من المتوقع أن يكون هناك واحدٌ من كل ثلاثةٍ من سكان قارة أوروبا فوق سن 65 في عام 2060، ومن المتوقع أن تستمر المعادلة في نفس هذا الاتجاه نتيجةً لارتفاع متوسط العمر المتوقع، ينتج عنه انعكاسٌ في شكل الهرم السكاني في أوروبا وفي بقية الدول المتقدمة على سطح الأرض، نتيجةَ ارتفاع مستويات الدخل والصحة الذي سيؤدي إلى ارتفاع متوسط أعمار السكان. بالتالي ستتغير معه أنماط المعيشة وسيصاحبها تغيرٌ في أشكال الاستهلاك، الأمر الأكثرُ أهميةً يكمن في تغيّر شكل القوى العاملة التي ستعتمد على كبار السّن، الذين سيصبحون المحرك الأساسي للاقتصاد وسيظهر ما يّعرف باسم «الاقتصاد الفضيّ» (Silver Economy).
فلو نظرنا إلى واقع قارة أوروبا الحالي، نجد أنها تُدار من قِبل أفرادٍ وُلدوا بين عامي 1935 و1960، نشأوا في عالمِ ما بعد الحرب، ونزلوا إلى الشوارع في مايو 1968، وأسقطوا جدار برلين، وهم اليوم يديرون العالم والاقتصاد، شخصيات مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وبيل جيتس مؤسس شركة (مايكروسوفت Microsoft). أفرادٌ لا تُثقلهم السّن، بل على العكس من ذلك، فإنهم يشعرون بأنهم شبابٌ وممتلئون بالحياة تماماً مثل أبنائهم، بإمكانهم التقاعد وقد وصلوا إلى سِنّه بالفعل، وأيضًا هم يستطيعون الحصول على مزيدٍ من أوقات الفراغ، ولكنهم يعملون بحيويّة، ويمتلكون ثرواتٍ كبيرة تزيد بمقدار 11 مرة أو أكثر عن ثروةِ جيلِ الألفية السابقة، حسب آخر بياناتٍ لمجلس «الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي».
أسباب ارتفاع متوسط الأعمار
يكمن السرّ في ارتفاع متوسط الأعمار في العقود الأخيرة إلى ارتفاع مستوى المعايير الصحيّة الذي يُقدم للسكان بشكل عام، الذي أدى إلى تحسّن الصحة وطول العمر. بالإضافة إلى انخفاض معدلات المواليد بسبب عمالة السيدات وعزوفهنّ عن الإنجاب لانشغالهنّ بوظائفهن وأعمالهن على حساب تكوين الأسرة والعناية بالأطفال. مما أدى إلى انعكاس هرم السكان ليشكّل كبارُ السّن قمةً كبيرة للهرم، لتكون نسبتهم السكانية أكبر من الأطفال والشباب، مسببةً اختلالاً في هيكل العمالة في الاقتصاد. كما أشارت إحصائيات البنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية (WHO) إلى أنّ متوسط العمر قد بلغ 72.5 عاماً في عام 2020، بزيادة قدرها 20 عامًا عن عام 1960، ومن المتوقع أن يتضاعف عدد سكان العالم الذين تزيد أعمارهم عن 60 عامًا بحلول عام 2050 مقارنة بعام 2000.
ففي عام 2018 حدث أمرٌ غير مسبوق في التاريخ، فلأول مرةٍ يتجاوز عدد الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عامًا عدد الأطفال دون سن الخامسة، حسب ما كشفت تقارير الأمم المتحدة.
ما هو الاقتصاد الفضي
الاقتصاد الفضيّ هو اقتصاد يديره كبار السّن وتكون غالبية موارده مخصصةٌ للعناية بهم، فجميع الأنشطة والمنتجات والخدمات الاقتصادية تكون مصممة لتلبية احتياجات الأشخاص فوق سن الخمسين.
وقد تم اشتقاق التسمية من «السوق الفضيّ» الذي ظهر في اليابان، الدولة الأغنى بكبار السّن، فمنذ سبعينيّات القرن الماضي كانت اليابان هي الدولة الوحيدة التي تحظى بأعلى نسبة من كبار السّن، وظهرت أسواقٌ مركزية خاصة بالأشخاص بسن الـ 65، وذلك عن طريق تجمّع القطاعات الصحية والبنوك والسيّارات والطاقة والإسكان والاتصالات والترفيه والسياحة وغيرهم من الخدمات في سوقٍ مركزيّ واحد يقدم خدماتٍ مخصصةٍ لهذه الفئة بالذات.
فالاقتصاد الفضيّ يختلف عن غيره من الاقتصادات التقليديّة، يتعمد على توفير احتياجات كبار السّن حتى يستطيع بالاستمرار، تتمثل المفاتيح الأساسية لعمله في الاعتماد على الابتكارات التكنولوجية التي تقدم حلول لمشاكل كبار السن، الذين لا يمتلكون مَنْ يساعدهم على القيام بمتطلبات الحياة. حيث ستُستخدم التكنولوجيا في توفير احتياجاتِ تشغيل المنازل آليّا بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي وتوظيف إنترنت الأشياء لمتابعتهم والعناية بتلبية احتياجاتهم، بالإضافة إلى توظيف تطبيقات الصحة الإلكترونية والخدمات النموذجيّة الأخرى للمدن الذكيّة، التي ستساعد في الاهتمام بكبار السّن حتى لا يشعرون بالشيخوخة أو الوحدة.
كما ويتميّز المستهلكون في الاقتصاد الفضيّ المستقبلي بأنهم:
- يمتلكون قوةً شرائيةً مرتفعةً ولا يتحملون أعباءً اقتصادية مرتفعة.
- لديهم وقت فراغٍ يسمح لهم بالقيام بما أرادوا دائمًا، ووقتٌ للسفر والاستمتاع بتجارب جديدة والتمتع بالحياة.
- أشخاصٌ نشطون يرغبون في الاعتناء بأنفسهم، من خلال ممارسة الرياضة وتناول الطعام الصحيّ، والتمتع بالحياة.
- لديهم انتماءٌ وولاءٌ لعلاماتهم التجارية، يستهلكون أكثر من الشباب ويتطلبون منتجاتٍ وخدماتٍ بوصفات خاصة تعكس شخصياتهم.
- يمتلكون أوقات فراغٍ إضافيةً يستغلونها بالقيام بأنشطةٍ ثقافيّة وترفيهيّة.
خصائص اقتصاد المستقبل
يعاني الاقتصاد الفضيّ من العديد من التحديّات التي يجب التغلب عليها اليوم حتى يصبح محرّكًا حقيقيًّا للاقتصاد في المستقبل، ولكن الحقيقة الأساسيّة التي يجب الاعتراف بها هي أن اقتصاد المستقبل سيقوده كبار السّن.
ومن أهم الخصائص المستقبلية له أنه سيكون:
1- اقتصادًا عالميًّا
الاقتصاد الفضيّ سيكون اقتصادًا عالميًّا، ومن المتوقع أن يكون الاقتصاد العالمي في العقود القادمة حِكرًا للشركات الدولية، يتضمن تفكيرًا عالميًا وتصرفًا محليًا.
2- اقتصادًا شاملًا
بمعنى أن اقتصاد المستقبل سيعمل على تصحيح اختلالاتِ العولمة، بهدف تحقيق العدالة في إدارة وانتقال وتوزيع الثروات.
3- اقتصادًا رقميًا
في الاقتصاد الفضيّ تلعب التقنيات الجديدة والإنترنت دورًا رائدًا في الابتكارات التجارية الناتجة عن الثورة الصناعية الرابعة، وهي تتجه نحو بوابة الأسواق الدولية.
4- اقتصادًا دائريًّا
يركز الاقتصاد الفضيّ عن البحث عن الأنشطة الاقتصادية التي تقلل الهدر في استخدام المواد الخام، ويركز على تعزيز الاقتصاد الدائري للأنشطة الاقتصادية المتعلقة بالموارد الأساسية كالغذاء والماء والتكنولوجيا والطاقة.
5- اقتصادًا صديقًا للبيئة
سيساهم الاقتصاد الفضيّ في خلق وظائفٍ خضراء تحافظ على البيئة، كما سيساهم في إيجاد الاقتصاد الأخضر الذي سيقلل من ندرة الموارد والمخاطر البيئية، ويعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين رفاهية المجتمع.
6- اقتصادًا تعاونيًا
من المتوقع من اقتصاد المستقبل أن يكون أكثر اهتمامًا بتشجع تبادل السلع والخدمات لتحقيق المنفعة المشتركة للبشرية.
الفرص التي يقدمها الاقتصاد الفضي
توقعت المُفوضية الأوروبية أن يؤدي الاقتصاد الفضيّ بحلول عام 2025 إلى توليد ملياراتٍ من الأرباح، كما أنه سيساهم بشكل كبير في خلق فرص العمل والقيمة المضافة إجمالًا للاتحاد الأوروبي.
ومن الفرص الرئيسية التي يُتوقع أن يوفرها الاقتصاد الفضيّ:
- القطاعات الفضيّة: ستظهر منتجاتٌ وخدماتٌ جديدة في السوق تتكيف مع احتياجات كبار السّن. من خلال الاعتماد على تقنية الشيخوخة، التي هي أحد مجالات التكنولوجيا التي تدرسُ شيخوخة الإنسان واحتياجاتها وكيفية استغلالها كفرص للاقتصاد.
- إيجاد مِهن جديدة: ستؤدي شيخوخة السكان إلى خلق فرصِ عملٍ جديدة وظهور وظائف مرتبطة بالاقتصاد الفضيّ، مع التركيز على وظائف رعاية المسنين.
- الخطط الاستراتيجية والاستثمار: نتيجةً لظهور الاقتصاد الفضيّ ستقوم الحكومات بالاستثمار في مشاريع تحسين الرعاية الصحيّة لكبار السّن، كأحد مكوّنات خططها الاستراتيجية.
خاتمة
الاقتصاد الفضيّ أو اقتصاد كبار السّن هو مستقبل اقتصاد الدول المتقدمة، تقوم الدول بالاستعداد لاستقباله والاستفادة منه من هذا اليوم، حتى تستطيع أن تغتنم الفرص التي سترافقه، وتتغلب على التحدّيات التي تصاحبه. إلا إن انعكاس هرم السكان واتساع قمته بأعداد الشيوخ المتزايدة مع صِغر حجم قاعدته لانخفاض أعداد المواليد والأطفال مؤشرٌ خطير يدق نواقيسًا يجب على الإنسانية أن تنتبه لها حتى لا نصل إلى اقتصادٍ فضيّ بحتٍ نادراً ما ترى فيه أطفالاً أو شبابًا.