتيجية المختلفة مع الشركات المنافسة أو التي تنتج منتجات قريبة منها، وذلك بهدف تحقيق مصالحِها الاقتصاديّة المشتركة وتعزيز قدرتِها التنافسيّة.
  7. الاعتماد على المدخرات العالميّة وتعبئتها، إذ أنها تنظرُ إلى العالم على أنه سوق لها، ويمكنها تعبئتُه بالمواد التي تنتجُها بسهولة.
  8. امتلاك مزايا احتكاريّة، بحيث تكون هي الأولى والوحيدة والسبّاقة لأيّ نوع من الإنتاج؛ بهدف الحصول على الربح الوفير، وتكمن المزايا الاحتكاريّة في كثيرٍ من الأحيان من خلال القدرة على توفير الاحتكار من خلال خلق مزية تنافسية في خصائص منتجاتها، أو من خلال قدرتها على التمويل والإدارة أو حتى توفير تكنولوجيا الإنتاج، وكذلك ممن خلال قدرتها على التسويق.[3]

الحصة السوقية للشركات متعددة الجنسيات

تتميز الشركات متعددة الجنسيات بكبر حجم حصتها السوقيّة، وهذا أمرٌ طبيعيّ لأنها تعمل في العديد من الدول. وكذلك تتحرك القيمة السوقية للشركات متعددة الجنسيات بشكل يومي نتيجة حركة أسواق المال العالمية صعودًا وهبوطًا. وقد أشارت دراسة اقتصاديّة نُفِذت في العام الماضي إلى أن العام 2018 كان عامًا لإعادة ترتيب القيمة السوقية لأكبر الشركات العالميّة، بعد أن فقدت خلاله نحو 15 في المئة من قيمتها السوقيّة، غير أن شركات التكنولوجيا وتقنية المعلومات والإنترنت احتفظت بالقمة، ما يؤكد عمق صلة الشركات متعددة الجنسيات بالعولمة.

إذ احتلت أول أربعة مراكز في القائمة شركات «مايكروسوفت» و«آبل» و«ألفات» و«أمازون» بالإضافة إلى «فيسبوك» في المركز السادس، بل القيمة السوقية لهذه الشركات ارتفعت إلى ما يزيد على 3.3 تريليون دولار بزيادة قدرها 20 بليون دولار عن قيمتها نهاية عام 2017. بالإضافة إلى ذلك استطاعت شركات التقنية الدوليّة أن تحتل المراكز الخمسة الأولى في قائمة أعلى 500 شركة في العالم وفقًا لقيمة العلامة التجارية في نهاية عام 2018. لكن المفاجأة كانت في تفوق الشركات الصينيّة التي حققت نموًا ملحوظًا في قيمة علاماتها التجاريّة، إذ جاءت ثلاث شركات صينية ضمن المراكز العشر الأوائل، وهي «هواوي» و «علي بابا» و«تنسنت»، لكن شركة «أمازون» جاءت في الصدارة بعد أن كانت في المركز الثالث في عام 2017، إذ ارتفعت قيمة علامتها التجارية بنسبة 42 في المئة لتصل إلى 150.8 بليون دولار.[4]

الدور الاقتصاديّ للشركات متعددة الجنسيات

تلعب الشركات متعددة الجنسيات العديد من الأدوار الاقتصاديّة على مستوى العالم، كما تؤثر بشدة في حركة التجارة العالميّة نظرًا لضخامة إنتاجها، فإنه وبحكم الأصول الضخمة للشركات المتعددة الجنسيات، نجد تأثيرها مؤكدًا على السياسة النقديّة الدوليّة واستقرارها؛ ذلك أن قرار إحدى الشركات بتحويل نشاطها من دولة إلى أخرى له تبعات لا يمكن الاستهانة بها في اقتصاد الدولتين على السواء. وقد اتبعت الصين سياسة تخفيض قيمة عملتها (اليوان) كسلاح في الحرب التجاريّة ضدّ الشركات متعددة الجنسيات. حتى أن ترامب دخل في صراع مع شركة «جنرال موتورز» الأميركية لصناعة السيارات، وقام بهديدها برفع التعريفات الجمركية أمام منتجاتها، وله في ذلك تغريدات شهيرة منها: «أشعر بخيبة أمل كبيرة تجاه جنرال موتورز لإغلاق مصانع الشركة في ولايات أوهايو وميشيغان وميريلاند، فيما لم يتم إغلاق شيء في الصين أو المكسيك»، عندما أعلنت هذه الشركة العملاقة عن خطة إعادة هيكلة ضخمة لأعمالها التجاريّة العالميّة، تتضمن وقف الإنتاج في خمسة مصانع في أميركا الشمالية، عندما رأت الشركة أن خطتها ستجعلها أكثر كفاءة وستوفر لها نحو ستة بلايين دولار بنهاية عام 2020.

بالإضافة إلى ذلك، تُعد ثقافة الشركات المتعددة الجنسيات رأسمالية بالأساس، ووجودها يرتبط طرديًا بقوة اقتصاد الدولة المالكة والأم Home Country؛ ولذلك نجد الإحصاءات تؤكد أن 44 في المئة من إجمالي الشركات متعددة الجنسيات مملوكة من أميركا، وأكثر من 30 في المئة منها يمتلكها الاتحاد الأوروبي، وتستحوذ هذه الشركات على 80 في المئة من حجم المبيعات عالميًا، وتتربع على عروش قطاعات أساسية مثل النفط والتكنولوجيا والأغذية والمشروبات والتواصل الاجتماعي. يدعم هذا المنطق أن الرئيس الروسي بوتين، أثناء قمة العشرين في أوساكا في اليابان، في يونيو الماضي اجتمع بقادة مجموعة «بريكس» التي تضم كل من البرازيل والهند والصين وجنوب إفريقيا بالإضافة إلى روسيا، ودعاهم إلى وضع ضوابط واضحة لعمل الشركات متعددة الجنسيات، بهدف منعها من احتكار السوق وضمان حرية الوصول إلى التكنولوجيا.[5]

خاتمة

لا أحد ينكر الدور الاقتصاديّ الإيجابي للشركات متعددة الجنسيات في الاستثمار الدوليّ وفي توفير منتجات ذات مزايا تنافسيّة، إلا أن تنامي دورها الحالي قد دق ناقوس الخطر أمام احتكارها للأسواق وقدرتها على التحكم به، ومن المتوقع أن تزداد قوتها وسيطرتها في المستقبل ليمتد نفوذها الاقتصاديّ إلى نفوذ سياسيّ واجتماعيّ.

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي