علم الفلك عند سرعة الضوء

الفضاء
 علم الفلك عند سرعة الضوء|||

يسعى علماء الفلك إلى مراقبة الكون بتقنيات متقدمة، وعندما يبتكر الباحثون طريقة للبحث، ينتج عن ذلك جمع معلومات جديدة ويتعمق الناس في فهم الكون.  في أبريل 2016 أعلن كلٌّ من داعم العلوم المستثمر (يوري ميلنر) والرئيس التنفيذي لموقع الفيسبوك (مارك زوكربيرغ)  والعالم الفيزيائي الراحل (ستيفن هوكينج) عن برنامج يهدف لإرسال الكاميرات إلى ما بعد النظام الشمسي، ويسمى هذا البرنامج (Breakthrough Starshot).

فكرته هي إرسال مجموعة من المركبات الفضائية الصغيرة إلى أقرب جار نجمي للشمس، وهو نظام (ألفا سنتوري – Alpha Centauri) ذو الثلاث نجوم، وستسافر المركبات الصغيرة بسرعة تقدر بنحو 20% من سرعة الضوء -أي بسرعة تصل إلى 100 مليون ميل في الساعة- وستستهدف المركبة وكاميراتها الصغيرة أصغر نجم في النظام وهو (بروكسيما سنتوري – Proxima Centari)، بالإضافة إلى الكوكب الذي يدور حوله (بروكسيما ب – Proxima b)، ويبعد هذا النجم عن الأرض بمسافة قدرها 4.26  سنوات ضوئية.

يعتمد هدف فريق (Breakthrough Starshot) على عدد من التقنيات التي لم تثبت بعد. وتتمثل الخطة في استخدام (الأشرعة الضوئية – light sails) للوصول بهذه المركبات الفضائية إلى سرعات عالية لم يسبق الوصول إليها، حيث سيحرك الليزر من على سطح الأرض تلك السفن الصغيرة من خلال دفع شراعها الفائقة الرقة.

ولديّ فكرة أخرى وهي استغلال هذه التكنولوجيا بينما يستعد المشروع، حيث يمكن للباحثين أن يحصلوا على بيانات قيّمة من هذه المراصد المتنقلة، وبالتالي يمكن اختبار نظرية أينشتاين -النسبية الخاصة- بشكل مباشر، وذلك قبل أن يصلوا حتى إلى أي مكان قريب من الهدف الأساسي -ألفا سنتوري-.

 

التحديات الفنية

إن تحقيق هدف (Breakhotrough Starshot) ليس مهمة سهلة بأيَّةِ حال من الأحوال، حيث يعتمد المشروع على التطوير التكنولوجيّ المستمر لثلاث جبهات مستقلة.
من ضمن التحديات، أن الباحثين سيحتاجون إلى تقليل حجم المكونات الإلكترونية الدقيقة ووزنها بشكل كبير لتصنيع الكاميرا، فمن المخطط ألَّا يزيدَ حجم كل (مركبة نانوية – nanocraft) عن عدة جرامات وهذا يجب أن يشمل كل الحمولات بما فيها إمدادات الطاقة ومعدات الاتصال والكاميرا وسيكون هناك تحدٍ آخر يتمثل في بناء مواد رقيقة خفيفة جدًّا وعاكسة بدرجة عالية للعمل بمثابة الشراع للكاميرا، وأحد الاحتمالات هو أن يُستعان بمادة (الغرافين – graphene)  ذات طبقة واحدة بسمك جزيء، أي بسمك 0.345 نانومتر فقط.

وسيستفيد فريق (Breakthrough Starshot) من ارتفاع الطاقة وانخفاض تكلفة أشعة الليزر، وسيحتاج المشروع إلى ليزر بقوة 100 جيجاوات لتسريع الكاميرات من الأرض، فكما تملأ الرياح الجوية أشرعة المراكب الشراعية وتدفعها للأمام، تستطيع الفوتونات من شعاع ليزر عالي الطاقة أن تدفع شراعًا خفيفًا جدًّا وعاكسًا إلى الأمام ومن ثَمَّ ترتد هي إلى الخلف ومع معدل التطور التكنولوجيّ المتوقع، فمن المرجح أن يمر عقدان آخران على الأقل قبل أن يتمكن العلماء من إطلاق كاميرا تسير بسرعة تبلغ نسبة كبيرة من سرعة الضوء، وحتى لو كان بالإمكان بناء هذه الكاميرا وتسريعها، فيجب التغلب على العديد من التحديات الأخرى لتحقيق حلم الوصول إلى نظام (ألفا سنتاوري).

فهل يمكن للباحثون توجيه الكاميرات بشكل صحيح حتى يصلوا إلى نظام النجوم؟ وهل تستطيع الكاميرا البقاء على قيد الحياة لمدة 20 عامًا تقريبًا دون التعرض لأيّ تلف؟ وإذا تمكنت من التغلب على الصعاب والسير على ما يرام، فهل من الممكن نقل البيانات -مثل الصور- إلى الأرض على مسافة كبيرة كهذه؟

 

عرض مفهوم النسبية في علم الفلك

أنا ومعاونتي (كونيانغ لي – Kunyang Li) -طالبة الدراسات العليا في معهد جورجيا للتكنولوجيا- نرى الإمكانية في جميع هذه التقنيات حتى قبل أن تكون متقنة ومجهزة للتوجه إلى (ألفا سنتوري).

عندما تنتقل كاميرا في الفضاء على مقربة من سرعة الضوء -ما يمكن تسميتها بالسرعة النسبية-، فإن نظرية النسبية الخاصة لأينشتاين تلعب دورًا في كيفية تعديل الصور التي تلتقطها الكاميرا، حيث تنص نظرية أينشتاين على أنه في الأطر الساكنة المختلفة يمتلك المراقبون مقاييس مختلفة لأطوال المكان والزمان، أي أن المكان والزمان نسبيان، ويعتمد مدى اختلاف المراقبين في قياس الأشياء على السرعة التي يتحركوا بها نسبة إلى بعضهم البعض وهي ما تُدعى بالسرعة النسبية، فإذا كانت السرعة النسبية قريبة من سرعة الضوء، فقد تختلف ملاحظتهما بشكل كبير.

يوضح تأثير (دوبلر كيف) أن المصدر الذي ينتقل بعيدًا عنك ستزيد أطوال موجات ضوئه ويصبح أكثر احمرارًا، بينما إذا كان يقترب منك فإن الأطوال الموجية ستقصر وتبدو أكثر زرقة.  المصدر: Aleš Tošovský CC BY-SA 4.0
 

تؤثر النسبية الخاصة أيضًا على العديد من الأشياء الأخرى التي يقيسها الفيزيائيون -على سبيل المثال- تردد الضوء وشدته وكذلك الحجم الذي يبدو عليه جسمٌ ما.

في الإطار الساكن للكاميرا، يتحرك الكون بأكمله بسرعة تمثل نسبة معتبرة من سرعة الضوء في الاتجاه المعاكس لحركة الكاميرا نفسها. فبالنسبة لشخص على متن هذه المركبة سيكون هناك اختلاف بينه وبين شخص آخر على الأرض في اختبار الزمكان حيث إن الضوء القادم من نجم ما أو مجرة ​سيبدو أكثر ميلًا للون الأزرق وأكثر سطوعًا ومضغوطًا في حيّز أصغر، كما أن مسافة الزاوية بين جرمين ستبدو أصغر، وتتمثل فكرتنا في الاستفادة من سمات النظرية النسبية الخاصة هذه في مراقبة الأشياء المألوفة في إطار الزمكان النسبي المختلف الساكن للكاميرا، فيمكن هذا أن يوفر أسلوبًا جديدًا لدراسة علم الفلك وهو ما نسميه (علم الفلك النسبي – relativistic astronomy).

 

ما الذي يُتوقع أن تلتقطه الكاميرا؟

سوف تعمل الكاميرا النسبية بشكل طبيعي كمرسام للطيف، مما يتيح للباحثين النظر إلى شريط ضوئيّ ينزاح ناحية الأحمر، وكذلك ستعمل كعدسة تضخم كمية الضوء التي تجمعها، وستعمل ككاميرا واسعة المجال، مما يتيح لعلماء الفلك مراقبة المزيد من الأجرام داخل مجال الرؤية نفسه للكاميرا.

مثال على الانزياح الأحمر: على اليمين تظهر خطوط الامتصاص بالقرب من النهاية الحمراء للطيف المصدر: George Wiora CC BY-SA 4.0

إليك مثال على نوع البيانات التي يمكننا جمعها باستخدام الكاميرا النسبية نظرًا لتوسع الكون، فعندما يصل الضوء الصادر من الكون المبكر إلى الأرض فإنه يصبح أكثر احمرارًا عما كان عليه في البداية. ويسمّي الفيزيائيون هذا التأثير (الانزياح نحو الأحمر -redshifting)، فعند انتقال الضوء فإن الطول الموجيّ له يتمدد مع توسع الكون، ويمتلك الضوء الأحمر  طولًا موجيًّا أطول من الضوء الأزرق، كل هذا يعني أنه لرؤية الضوء المنزاح  للأحمر الصادر عن الكون المبكر يجب تجميع الأطوال الموجية للأشعة تحت الحمراء الصعبة ملاحظتها، ولكن بالنسبة للكاميرا النسبية -أي الكاميرا التي تتحرك بسرعة قريبة من سرعة الضوء-، فإن هذا الضوء المزاح للأحمر يصبح أكثر زرقةً -أي أنه يصبح مزاحًا للأزرق-، حيث إن حركة الكاميرا ينتج عنها تأثير مضاد يلغي تأثير توسع الكون على الضوء. وبالتالي يمكن لعالم فلك التقاط هذا الضوء باستخدام كاميرا عادية تلتقط الضوء المرئيّ المألوف. كما يزيد (معزز أثر دوبلر – Doppler boosting effect) من شدة الضوء الخافت الصادر عن الكون المبكر، مما يساعد على التقاطه.

إن رصد الملامح الطيفية للأجسام البعيدة يمكن أن يتيح لنا الكشف عن تاريخ الكون المبكر، وخاصة كيف تطور الكون بعد أن أصبح شفافًا بعد 380,000 سنة من الانفجار الكبير.

هناك جانب مثير آخر لعلم الفلك النسبيّ هو أن البشر يستطيعون مباشرةَ اختبار مبادئ النسبية الخاصة باستخدام القياسات العيانية لأول مرة، وبمقارنة الملاحظات التي جُمِعَت من على الكاميرا النسبية وتلك التي جُمِعَت من الأرض، يمكن للفلكيين أن يختبروا التنبؤات الأساسية لنسبية أينشتاين فيما يتعلق بتغيير التردد والتدفق واتجاه انتقال الضوء في أُطُر ساكنة مختلفة بدقة.
مقارنة بالأهداف النهائية لمشروع (Starshot)، فإن مراقبة الكون باستخدام كاميرات نسبية يجب أن تكون أسهل.

لن يحتاج علماء الفلك إلى القلق بشأن توجيه الكاميرا، حيث قد نحصل على نتائج مثيرة للاهتمام عند إرسالها في أي اتجاه، كما أن مشكلة نقل البيانات ربما ليست عويصة إلى هذا الحد، حيث إن المسافات لن تكون كبيرة، وينطبق هذا أيضًا على الصعوبة التقنية اللازمة لحماية الكاميرا.
ونعتقد أن تجربة استخدام الكاميرات النسبية للرصد الفلكيّ يمكن أن تكون هدفًا رائدًا لمشروع (Starshot) بالكامل، حيث إنه سوف يكون للبشرية مرصد فلكي جديد لدراسة الكون بطريقة جديدة. ويشير التاريخ إلى أن فتح نافذة جديدة كهذه سيكشف النقاب عن العديد من الكنوز العلمية التي لم يُكشَف عنها من قبل.

المصدر

ترجمة: محمد عزت

مراجعة علمية: سارة سامر

تدقيق لغويّ: شروق محيي الدين

تحرير: هدير جابر

شارك المقال:

فريق الإعداد

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي