كيف ساعدت فلسفة ديكارت علم التشريح

Descartes

|

إنّ مجموعة أسباب قد دفعتنا في الواقع إلى إدراج اسم الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (١٥٩٦-١٦٥٠) في دراسة عن التشريح. فمبادؤه الفلسفية لم تقفْ مكتوفة الأيدي حيال التشريح وعلمائه، أولًا. وقد مارست فلسفته بأكملها تأثيرًا حقيقيًا على الدراسات التشريحية، ثانيًا. فضلًا عن أنً ديكارت قد أبرز اهتمامًا لافتًا بالتشريح، أخيرًا.

طوّر ديكارت مفهومه عن الإنسان-الآلة في كتابه (مبحث حول الإنسان)، مُضفيًا على التشريح نزعة عقلية لن يخمد أثرها طوال تاريخ العمل الطبي. كما أخذ ديكارت بِعَين الاعتبار أهمية التشريح الذي يساعد على اكتشاف أجزاء هذه «الآلة». إنّ الآلة وأجزاءَها تستطيع أن تساعدنا لتقديم دراسة من أجل المقارنة مع أجزاء الجسم البشري، كما تستطيع أن تكون مَصدرًا مُلهمًا لغالبية الدراسات التشريحية.

في هذا السياق يقول ديكارت:

«وإنني إذ أصف لكم أعصاب الإنسان فإنني أشبّهها بأنابيب المياه، مثلما أشبّه العضلات بالطاقة المحرّكة للآلة، وأشبّه النفس الحيوانية بالمياه السائلة حيث القلب منبعها والدماغ مَصبّها».

متأثرًا بمدرسة التشريح الإيطالية والهولندية، أبدى ديكارت اهتمامًا بأبحاث هارفي (Harvey). فجميع أساتذته التشريحيين قادوه إلى تقديم ما يُشبه المرافعة عن التشريح، وذلك في كتابه «وصفُ الجسم البشري» الصادر عام ١٦٤٨، والذي أفرد فيه مساحة واسعة للحديث عن معرفة الذات.

يقول ديكارت:

«ليس ثمة ما هو أكثر فائدة من محاولة معرفة الذات. أما الغاية المرجوّة من هذه المعرفة، فلا تتعلق -كما قد يتبادر إلى ذهن الكثيرين- بالأخلاق فحسب بل بالطب أيضًا، حيث أعتقد أنّنا سنجد الكثير من الارشادات الطبية الموثوق بها التي تساعد على الشفاء من الأمراض أو حتى على الوقاية منها وتأخير عجلة الشيخوخة، شرط أن نجهد لمعرفة طبيعة أجسامنا ومعرفة وظائف النفس المرتبطة بالجسم وتنظيم أعضائه. لكن بما أننا قد أيقنّا، منذ نعومة أظافرنا، وبما لا يدع مجالًا للشك، أنّ حركات الجسم خاضعة للإرادة التي لا تعدو أن تكون بدورها واحدة من قوى النفس، فإننا قد اندفعنا إلى الاعتقاد بأنّ النفس هي مبدأ كلّ شيء، الأمر الذي تَرتّب عليه جهلًا كاملًا بالتشريح والميكانيكا. وبما أننا لم نأخذ بِعَين الاعتبار سوى المظهر الخارجي للجسم، فإنه لم يَخطر في بالنا قط أنّ هذا الجسم الذي يتحرّك أمام أعيننا إنما يتحرك بسبب ما ينطوي عليه من أعضاء وطاقات».

كان يهدف ديكارت إلى تطوير نموذج لفلسفة تتجاوز فلسفة أرسطو، وذلك من خلال عمله على تدقيق المضامين الواردة في كتابه «وصف الجسم البشري»، ولكن أيضًا من خلال تطوير الأفكار الواردة في كتابه (مبحث حول الإنسان).

بالإضافة إلى ذلك فإنّ باحثًا معاصرًا يعرض لنا سببًا آخر تستحق الفلسفة الديكارتية على إثره أن تكون هي فلسفةَ ما بعد أرسطو.

يقول غينانسيا (Guenancia):

«والحقيقة أنه قد مرّ زمانٌ لم يعدْ فيه أرسطو هو سيّد الفلاسفة والحكماء، غير أنّ النظام المعمول به لم يكن قد استُبدل بنظام آخر أفضل منه».

ممّا لا شكّ فيه أنّ نظريات ديكارت حول الإنسان سوف تساهم في تحرير التشريح من كلّ الاعتبارات الميتافيزيقية. وإذا كان صاحب «وصف الجسم البشري» قد قسّم الإنسان سابقًا إلى جوهرَين هما النفس والجسد، فإنه بالقابل يقترح على علماء التشريح عدم الاهتمام بِغَير الجسد حصرًا.

والحال أنّ ديكارت بتقليصه دائرة التفكير في ثنائية النفس والجسد إلى التفكير في الجسد فقط، يكون قد قدّم للتشريح أرضًا خصبة من أجل نموّه المعرفي.

ترجمة: مايكل عطاالله

مراجعة: مايكل ماهر

المصدر:

Gilles gros, Ecrits épistémologiques sur l’anatomie, l’Harmattan,2014, p

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي