مدخل إلى علم الأنثروبولوجي وعلاقته بالفلسفة

مدخل إلي علم الأنثروبولوجي وعلاقته بالفلسفة

هل سألت نفسك يومًا عن أصل عادة ما موجودة حولك؟ عن تاريخ الإنسان البدائي وثقافته وهل من الممكن أن نقول إنها تطورت لثقافات نراها اليوم؟

هل تساءلت إن كان ذلك الإنسان الذي نلقبه بالـ«بدائي» يستحق ذلك اللقب أم لا؟ هل فكرت في التساؤل عن الفروق العرقية ومعناها؟

في أن هناك علم قد يهتم بأن يدرسك كفرد ويدرس التأصيل الحقيقي لأفكارك وطبيعة نشأتها؟
بل في أن ذلك العلم قريب منك إلى درجة إنك قد تتعرض له وأنت تشاهد فيلم تسجيلي ما مثلًا؟

الأنثروبولوجي (Anthropology) هو علم من خلاله نحاول أن ندرك أكثر ماهية الإنسان وسلوكه، فندرس الماضي والحاضر ونتخيل المستقبل من خلال أنماط وأفكار استخلصناها من نتائج دراستنا.

علم قادر على أن يحول رحلة سياحية لرحلة بحثية فيكون استمتاعك بالرحلة وتعرفك إلى ثقافة غيرك وتكوينك صداقات جديدة نواة بحث قوي ومهم.

في هذا المقال سأحاول أن أتكلم عن علم الأنثروبولوجي وتقسيماته، عن علاقته بالفلسفة وبعض العلوم الأخرى التي لا مفر من أن تتداخل معه، سأشير لبعض مفاهيمه المهمة -في موضعها- واسنخداماتها وبعض آلياته وفي النهاية سأشير إلى ارتباطه الوثيق بالفلسفة.

الإتيمولوجي (Etymology) -أصل الكلمة

تنقسم كلمة أنثروبولوجي لجزئين، الأول «أنثروب» (Anthrop) ويقصد به «الإنسان» والثاني لوجي (Logo) ويقصد به «علم»، أي أن ببساطة الكلمة تشير إلى «علم الإنسان»1، وأصل الكلمتين كل كلمة على حدة من اللغة الإغريقية، أما اجتماعهما معًا كمكون واحد فهو فعليًا محل جدلٍ بين البعض.

فاللفظ الأول نفسه (Anthrop) مذكور كصفة بشكل قريب جدًا في الأخلاق النيقوماخية (Nicomachean Ethics) لأرسطو (Aristotle) الفيلسوف اليوناني الشهير وكذلك اللفظ الثاني «لوجو»أو«لوجوس» وهو ما نراه متكررًا في كثير من الألفاظ الأخرى ذات الطبيعة العلمية مثل سيكو-لوجي، فارماكو-لوجي إلخ.

أما أول استخدام للفظ بشكله المعاصر فيرجع إلى كتابات ماجنس هنت (Magnus Hundt) وأوتو كازمان (Otto Casmann) حيث هم أول من دمجوا واستخدموا اللفظين بهذا الشكل ليعبروا عما نطلق عليه اليوم «الأنثروبولوجيا»2.

مجالات الأنثروبولوجي الأساسية

يبحث علم الأنثروبولوجي في الإنسان كما قلنا ويتطرق لجوانبه المختلفة ليفهمه في حاضره ومستقبله وماضيه، فيحاول أن يفهم كيف أدَّى «ما كان» إلى ظهور «ما هو كائن» وما يمكن أن يؤدي إلى ظهوره بعد ذلك «ما سيكون»، وفي إطار ذلك قُسِّمَ لأقسام رئيسية حسب اختلاف الطبيعة البحثية والتخصص، تنتهج كلٌّ منها طرقًا بحثية مختلفة قادرة على التداخل مع بعضها ومع غيرها، ولا تذكر تلك الأقسام بنفس الشكل التالي دائمًا.

ففي بعض الأحيان يمكن أن يُدمَج قسمٌ مع آخر في كتاب أو ينقسم قسم مذكور لاثنين. مثال على ذلك الأنثروبولوجيا الثقافية الاجتماعية التي يمكن أن تنقسم لأنثروبولوجيا ثقافية وأنثروبولوجيا اجتماعية، لذلك حرصت في بحثي وتجهيزي لهذا المقال على أن أستخدم التقسيم الأنسب والأكثر استخدامًا على مستوى الاطلاع البحثي الذي قمت به أثناء إعداد هذا المقال وهو كما سيلي

الأنثروبولوجيا الثقافية والاجتماعية (Sociocultural Anthropology)

يتعامل علم الأنثروبولوجي في دراساته مع العلوم الإنسانية والطبيعية لدراسة واقع وطبيعة الأفراد والمجتمعات وتنوعاتها، وكل ذلك في النهاية بهدف دراسة الفرد والمجتمع وتنوعاته الثقافية، بل وماهية الثقافة نفسها، ويمكن الملاحظة هنا لطبيعة التساؤل الفلسفية نفسها.

ويعتبر هذا الفرع هو الأقرب للعلوم الإنسانية والأكثر إدراكًا لدى الكثيرين، وهو كذلك الأكثر خلطًا مع علوم أخرى، خاصةً علم الاجتماع، كونه هو كذلك يدرس الاجتماع، والحقيقة أن علم الاجتماع يتداخل مع الأنثروبولوجيا الثقافية الاجتماعية بشدة نتيجة لطبيعة كلٍّ منهما.

وفي هذا الفرع يمكن أن يستمد الباحث معلوماته بأساليب عدة في الاستفاضة عنه، سنستفيض عن اثنين منها كالآتي:

الاندماج داخل الثقافة (Cultural Immersion)

وفيه يندمج الفرد داخل الثقافة التي يريد دراستها ويحاول أن يكون جزءًا منها، فنرى مثلًا الباحث البولندي برونسيلاف مالينوفسكي (Bronislaw Malinowski) يقضي عامين في جزر تروبرياند (Trobriand Islands) -جزء من دولة بابوا غينيا الجديدة- وفي العامين يتعلم لغتهم ويدرس التقاليد الاجتماعية والدين والأفكار السحرية والزراعة، إلخ، ليصدر كتابًا هو نتاج بحثه خلال العامين3. ونتاج ما فهمه عن ذاك المجتمع أو ما يطلق عليه «إثنوغرافيا» (Ethnographic) ذلك المجتمع، وإثنوغرافيا هو لفظ يشير للوصف العلمي الناتج من البحث الأنثروبولوجي تجاه ثقافة أو مجموعة معينة بعينها من الناس.

في ذلك الاندماج لا يقدر -ولا يرجح- الفرد عادةً أن يعتمد على نفسه بالكامل، ولذا عادةً يجد الباحثون أفرادًا ليكونوا ما يشبه «المخبرين» (Informants) وهؤلاء الأفراد يكونون محبين للحوار مع الغرباء، فيحكون لهم عن تفاصيل المجتمع الخاصة والدقيقة -أي أشخاص ثرثارة ببساطة-، ولكن يعيب ذلك الأسلوب هو صعوبة تجنب انحيازات هؤلاء الأفراد أنفسهم، فما ينقلوه في النهاية هو تصورهم عن المجتمع وليس بالضرورة حقيقته، فالباحث الأنثروبولوجي لا مفر لديه من أن يدرك -ويواجه- مفاهيم فلسفية إنسانية عميقة مثل إشكالية «الذهن والواقع».

وتلك الإشكالية تواجه الكثير من الباحثين على أرض الواقع أنفسهم، فهم حين يبحثون في أمرٍ ما يجب أن يدرسوا الواقع والذي فيه يكون اتجاه المعلومة من الخارج إليهم، ومن ثم عندما يكتبون أبحاثهم تخرج المعلومة منهم إلى الورق، وفي المنتصف تحدث عملية معالجة تحليلية تتداخل فيها تجاربهم ومعارفهم الأخرى التي لا مفر من وجود انحيازٍ فيها مع المعلومة ذاتها لتنتج ما نطلق عليه «المعرفة».

وتلك الإشكالية بالذات تتواجد عند المخبر كذلك، ولذا يرجح تعدد هؤلاء المخبرين لتجنب تلك الإشكالية معهم أنفسهم، وبينما يحكي المخبرين عن مجتمعهم وغيرهم، فنجد بعض الباحثين يعتمدون كذلك في أبحاثهم على أفراد يحكون قصصهم وتجاربهم الخاصة التي تمثل إثنوغرافيتهم الخاصة والفردية التي تشارك في تكوين إثنوغرافية المجتمع ككل.

صعوبة فكرة الاندماج داخل الثقافة نفسها تكمن بالتأكيد أكثر وأكثر في تكوين تصورات طويلة وخرائط تربط المعلومات المجمعة وعلاقتها ببعضها، بل وعلاقة مصدرها نفسه بغيره من المصادر الأخرى، وهو ما يحتاج إليه الباحثون لأن يضعوه في شكل كتابات ورسومات ليتكون في النهاية أنماط يمكن الاعتماد عليها وفهمها.

الدراسة عن بعد

تختلف هذه الطريقة عن سابقتها في أن الفرد يدرس المجتمع بدون أن يكون جزء منه، فيعتمد مثلًا على الكتب والإنتاجات الأدبية التي صدرت منه أو يبحث عن صديق مراسلة من ذلك المجتمع مثلًا، وهو أسلوب بحثي يستخدم ويُحبَّذ عادةً عندما لا يُتاح فرصة وتمويل السفر كما هي الحالة في قصة سيدة الأوجيباوا (The Ojibwa woman) -وقد أشارت إليها الباحثة العربية بجامعة كنت فرح حلبة في برنامجها المبسط لمفاهيم الأنثروبولوجي-، في هذه الدراسة أعتمدت الباحثة روث لانديز (Ruth Landes) على إحدى السيدات التي تعرفت إليها واسمها ماجي ويلسون (Maggie Welson) وهي من تلك القبيلة، فاتفقت معها على أن تحكي سيدات قبيلتها قصصهم لها، وتكتب هي جوابات تتضمن تلك القصص والحكايات، وترسلها لروث في مقابل دولار واحد عن كل جواب.

بهذه الطريقة نجحت روث لانديز في أن تكتب كتاب  سيدة الأوجيباوا، الذي تضمن دراستها عن تلك القبيلة اعتمادًا في الأساس على تلك الرسائل.

كذلك هناك من يعتمد -كما أشرت- على الكتب والإنتاجات الأدبية لدراسة ثقافة أخرى، ولو حتى من «حقبة سابقة»،
فالكتب في تلك الحالة تكون هي «جوابات» تلك الحقبة، ودراسة رسائل وكتابات الكاتب ومعرفة تفاصيل حياته تساعد في فهم كتاباته بشكلٍ أعمق ومهم هاهنا مرة أخرى ألا يتم الاعتماد على فرد/كاتب واحد بسبب نفس مشكلة «الذهن والواقع» السابق ذكرها، بل والبحث عن تنوع ما بين الكتاب وتحديد ما يهدف إلى دراسته بدقة للتركيز عليه، فليس بالضرورة أن يكون الموضوع يتكلم عن تصور إثنوغرافي متكامل لتلك الفترة، بل قد يكون الموضوع هو دراسةٌ لجانبٍ بسيطٍ جدًا ومحددٍ بدقة مثل طقوس الزواج  في المدينة في عصر الخلافة الإسلامية الراشدة مثلًا.

الأنثروبولوجيا البيولوجية (Biological Anthropology)

كجزء من علم الأنثروبولوجي، يتم هنا دراسة الإنسان بالتأكيد، ولكن يتم كذلك الاستفادة بقوة من العلوم الطبيعية، وبالأخص علم الأحياء، وبشكلٍ أكثر خصوصية في كثير من الأحيان، علم التطور.

ينظر هذا المبحث للإنسان باعتباره جهازًا عضويًّا يمكن منه إلقاء نظرة على تاريخه ومعرفة «قصته»، وفي الحقيقة كلنا قد شاهدنا تطبيق ذلك العلم على التلفاز في مرحلةٍ ما في حياتنا، فببساطة، عندما نشاهد مسلسلًا تلفازيًّا عن الجرائم ونرى الجثة يتم تحليلها والبحث فيها لمعرفة تفاصيل عن كيف ماتت، بل وكيف عاشت، ذلك مثالٌ واضح على الأنثروبولوجيا البيولوجية، فحال الكبد مثلًا يمكن أن يعبر عن إدمان الشخص للخمر وأمثلة أخرى كثيرة من مثل هذا القبيل بالتأكيد.

يهتم هذا المبحث بدراسة الجسم البشري، -الحي أو الميت- وبالشكل التشريحي للأفراد سواء في هذه اللحظة أو في السابق أو الاثنين، فيجيب مثلًا عن تساؤلاتٍ مثل ماذا اختلف في الماضي ليوجد أطفال في قرية لا يكتمل نمو جهازهم التناسلي حتى سن الثانية عشر4 ، أو ما هي طبيعة الاختلافات العرقية وحقيقتها، وهو التساؤل الذي نجح في إعطاء سمعة سيئة للعلم ككل، وليس من فراغ لسوء الحظ.

ففي القرن الماضي، كان يتم فعلًا النظر لأعراق بشرية باعتبارها «أدنى» من غيرها، وكانت توضع في حدائق بشر -مثل حدائق الحيوانات اليوم- بل وتدرس فيها باعتبارها نظرة على مجتمعاتها، فنجد أفرادًا يُخطفون من بلادهم الأصلية ويوضعون في تلك الحدائق لإمتاع الآخرين ولدراستهم5 فهم يعبِّرون عن تلك المجتمعات البدائية المنتمية إلى الماضي، أليس كذلك؟

في الحقيقة لا، فحتى بعض المجتمعات البدائية نفسها تعتبر فعليًا نسخة متطورة من ماضٍ آخر ولكن في اتجاهٍ آخر يختلف عن ذلك الذي نعتاده، وهذا ما يجعل بعض الباحثين اليوم ينفرون من استخدام لفظ «بدائي» (Primitive) باعتباره غير دقيق، وبالتأكيد ينفرون من فكرة حدائق البشر التي وإن ساعدت في تطور البحث الأنثروبولوجي يومًا ما فقد فعلت ذلك في إطارٍ أبعد ما يكون عن مفاهيم الإنسانية المعاصرة.

وفي لحظةٍ مثل اليوم مثلًا في وسطِ وباءٍ عالمي، يمكننا أن نجد باحثين أنثروبولوجين يحاولون أن يجيبوا عن لِمَ جماعات بعينها قد تكون أكثر عرضة للتأثر بالفيروس عن غيرهم مثلًا، وفي إطار ذلك يدرسون مناعة أفراد تلك الجماعة والمشترك في تشريحهم وجيناتهم وتأثير الأدوية عليهم، إلخ، ومثالٌ على ذلك: كيف درس الباحثون الأنثروبولوجيون انتشار الإيدز في كاليفورنيا عام 1980، وتأثير المشترك في معتقدات وعادات المثليين في تلك الفترة، دامجين في ذلك الأنثروبولوجيا البيولوجية مع الاجتماعية الثقافية للوصول للإجابة3.

أنثروبولوجيا الآثار (Archaeological Anthropology)

وهنا يتم دراسة الآثار ذاتها، ومنها يتم محاولة فهم الإنسان من خلال ما حوله، فنبحث في كيف طور أدواته وفيم استغلها وكيف أثر ذلك عليه على مدار العصور، فنجد الكثير من الدلالات في الأشكال المعمارية وفي الأدوات اليومية البسيطة من أدوات صناعة الطعام والزراعة وصناعات الحديد، إلخ.

الباحث الأركيولوجي هاهنا لا يدرس فقط تلك الآثار ظاهريًا، بل يدرس مكوناتها الكيميائية، وكيف تداخلت واُستخدمت ليكوِّن تصورًا أعمق وأكبر عن طبيعة المجتمع في اللحظة التاريخية -وهي الاهتمام الأساسي له بالتأكيد هاهنا-.

بل كذلك يبحث هاهنا في صحة انتماء ذلك الآثر لحقبة ومجتمع بعينه من الأساس ليبني عليه بعد ذلك،
وهاهنا من المفهوم تداخل ذلك القسم مع علم التاريخ وأن يكون الباحث الأنثروبولوجي هو كذلك باحث في علم التاريخ و/أو باحث في علم الكيمياء كذلك.

ورغم أن الاهتمام الأساسي تاريخي هاهنا كما أشرنا، فنجد بعض الباحثين يستفيدون من ذلك القسم في دراسة المجتمعات الحالية بشكلٍ أكبر، فينظرون مثلًا إلى كيفية صناعتهم أدواتهم والأساليب والمواد المستخدمة في ذلك.

أنثروبولوجيا اللغات (Linguistic Anthropology)

يمكن اعتبار اللغة أكبر مميزات الجنس البشري، فهي وسيلة للتواصل والتفاهم تسمح للمجتمعات أن تتكون وأن تتعاون بشكل لا يوجد بهذه القوة في المملكة الحيوانية كلها إلا عند البشر، وذلك الشكل هو الذي ساعد أن يسيطر البشر بتعاونهم ومؤازرتهم لبعضهم بعضًا ليكونوا حضارةَ اليوم التي تسيطر على كوكب الأرض.

كذلك اللغة والكتابة -باعتبارها امتدادًا للغة- هما ما ساعدا على تناقل الخبرات والمعارف على مدار العصور، ولكن لك أن تتساءل هنا، هل يمكنك من الأساس أن تفكر في موضوعٍ ليس له لفظ أو طريقة للتعبير عنه في لغة تعرفها؟

من التساؤل السابق ومن ملاحظتنا لأثر اللغة وتعاملنا بها في كل شيء حولنا، يمكننا أن ندرك أهميتها وعظمة ذلك الاختراع الذي آلفناه، وكيف يمكن أن تؤثر على المجتمعات وتطورها بشكل عظيم، فمثلًا غياب ألفاظ التذكير والتأنيث أو التمييز الجندري قد يؤثر على تعامل المجتمع تجاه الجنسين، والسؤال العلمي هنا هو متى يؤثر وكيف يؤثر وهنا «إحدى» الجوانب التي تتضح فيها أهمية أنثروبولوجيا اللغات.

يدرس الباحثون هاهنا لا فقط اللغةَ وقواعدها وتاريخها، بل كذلك الأصوات وقدرة المتكلمين بها على إصدار تلك الأصوات، يدرسون الخطوط وسهولة الكتابة وتناقل المعلومة ونسبة تناقلها ذاتها ليحاولوا أن يدركوا طبيعة المجتمع أكثر وأكثر.

فلسفة الأنثروبولوجيا (Philosophy Of Anthropology)

يقول إمري لاكاتوس (Imre Lakatos) -عالم رياضيات وفيلسوف مجري-

«تكون فلسفة العلوم فارغةً بدون تاريخ العلوم، ويكون تاريخ العلوم بلا معنى بدون فلسفة العلوم».

لا حاجة للبدء في تفصيل كيف أن الفلسفة هي أم العلوم، وكيف انبثقت منها الكثير من العلوم، فهذا أمرٌ له محلٌّ آخر قد يطول الكتابة فيه وليس هو ما يهم هنا، فما يهم هو طبيعة العلاقة الخاصة بين العلم الأنثروبولوجي بكل أقسامه والفلسفة وهي العلاقة التي أدت لوجود قسم يطلق عليه فلسفة الأنثروبولوجيا.

تداخل المجالين الفلسفي والأنثروبولوجي محل مناطق كثيرة، ومما يمكن أن نشير إليه مثلًا هو تعرض باحثي الأنثروبولوجي كثيرًا لأسئلة حول ماهية الأشياء وإطلاقيتها أو نسبيتها، فعند دراسة أمر مثل القواعد الأخلاقية في بيئة ومجتمع ما سيتعرض الباحث الأنثروبولوجي لسؤال عن ماهية الأخلاق، وفي دراسته اختلاف أخلاق ذلك المجتمع عن غيره، بل ونقاط التشابه كذلك سيتعرض لأمور مثل نسبية وإطلاقية الأخلاق وهي أسئلة تحاول أن تسبر أغوارها الفلسفة منذ زمن، وهاهنا إحدى المساحات المستغلة للفلسفة الأنثروبولوجية والتبادل المشترك متعدد الاتجاهات، فنجد علم الأنثروبولوجي يستفيد من الإرث البحثي الطويل للفلسفة في الأمر عند التفكير فيه، والفلسفة تستفيد من الدراسات الأنثروبولوجية الجديدة وما نتج عنها لاستخدامه، وفي نفس إطار الكليات وجدل المطلق بعيدًا حتى عن الأخلاق نجد ادعاءاتٍ أنثروبولوجية تستدعي الإرث الفلسفي كثيرًا، فمثلًا برونسيلاف مالينوفسكي يقول:

«كل ثقافة يمكن تحليلها إلى الجوانب التالية: الاقتصاد، والسياسة، وآلية القانون والعادة، والتعليم، والسحر والدين، والتكاثر، والمعرفة التقليدية، والتكنولوجي، والفن. وكل الثقافات البشرية يمكن أن تقارن تحت هذا التقسيم»6

فيما سبق يحاول برونيسلاف أن يرسم صورة «كلية» وفيها يتكلم عن جوانب مطلقة من حيث وجودها في كل ثقافة وذلك في ذاته يناقش في إطار مسائل مختلفة -مثل الإطلاق والنسبية-، ولكن حتى في إطار مستويات من التعريف لطالما كان احتكاكها الأساسي مع الفلسفة، حتى عند النقاش اللغوي، فتعريف الثقافة ومستوى التجريد الممكن استخدامه في ذلك التعريف أمر يدخل فيه التفكير الفلسفي وكذلك بقية النقاط بل والتداخل ما بينها لا مجرد تعريف كل منها، وإن كان من الممكن دمج مسألتين مثلًا أم لا.

علاقة الفلسفة بالأنثروبولوجي تقوم على نواحٍ عدة، منها على منهجية العلم نفسه وطبيعة تساؤلاته وطبيعة الأحكام الممكن استخلاصها منه في النهاية وإشكاليات ذلك، فمشكلة «الذهن والواقع» السابق ذكرها هي فعليًا مشكلة فلسفية تظهر في مختلف العلوم وبقوة أكبر في علم الأنثروبولوجي وتؤسس لتحديد وتغيير المنهج فيه، ولذا من المفهوم أن يهتم باحث الأنثروبولوجي بالقراءات والتحليلات الفلسفية أو يحصل على شهادة فيها ليساعد نفسه أكثر على أن يتحرك من مساحة راصدة في الأساس إلى مساحة تستخلص معرفة حقيقية من ذلك الرصد الممنهج والمسجل بشكل أكثر قوة.

وفي النهاية، فعلم الأنثروبولوجي اليوم هو من أهم العلوم التي تحاول أن تفهم «الإنسان» ذاته بشكل أعمق وبتنوعاته سواء على مستوى الاختلاف أو التشابه، وهذا ما يجعله علمًا مفيدًا جدًا الاطلاع عليه لكثيرٍ منا، وقادر على إعطاء عمق آخر لكثيرٍ من المواضيع التي نبحث ونفكر فيها، ولكننا مع ذلك نرى المحتوي العربي فيه شحيحًا جدًا، ولعل هذا المقال يكون مدخلًا للاطلاع عليه أكثر والاستزادة منه، فهو بالتأكيد يستحق ذلك.

المراجع:
1. Sociocultural Anthropology | Department of Anthropology | University of Washington [Internet]. [cited 2020 Mar 31]. Available from: https://anthropology.washington.edu/fields/sociocultural-anthropology
2. Medicine II of the H of. Koroth. BRILL; 1952. 284 p.
3.:: Intro to Anthro :: [Internet]. [cited 2020 Mar 31]. Available from: http://individual.utoronto.ca/boyd/anthro4.htm
4.Dockrill P. In This Remote Village, Some Boys Don’t Grow a Penis Until They’re 12 [Internet]. ScienceAlert. [cited 2020 Mar 31]. Available from: https://www.sciencealert.com/remote-town-in-the-dominican-republic-some-girls-turn-into-boys
5.Sánchez-Gómez LA. Human Zoos or Ethnic Shows? Essence and contingency in Living Ethnological Exhibitons. Culture & History Digital Journal [Internet]. 2013 Dec 30 [cited 2020 Mar 31];2(2):022. Available from: http://cultureandhistory.revistas.csic.es/index.php/cultureandhistory/article/view/31
6. Edel A. Some Relations of Philosophy and Anthropology*. American Anthropologist [Internet]. 1953 [cited 2020 Apr 1];55(5):649–60. Available from: https://anthrosource.onlinelibrary.wiley.com/doi/abs/10.1525/aa.1953.55.5.02a00050

 

 

 

شارك المقال:
0 0 votes
Article Rating
1 تعليق
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي