ناظم الغزالي.. ولا يزال عاشقًا ينتظرُ على جسرِ المسيّب

13
|||||||||||||||
ناظم الغزالي
المُطرب العراقي ناظم الغزالي.
المصدر: http://altahreernews.com

يتهيأ المسرح.. تستعد الفرقة الموسيقية.. يتأهب الجمهور، صمتٌ يعقبه صمتًا إيذانًا بانطلاق حنجرةٍ أتت من إحدى محلات بغداد القديمة، لتنثر ورود العراق على كل من عشقها وعشقته. يدخل رجلٌ بهي الطلعة، صافي الابتسامة، جميل الهندام، واثق الخطوة، مُمسكًا بتلابيب إبداعاته يسرسبها رويدًا رويدًا إلى الحاضرين، فتتعالى آهاتهم من فرط نشوة الفن، وجزالة الصوت، وعظمة الإحساس، وقوة التراكيب اللغوية واللحنية، إنه سفير الأغنية العراقية ناظم الغزالي.

ناظم الغزالي
ناظم الغزالي.
المصدر: www.youtube.com

لم يكن ناظم الغزالي مجرد مطرب صاحب صوتٍ جذّاب تتهافت عليه الآذان، بل فنان أثرى الفن العربي، درس القديم الأصيل منه وقدمه في ثوب جديد، عَبَر بالمقام العراقيِّ إلى رحاب آفاقٍ واسعةٍ، ساعدت على تثبيت أركان الموسيقى العراقية في البلدان العربية والتعريف بقيمتها الحقيقية عبر التغني بأشعار فحول الشعراء العرب.

سمراءُ من قوم عيسى

إنسان عمره البشري قصير، وعمره الفني أقصر، ولكأنه كان يحس ذلك حتى يعمد إلى الدراسة والمثابرة، والغرق في بحور الموسيقى، واصطياد الكلمات الشعرية باللهجة العراقية البغدادية منها والفصحى، ومصادقة اللحظات والثواني ومعاداة النوم، لينتج محصولًا فنيًا أطول من عمره، كأنه عقد مقايضة مع الزمن بقصر العمر مقابل طول الأثر؛ إذ مثلت كل كلمة غناها مزيدًا من الأنفاس له على أرض البشر.

صعوبةُ البدايات

مكتوفة اليدين، متحفزة الملامح، متجهمة الوجه، تلك حال الحياة حين أذِن رب الخلائق بميلاد «ناظم أحمد خضر الغزال» (1) في عام 1921م بحي «الحيدر خانة» (2) إحدى أحياء بغداد القديمة والفقيرة لأسرةٍ تنهش أيامها الفاقة ويفترس الفقر لياليها. نشأ الصغير بين أبٍ آثر الموتُ أن يسدل عليه ستائره ليرحمه من شقاء الحاجة، وأمٍ كتب القدر عليها أن تستشعر مرارة الأيام بعينين مغلقتين حيث العمى رفيق أيامها التي ما لبثت أن انتهت لتلحق بالأب وتترك الطفل ناظم تائهًا بين تلاطم أمواج سنينه الأربع.

ناظم الغزالي
ناظم الغزالي في طفولته.
المصدر: almustaqbal.com

تتكفل الخالة -التي تعاني من ضيق ذات اليد- بتربية ناظم الصغير وإلحاقه بالمدرسة المأمونية(3)، وفي الوقت نفسه يرعاه العم الذي أبصر عينه وعرّف قدمه على طريق الاحتفالات والموالد النبوية التي استرعت انتباه الغزال بجمال الموسيقى وبصفة خاصة الموسيقى العراقية ذات المقامات الأصيلة.

بمعاناة بالغة بطلها العَوَز، ينهي ناظم دراسته الابتدائية والمتوسطة، ويفكر في إشباع شغفه لحب الفن بالانضمام إلى معهد الفنون الجميلة، ليكون قسم التمثيل المسرحي مقصده وسبيله، وكان له من البراعة ما جعل الفنان العراقي الكبير «حقي الشبلي» يحتضنه حين رأى فيه مُمثلًا واعدًا يمتلك القدرة على أن يكون نجمًا مسرحيًّا(4).

ولأن سرعان ما تتبع مبكيات الحياة أفراحها في أيام ناظم الصعبة، تضطره الظروف القاسية إلى ترك الدراسة بالمعهد، والعمل لكسب قوته، فعُيّن مراقبًا في مشروع الطحين الصمون في أمانة العاصمة أثناء الحرب العالمية الثانية(5) ثم مٌشرفًا على الملاهي والكازينوهات والسينمات حيث تعرف في تلك الفترة على رفيق دربه بعد ذلك الموسيقار وعازف القانون «سالم حسين» حين جمعهما إعجابهما بصوت المطربة المصريَّة «آمال حسين» (6)

ناظم الغزالي
الغزالي خلال فترة التحاقه بفرقة الزبانية.
المصدر: arz.wikipedia.org

عاد ناظم مرة أخرى إلى معهد الفنون الجميلة لينتسب إليه من جديد، ويحتضنه الشبلي ثانية ويقدم له كل الدعم والمعاونة، ويلحقه بفرقته المسرحية بالمعهد، ويعهد إليه بعدد من الأدوار مكسُوَّة بأغانٍ أظهرت الموهبة الحقيقية التي تداعب حنجرة ناظم وهي الطرب والغناء.

كلمات أمير الشعراء «أحمد شوقي»: «هلا هلا هيا .. اطوي الفلا طيًّا» التي اختارها الشبلي لناظم لأدائها في مسرحية «مجنون ليلى» التقطتها الإذاعة العراقية لتمهد طريق الأمراء لناظم في قلوب مستمعيه.

خطوات متلاحقة في المسيرة الفنية

ظل ناظم الغزالي يقتفي طريق الطرب من باب موهبته التمثيلية، وذلك خلال فترة انضمامه لفرقة «الزبانية» التي ألفها مجموعة من طلاب المعهد كان هو من بينهم، ولكن ذلك لا يكفي.

فبعد نيف من الوقت اكتشف ناظم أن الطريق إلى الطرب لا يحتمل أيّ طريقًا آخر بجواره، وذلك حتي يستطيع سائره أن يكون عالمًا بكل مسالكه؛ إذ ذاك تتحقق المعرفة التّامة للفنان التي تساعده على صعود سٌلم النجاح بثقة أيَّما ثقة. ونتيجة لذلك، ترك التمثيل المسرحي ليتفرغ للغناء، ولم يكتف بذلك، بل انضم إلى فرقة الموشحات التي كان يديرها ويشرف عليها الموسيقار الشيخ «علي الدرويش» (7) مع كلٍّ من «رضا علي ويحيى حمدي ومحمد عبد المحسن»؛ حيث كانوا ضمن الرعيل الأول للفنانين، فاستطاع ناظم أن يستفيد من الموشح الأندلسي كما تعلّم الأنغام العراقية والبستات القديمة(8) لذلك لاقى استحسان عندما تقدم إلى اختبارالإذاعة والتليفزيون بين عاميّ 1947م و1948م(9).

ناظم الغزالي.
الغزالي مع أعضاء فرقته المسرحيّة.
المصدر: www.algardenia.com

سجَّل عام 1948م أول سفرة لناظم الغزالي خارج العراق، وكانت فلسطين أولى محطاته؛ إذ ذهب مع الوفد الفني للدعم المعنوي وشحذ همَّة الجيش العراقي والجيوش العربية المٌرابطة في فلسطين. والتقى هناك ب «عبد السلام عارف» الذي أصبح لاحقًا رئيسًا للجمهورية العراقية(10). فكان لهذه الرحلة أثر كبير في التعريف بصوت ناظم أكثر.

وبعودته إلى بغداد، ثابر ناظم في تعميق ثقافته الموسيقى من خلال الدراسة المُتعمقة تارة، وتارات أخرى عن طريق الاستماع، فقد كان مولع بأصوات كبار مطربي عصره من أمثال «أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وليلى مراد وأسمهان ونجاة علي» وغيرهم. إضافة لكل تلك الخطوات، كانت هناك أخرى حيوية في مشوار ناظم الفني، وهي تعرُفه بالملحن «جميل بشير» الذي أدرك بقدراته الموسيقية ملامح ومساحة صوت ناظم فكان خيرَ مهندس له.

ناظم الغزالي مُطرب مقام أم مطرب بستة؟

 عُرف العراق بتعدُد ألوانه الغنائية المختلفة؛ حيث نلاحظ من خلال الاختلاف والتنوُع ألوانًا شتّى من هذا الفن في الشمال أو الوسط أو الجنوب، ولكنها في الواقع تنبع في أصلٍ واحدٍ، ألا وهو المقام العراقي(11).

المقام العراقي هو أحد الألوان الغنائية العراقية التراثية، له قالب غنائي يتألف من أجزاء بها تسلسُل وتسميّات ثابتة ومعروفة، وفيها مواصفات المرونة عند الأداء؛ حيث يمكن أن تقبل شيئًا من الإضافات اللحنية أو الزخرفة، ولا تقبل أيّ حذفٍ كان. تشمل مجموعة المقامات العراقية بشكلٍ عامٍ قوالب وأشكال يمكن أن تكون متعددة ومُختلَف بعضها عن البعض الآخر، كذلك تشمل بين ثناياها أجزاء عديدة وكل منها يأخذ تسميته وموقعه حسب ما ورد في هذا الفن الغنائي، على أن هناك عدد من المقامات تحتوي على عدد أقل من الأجزاء وأقل من التسميّات(12).

ناظم الغزالي
الفنان الكبير محمد القبانجي المُعلم الأول للغزالي لفن المقام العراقي.
المصدر: facebook.com

ومنذ أن بدأت عينا وأذنا ناظم الغزالي تعيان الموسيقى، بدأ يتولّد داخله إعجابٌ كبيرٌ نحو الفنان العراقي «محمد القبانجي». إن القبانجي أبًا شرعيًا للموسيقى العراقية المعاصرة، حيث يعد القبانجي قائد مدرسة التجديد في المقام العراقي، والمُعلم الأول للمدرسة العراقية البغدادية الصميمة، وكان سر تعلق الغزالي بالقبانجي أن الأخير كان مُجددًا، والغزالي عاشق للتجديد والتطوير(13) وهو ما فعله في الأغنية العراقية، وكان ذلك إلى جانب تتلمذه على يد «روحي الخمّاش» أيضًا، فأخذ ينهل منهما فنون المقام العراقي ما استطاع.

ولأن الغزالي كان عاشقًا للمقام؛ لم يكتف بما يتعلمه من مُعلميه، فقد كان تلميذًا نهم عاشق للاطلاع والتعرُف على كل ما يخص الموسيقى، فقرر أن يدرس كل المقامات الموسيقية السهلة منها والصعبة.

أقولُ وقد ناحت بصدري حمامةٌ (مقام لامي)

ولكن كل ذلك لم يمنع إشاعات أعداء نجاحه، فحاربوه انطلاقًا من هذه النقطة، فقد أشاع البعض أن ناظم الغزالي مُطرب بستات وليس مطرب مقام -والبستات هي من نفس جنس النغمة الأساسية للمقام ويٌترك للمجموعة أداؤها ترفُّعًا من قبل المطربين- والحقيقة التي جهلها هؤلاء البعض أن هذا النقد الذي تعرض له كان في الأساس نقطة اختلافه وتجديده وشهرته، فقد استوعب الغزالي سر ذوق الجماهير، وهو ليس المقام بل الأغنية البسيطة التي تصل إليهم بسهولة باستخدام مقامات متنوعة، وبالتالي فَهِم الغزالي المقام والبستة جيدًا وأعطاهما بُعدًا جديدًا ساهم في استمرار اسمه حتي اليوم(14). وفوق كل ذلك، كان الغزالي مُسجَلًا كمطرب للمقام العراقي في الإذاعة العراقية.

ذكاءٌ فنيّ وعبقريةٌ صوتية

تمتَّع ناظم الغزالي بمقدرة صوتية غير عاديّة، فقد حباه الله جوابًا وقرارًا في الصوت مكّناه من استيعاب كل المقامات في حنجرته؛ حيث صُنف صوته باعتباره صوت حاد وقع بين منطقتي التينور والسوبرانو، وكانت نتيجة ذلك شكل جديد من الغناء عاد نفعه على الغناء العراقي بأسره، فقد أهدى الغزالي الموسيقى العراقية أغنية خفيفة مثّلت نقطة تحوُل في الأغنية العراقية من الرتابة إلى نوعٍ جديدٍ تنتقل فيه المُفردة من مقام إلى آخر برشاقة على أذن المستمع(15).

ناظم الغزالي
الغزالي مع رفيق دربه سالم حسين.
المصدر: http://almadasupplements.com

استفاد المطرب ناظم الغزالي من موهبة ناظم الغزالي المُمثل؛ فاستطاع أن يُرضي رغبات الشعراء القُدامي والمعاصرين الذين تغنّى بأشعارهم في توصيل كل حرف كتبوه على الورق، ليس فقط من خلال صوت عذب يحمل أحاسيس جيّاشة، ولكن أيضًا بتعابير وإيحاءات جسدية تصف ذلك أدق الوصف، وهو ما فعله على أكمل وجه عن طريق حركات يديه وانفعالات وجهه ونظرات عينيه.

كما نلاحظ شخصيته المسرحيَّة الواضحة من خلال مراقبة مدى انضباط حركته على المسرح، والاتجاهات التي يتحرك فيها، وكأنه صنع لنفسه خطوطًا وهميّة يسير عليها ولا يحيد عنها، حيث كان يقف في أماكن مُحددة درسها قبلًا دراسةً جيدةً كأنما يمثل على خشبة المسرح، وبالتالي نجد أن الغزالي لم يكن يترك شيئًا للصدفة أو العبثية، ولكنه ترك لمن جاء بعده إجابة عن تساؤل: كيف يمكن للفنان أن يتمتّع بحضور مسرحيِّ؟

ناظم الغزالي
كان الغزالي صاحب حضور مسرحي كبير.
المصدر: http://saw44.blogspot.com

وبتحليل سنوات عمره الفني، نجد أنه جسَّد البراعة في اختيار كلمات الأغاني التي يطلقها على الجمهور، فتثير في نفوسهم شعلات فنية لا تنطفأ، كما لم يتملّكه الغرورالذي يصيب فنانين ويمنعه عن الاستعانة بآراء الشعراء حول الكلمات التي يختارها أو طريقة أدائه. كل ذلك وضّح بصورةٍ كبيرةٍ مدى الذكاء الفنيّ الذي تمتع به هذا الفنان.

ناظم الغزالي.. الأغنية للشعب

سعى الغزالي إلى تبسيط المقامات الموسيقية وتقديمها إلى الجماهير بشكل مُستساغ لآذانهم، مما ساعد على نقل المقام من طبقات الصفوة في المجتمع العراقي إلى طبقات الشعب بشكل مثّل تحررًا للأغنية العراقية وجعلها لا تقتصر على طبقاتٍ دون غيرها، فنجد بذلك الغزالي صاحب رسالة فنية سعى إلى إيصالها ولكن بطريقته الخاصة التي يقتنع فيها.

طالعة من بيت أبوها (مقام عجم)

من أسباب حب كثير من الناس للغزالي أنه أنشد التراث العراقي فحبّب للعراقيين حفظ تراثهم، وجذب الآذان العربية إلى هذا التراث، وغنّى أروع القصائد مُتقنًا اللغة العربية الفصحى وناطقًا لحروفها دون خطأ يُذكر(16)، فنسمعه يغني للمتنبي «ليالي بعد الظاعنين شكول»، ولأبي فراس الحمداني «أقول وقد ناحت بقربي حمامةٌ»، ولابن الفارض «شربنا على ذكر الحبيب مدامةً»، ولقيس بن المُلوّح «وأخرج من بين البيوت لعلّني»، ولإيليا أبي ماضي «أيّ شيءٍ في العيد»، وغيرها وغيرها الكثير.

لقاء سحاب لم يتم، وظلم إذاعي وتليفزيوني كلفنا الكثير

شهدت فترةُ الخمسينيات من القرن الماضي عبور فن ناظم الغزالي إلى الأقطار العربية وخروجه من بوتقة الشهرة المحلية إلى شهرة عربية واسعة، أعقب ذلك إقامة الغزالي للعديد من الحفلات في بلدان عدة منها لبنان والكويت، الأمر الذي جعله معادلة فنية هامة في تاريخ الفن العراقيّ خاصة والعربيّ عامة.

ناظم الغزالي
حرّر الغزالي الأغنية العراقية وجعلها ملكًا للعراقيين بمختلف طبقاتهم.
المصدر: doc.aljazeera.net

سطوع النجم الجديد في سماء العراق جعله يظهر على تلسكوب الفنان محمد عبد الوهاب، حيث سعي عبد الوهاب إلى التعاون مع ناظم الغزالي بإدماج صوت الأخير مع إيقاعات ألحانه، ورحَّب الغزالي بشدة بهذا المشروع الفني الكبير، لكن القدر كان له كلمة أخرى، فقد تُوفي الغزالي قبل إتمام المشروع(17)، فخسرت الموسيقى العربية تعاون من نوعٍ فريدٍ.

تمتع الغزالي بغزارة في الإنتاج الفنيِّ، كان قوامها الرئيس فترة عمله بالإذاعة حيث كانت تُبَث حفلاته الغنائية أسبوعيًا لمدة نصف ساعة، واستمرت آذان المستمعين تنهل من إبداعات الغزالي حتى اكتشف ان حفلاته لا تُسجل بما يعني ضياع تراثه فانقطع الغزالي عن الإذاعة مُعترضًا على ذلك الفعل، وكانت الحالة ذاتها مع التليفزيون، فلم يمتلك أعمالًا للغزالي، ما اضطره إلى استعارة بعضٍ من أغانيه من تليفزيون الكويت عند رحيله.

زواج ناظم الغزالي وسليمة مراد.. فصل آخر

ناظم الغزالي
ناظم الغزالي وزوجته سليمة مراد.
المصدر: www.alittihad.ae

الفنانة «سليمة مراد» أو سليمة باشا كما كانت تُلقب قبل إلغاء الألقاب العثمانية، هي واحدة من أوائل كبار مطربي العراق، إن لم تكن الأولى في عصرها، حيث عُرفت بصوتها القوي وقدراتها الكبيرة على أداء مُختلَف الألون الغنائية، وأستاذيتها العريضة على أداء المقام العراقي، والأغنية العراقية القديمة، فكان التَيْم الفني شعار ناظم الغزالي ناحية سليمة مراد، ولكن..

لم يكن الغزالي يعلم أن هذا الحب الفني سوف يتحول إلى حبٍ شخصيّ، حيث كان عام 1952م شاهدًا على هذا الحدث، حين تقابل الغزالي لأول مرة شخصيًّا بالفنانة مراد في إحدى الحفلات الخاصة ببغداد، فرأته وسمعته لتشهد على براعته وصوته القوي إلى جانب أخلاقه، ليبدأ الحب بينهما باغنية «قولي يا حلو منين الله جابك» يهدي الغزالي كلماتها لها، ويتكلّل بالزواج بعد إشهار إسلامها(18).

كان زواج الغزالي من مراد زواجًا فنيًّا ناجحًا، استفاد الغزالي من خلاله من خبرات مراد وشهرتها وسلطتها المعنوية في المجتمع العراقي، فبذلت مراد كل أموالها في سبيل صقل موهبته كما عرَّفته على دروب الفن سائرها، حيث كانت لها دور كبير في تعريفه بالملحن الكبير «ناظم نعيم»(19)، الذي كان سببًا رئيسًا في الشهرة التي نالها الغزالي بفضل أعماله.

واستطاع الغزالي التعرف على الطبقة الأرستقراطية من خلال مراد، فعلا شأنه أكثر داخل العراق، كما جمعهما رصيد فني مشترك يعد من كنوز التراث العراقي.

ناظم الغزالي.. الإنسان والمؤرخ

وسيم الطلعة، أنيق الملبس، رقيق الكلمة، حلو الابتسامة، لا يرد طالبه ولا يغتاب أحدًا(20)، هكذا كان ناظم الغزالي، حيث عُرف عنه احترامه الجم لفرقته الموسيقية التي عملت معه، ولكل أساتذته الذين لقَّنوه أسرار الموسيقى، حيث امتاز بعلاقاته الطيبة مع الناس، فكان إنسانًا راقيًا في نقائه.

ناظم الغزالي
ناظم الغزالي.
المصدر: mp3-juices.to

الولع الشديد بالموسيقى الذي تخلّل ثنايا صدر الغزالي لم يقف عند حدود الطرب والغناء والبحث عن كل ما هو جديد ليمتاز به هو أو الفن العراقي ككل، بل امتدّ إلى قلمه ليسجل كل ما تقع يداه عليه من تراث قديم وكأنه لا يأبى إلا أن يستقر هذا التراث الفني في صفحات التاريخ وليس في أوراق مبعثرة مأواها الأرشيف.

فنجد الغزالي دوَّن صفحات عن تاريخ الديالوج الغنائي في العراق، وأعمال الفنانين العراقيين القدامي، والمقامات التي تم أدائها، وأسماء مخطوطات الموسيقى والغناء العربية الشهيرة، إلى جانب تدوين أعمال زوجته سليمة مراد. وقد رأت بعض أفكار الغزالي النور من خلال نشره لسلسلة من المقالات في عام 1952م في مجلة «النديم» تحت عنوان: «أشهر المُغنِّين العرب»، ثم ظهرت في كتابه «طبقات العازفين والموسقيِّين 1900م – 1962م»(21)، لترافق موهبة التأريخ موهبتيّ التمثيل والطرب في تسجيل إبداعاته المُتنوعة.

ناظم الغزالي
كان الغزالي واسع الثقافة الموسيقية.
المصدر: almadasupplements.com

الكويت.. انطلاقة كبرى

ظل الغزالي يصول ويجول في حفلاته في عديد الدول، حتى حضر عام 1963م لينثر ما في جعبته في كِفة الحظ السعيد للغزالي؛ ولم لا وقد تلقَّى من وزارة الإعلام الكويتية دعوة للمشاركة في الاحتفالات التي تقيمها دولة الكويت بمناسبة نيلها للاستقلال حيث دعت كوكبة من النجوم من أمثال «أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ووديع الصافي»(22).

ناظم الغزالي
لقطة للغزالي بحفلة الكويت الشهيرة عام 1963م.
المصدر: www.pinterest.com.au

لم تكن هذه مجرد دعوة للغناء، بل اختبار فنيّ من نوعٍ خاصٍ، ولكن هيهات لهذا الاختبار أن يقدر على موهبة الغزالي، فقد تفوّق لدرجة جعلته يقدّم أوراق اعتماده لجمهور ختم له عليها بختم لا يُمحى حبره على مر الأيام، ليُعيّن في قلوب الناس سفيرًا للأغنية العراقية، ليس في الداخل العراقي فحسب، بل في ربوع الوطن العربي.

هذا التأثير الهائل الذي أحدثه حفل الكويت وصل إلى مسامع دولٍ عزمت على إقامة حفلات له استقطبت جمهور من فئات ومذاقات متنوعة انبهروا بهذا الصوت الذي سمعوا به ويرونه يتجسد أمامهم، ليتبلور إبداعه أكثر وأكثر، وتطارده الشهرة أسرع وأسرع، ولكن يظل حفل الكويت كلمة السر.

الأثر لم ينته بعد!

على مدار ما يقرب الخمسة عشر عامًا منذ اعتماده مطربًا بالإذاعة العراقية، خطّ ناظم الغزالي لنفسه دربًا سار عليه دونما توقف، فاستطاع أن يشكّل تراثًا لنفسه جمع بين تنويعات كثيرة، فها هو مطرب للهجة العراقية في ثوبٍ جديدٍ مرة، ومُنشد لقصائد دواوين فحول الشعراء ثانية، ومُلقيًا لقصائد الشعراء الذين تقاربوا من فترته الزمنية أخرى، العاطفية منها والسياسية والاجتماعية والدينية.

جملة أعماله الفنية تُعرّف بالمئات، ما بين الأغاني والقصائد، ولكن عدم تقدير القيمة الحقيقية لناظم الغزالي، -وربما ضعف الإمكانات آنذالك- ضيّعت على أجيالٍ عديدةٍ متعاقبةٍ التعرُف على هذا التراث الفني الهائل وما بذله هذا الفنان في سبيل الحفاظ على اللغة العربية ونشر اللهجة العراقية، لتتبقى تسجيلاتٌ قليلةٌ بل نادرة ٌ مقارنة بحجم أعماله لا تسد الرمق، أشهرها تسجيلات حفل الكويت.

ناظم الغزالي
لقطة للغزالي من فيلم يا سلام على الحب الذي أدّى فيه أغنية يا أم العيون السود عام 1963م.
المصدر: elcinema.com

«أحبك، خايف عليها، يا أيها الرجل المُعذب نفسه، لخديْك من كفيْك، أيّ عذرٍ لمن رآك ولاما، شاد على الأيْك، يا رب إن عظُمت ذنوبي كثرةً، أحبتنا لقد طال التنائي، ألا انهض وشمِّر أيها الشرق للحرب، سمراءٌ من قوم عيسى، فوق النخل، مروا عليّ الحلوين، بوجنته شامة، مَيْحَانة، طالعة من بيت أبوها، شيّعت أحلامي بقلب باكٍ»، ومشاركة في فيلم «يا سلام على الحب» -من بطولة نجاح سلام وعبد السلام النابلسي وفهد بلّان- بأغنية «يا أم العيود السود»، نذر يسير مما قدمه الغزالي لجمهوره.

يا أم العيون السود

نهاية غير مُتوقعة

ناظم الغزالي
ويرحل الغزال عن عمر ناهز الاثنين والأربعين عامًا.
المصدر: elcinema.com

ما زال عام 1963م مستمرًا في تصدير البهجة لقلب ناظم، حيث قدم خلال فترةٍ قصيرةٍ مجموعة من الحفلات في العراق ومحيطها، فقد سافر إلى لبنان وأقام فيها وحدها خمس وثلاثين حفلةً، ليطير بعدها في جولةٍ فنيّةٍ مع زوجته إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأورويا حيث قدم حفلات في دول فرنسا وألمانيا وإيطاليا، ويعاود الرجوع إلى لبنان ويقيم في فندق «نورماندي» بغية الراحة جرّاء التعب الذي ألم به من جولته الأخيرة(23).

في يوم 20 أكتوبر 1963م تحضّر الغزالي سريعًا للعودة إلى موطنه ولقاء القدر الذي ينتظره خلف باب شقته ليدهشه. وصل الغزالي موطنه في صبيحة مُبكرة من اليوم التالي ليشرع في راحة قصيرة وعطاء أطول مما قدمه سابقًا، لكن ربما لم يكن الغزالي يعلم أن قلبه لم يعد قادر على تحمل مشاعره الإنسانية الكبيرة، وطموحه الذي يصل إلى عنان السماء، وحنجرته التي تسع مقامات الأرض كلها وليست العراقية فحسب، فكان الحل الوحيد لهذا القلب ليرتاح من كل ذلك أن يتوقف ويهدأ..

تتجه أسماع الناس إلى المذياع لسماع أخبار عاجلة، إنه قطعٌ للإرسال وإذاعة خبر عاجل. إذن، إنه خبر خطير.. لابد أنه انقلابٌ عسكريٌ آخر.. فقد اعتاد العراقيون على ذلك في الفترة الأخيرة. كانت هذه هي الحقيقة.. إنه انقلاب ولكنه فني هذه المرة، لقد فقدنا صوت اللهجة العراقية العذب الذي يجول السماء.. لقد فقدنا اليد التي تنبش في أمهات الشعر العربي وتُخرج درره.. لقد فقدنا الأذن التي تنصت لما يريده الجمهور.. لقد فقدنا الإحساس الصادق للكلمات مٌمتزجًا بآهات حياته الصعبة.. لقد فقدنا العين التي تنبض مثلها مثل القلب حنينًا وقسوةً، نعومةً وخشونةً، ضعفًا وقوةً في بحّة فريدة، لقد فقدنا القلب الذي يشعر فيخفق فتلتهب الأنفاس بشرارات المشاعر الحقيقية.. لقد فقدنا ناظم الغزالي…

فأصبح مُلخص حياته: حياةٌ قصيرةٌ.. طويلة في صفحات الفن، إبداعُ مستمرٌ.. في نفوس البشر.

عيرتني بالشيب

إعداد: هدير جابر.

المصادر:

  1. فيلم “ناظم الغزالي”، قناة الجزيرة الوثائقية، إنتاج 2010.
  2. عبد الوهاب العمراني. (2014). مشاهدات وانطباعات من الشرق والغرب: رؤية يمنية في أدب الرحلات. عمان: دار الخليج للنشر والتوزيع. متاح من خلال: https://books.google.com.eg/books?id=Rte0DgAAQBAJ&lpg=PT34&ots=M7nSihQHxO&dq=%D9%86%D8%A7%D8%B8%D9%85%20%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B2%D8%A7%D9%84%D9%8A&hl=ar&pg=PT34#v=onepage&q=%D9%86%D8%A7%D8%B8%D9%85%20%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B2%D8%A7%D9%84%D9%8A&f=false
  3. فيلم “ناظم الغزالي”، قناة الجزيرة الوثائقية، إنتاج 2010.
  4. فؤاد صالح السيد. (2015). أعظم الأحداث المعاصرة (1900 – 2014م). لبنان: مكتبة حسن العصرية للطباعة والنشر والتوزيع. متاح من خلال: https://books.google.com.eg/books?id=tB6tDQAAQBAJ&lpg=PA457&ots=mbV8oDJRx1&dq=%D9%86%D8%A7%D8%B8%D9%85%20%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B2%D8%A7%D9%84%D9%8A&hl=ar&pg=PA457#v=onepage&q=%D9%86%D8%A7%D8%B8%D9%85%20%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B2%D8%A7%D9%84%D9%8A&f=false
  5. عزيزة فوال بابتي. (2009). موسوعة الأعلام (العرب والمسلميين والعالميين) 1-4 الجزء الثالث. بيروت: دار الكتب العلمية. متاح من خلال: https://books.google.com.eg/books?id=siBLDwAAQBAJ&lpg=PT174&ots=3fmbEy_FZx&dq=%D9%86%D8%A7%D8%B8%D9%85%20%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B2%D8%A7%D9%84%D9%8A&hl=ar&pg=PT174#v=onepage&q=%D9%86%D8%A7%D8%B8%D9%85%20%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B2%D8%A7%D9%84%D9%8A&f=false
  6. فيلم “ناظم الغزالي”، قناة الجزيرة الوثائقية، إنتاج 2010.
  7. فؤاد صالح السيد، مرجع سابق، ص458.
  8. فيلم “ناظم الغزالي”، قناة الجزيرة الوثائقية، إنتاج 2010.
  9. فؤاد صالح السيد، مرجع سابق، ص458.
  10. نفس المرجع السابق، ص458.
  11. خالد إبراهيم (2008)، “البناء اللحني والإيقاعي في المقام العراقي”، مجلة الأكاديمي، العدد 48، ص ص 51-72.
  12. نفس المرجع السابق، ص54.
  13. فيلم “ناظم الغزالي”، قناة الجزيرة الوثائقية، إنتاج 2010.
  14. فيلم “ناظم الغزالي”، قناة الجزيرة الوثائقية، إنتاج 2010.
  15. فيلم “ناظم الغزالي”، قناة الجزيرة الوثائقية، إنتاج 2010.
  16. أسماء محمد (2008)، “ناظم الغزالي.. نهر العراق الخالد”، مجلة الموروث: دار الكتب والوثائق بوزارة الثقافة العراقية، العدد الرابع، ص ص 20-22.
  17. فيلم “ناظم الغزالي”، قناة الجزيرة الوثائقية، إنتاج 2010.
  18. فيلم “ناظم الغزالي”، قناة الجزيرة الوثائقية، إنتاج 2010.
  19. فيلم “ناظم الغزالي”، قناة الجزيرة الوثائقية، إنتاج 2010.
  20. عزيزة فوال بابتي، مرجع سابق، ص173.
  21. فؤاد صالح السيد، مرجع سابق، ص458
  22. فيلم “ناظم الغزالي”، قناة الجزيرة الوثائقية، إنتاج 2010.
  23. فيلم “ناظم الغزالي”، قناة الجزيرة الوثائقية، إنتاج 2010.
شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي