تُعد ميكانيكا الكم نوعًا من أنواع الميكانيكا، ولكن ذلك ليس بالمعنى الذي يُتيح لك حريةَ اختيار أي نوع لحل المسألة مثلما يُمكنكَ الاختيار بين أنواع البيتزا في المطعم الإيطاليّ. فميكانيكا الكم هي النظرية التي تشرحُ سلوكَ الأجسامِ ذاتِ المقياس الكميّ، ونقصد بالمقياس الكمي أيْ المقياس الذي يحتوي على الجزيئات، والذرات، والأجسام تحت الذرية. ومن هذا التعريف، تجد أن ميكانيكا الكم حولنا في كل مكان؛ فكل ما حولنا مكونٌ من جزيئاتٍ، والتي بدورها تحتوي على ذراتٍ تترتب فيها جسيمات تحت ذرية.
ولكن قد يبدو الأمر إلى هذا الحد غير مقنعٍ. فعندما يركلُ لاعبُ الكرة ركلةً حرة؛ قد يستخدم قانونًا أو اثنين من قوانين ميكانيكا نيوتن، والذي يعرفهما بشكل تجريبيّ أو ربما بشكل أكاديميّ، لكن آخر ما قد يخطر في باله هو أن تسلكَ الكرةُ مسلكًا نفقيًا (كميًّا – Quantum tunneling) فتختفي الكرةُ من أمام قدمه؛ لتظهر في الوقت ذاته داخل الشباكِ، وبالطبع هذا صحيح. فتظهرُ عجائبُ ميكانيكا الكم على مدى أقصاه جزيئات مكونة من 2000 ذرة حسب آخر التجارب (2019).[1]
ولكن ميكانيكا الكم ساعدتنا على فهمِ، وتفسيرِ ما لم تستطع أيْ نظريةٌ أخرى أن تشرحَه. فدعونا نُلقي نظرةً سريعةً على تطبيقاتِ تلك النظرية الواعدة.
ميكانيكا الكم ووصفٌ دقيقٌ للذرة
الذرة فضاءٌ شاسعٌ؛ شمسُها النواةُ، تطوفُ بها الإلكتروناتُ. هذا الوصفُ الأنيقُ للذرة كان يتبناه علماءٌ عدة في أوائل القرن العشرين. والمشكلة في هذا النموذج أننا إذا افتضرنا أن الإلكترونَ يدور حول النواة؛ فنحن بذلك نقول أنه يتسارعُ، والإلكترونُ المتسارعُ يشعُ أشعة كهرومغناطيسية؛ التي بدورها سَتُفقدُ الإلكترونَ جزءً من طاقة حركته؛ وبالتالي سيسقطُ نحو النواة، ولن يكملَ دورته. ولكن مع تطورِ نظرية ميكانيكا الكم، أصبح لدينا فهمٌ أكثر لكيفية وجود هذه الإلكترونات حول النواة عن طريقِ حلِ معادلات شرودنجر. وبحل تلك المعادلات، نجد أنه هناك أربعةُ أعدادٍ، تصفُ كلَ إلكترونٍ حول أي ذرة ألا وهي:
- العدد الكميّ الأساسيّ: الذي يصفُ حجمَ المدارِ الذي يتواجد الإلكترونُ فيه.
- العدد الكميّ المداريّ: يَصفُ لنا شكلَ مدارِ الإلكترون.
- عدد الكم المغناطيسيّ: الذي يوفرُ لنا معلوماتٍ عن اتجاهِ المدار في الفراغ.
- عدد الكم المغزليّ: يعطينا معلوماتٍ حول اتجاهِ دوران الإلكترون حول نفسه.
ولكلِ إلكترونِ حول الذرة أربعةُ أعدادٍ خاصة به وحده. ولكن السؤال -الذي توضحه أيضًا ميكانيكا الكم بالمناسبة- هو: كيفية وجود الإلكترون، وتفاعله داخل تلك المدارات؟ فالإلكترون داخل المدارات لا يسيرُ في مساراتٍ محددةٍ (سواء كانت تلك المساراتُ دائريةً، أو بيضاويةً، أو غير منتظمةٍ)، بل يوجدُ في أيّ مكانٍ داخل المدار بنسبٍ متفاوتةٍ؛ وكأننا نصفُ وجودَه بوصفنا لاحتمالية وجودِه في كلِ نقطةٍ داخل المدار. ومن خلال تعريف المدار، نجدُ أن الإلكترونَ قد يوجد خارج مدارِه في وقتٍ معينٍ باحتماليةٍ ضئيلةٍ؛ وذلك لأن تعريفَ المدارِ هو ذاك المكان في الفراغِ الذي تكونُ نسبةُ وجودِ الإلكترون بداخله 90%. فلازال هناك احتمالية 10% أن يكون الإلكترونُ في أيّ مكانٍ في الفضاء خارج المدار.
فبينما قد تكون فكرة أن الإلكترونَ يدورُ في مسارٍ دائريٍّ حول النواةِ أجمل من حيث الفهم والتطبيق، بل وأسهل، لكن مفتاحَ فَهمِنا للواقعِ، والتحكمَ فيه يَكمنُ في تقبلِ الواقعِ كما هو.
ميكانيكا الكم وعلم الأحياء
قد تكون فكرة اجتماع ميكانيكا الكم، وعلم الأحياء في دراسةٍ مشتركةٍ أمرًا شديد الغرابة، لكن في الخمس عشرة سنة الماضية بدأ العلماء من كلا الجانبين من خلال تجارب في الكيمياء الحيوية، والمحاكاة الحاسوبية للجزيئات المعقدة ملاحظة ترابط واضح بين الفرعين في بعض الأمور، نسرد إليكم بعضها:
ميكانيكا الكم والطفرات الجينية
يَدرسُ جيم الخليلي -وهو عالم فيزياء نظرية إنجليزيّ من أصول عراقية- في الوقت الحاليّ مع فريقه إمكانية أن يكون هناك دور للنفق الكميّ في الطفرات الجينية التي تحدث في الحمض النوويّ حيث من المعلوم أن الحمض النوويّ مكونٌ من شكلٍ حلزونيّ مزدوج (كسلمٍ حلزوني كما هو مبين بالصورة) يرتبطان ببعضهما من خلال روابطٍ هيدروجينية.
وإذا كبرنا النموذج حيث نرى قاعدتين نيتروجينيتين مترابطتين؛ فسيمكننا أن نرى نموذجًا للرابطة النيتروجينية بين نواة ذرة الهيدروجين، والذرة الموجودة على القاعدة النيتروجينية المجاورة. ما يبحث عنه الفريق هو إمكانية أن يحدث نفق كميّ للبروتون؛ فينتقل من ذرة للذرة المقابلة له كما هو مبين بالصورة أدناه، والذي بدوره قد يؤدي إلى حدوث طفرات عند نسخ الحمض النووي.
وما توصل إليه الفريق حتى الآن هو وجود احتمالية كبيرة لحدوث مثل هذه الظواهر، لكن نتائج هذه الظواهر، ومدى تأثيرها على حدوثِ الطفرات لم يُؤكد بعد، والأمر برمته قيد الدراسة حتى الآن.
ميكانيكا الكم وطائر الروبين
من المعروف أن طيور الروبين الأوروبية (أبو الحناء الأوروبي- European robin) تَطيرُ آلاف الكيلومترات من شمال أوروبا إلى سواحل البحر المتوسط. وقد حيّر العلماء لعدة قرون حول كيفية تحديده للاتجاهات.
وفي أواخر السبعينيات من القرن الماضي، وبينما أصبح من المتفق عليه بين العلماء أن الطيور تستخدم المجال المغناطيسيّ للأرض لتحدد الاتجاهات، فيما يعرف بنظرية (الاستقبال المغناطيسيّ – Magnetoreception)، ظلت الكيفية لغزًا يُحيرُ العلماء.
ظل الأمر على هذا الحال حتى عام 2000، حين قام كلٌّ من (ثوريستين ريتز – Thorsten Ritz) و(كلاوس شولتين – Klaus Schulten) بتقديم ورقةٍ بحثيةٍ لنموذج [2] (زوج الجذور – Radical pair model)، والجذر في الكيمياء هو جزيءٌ يحتوي على إلكترون وحيد (غير مشترك في رابطة أو متصل مع إلكترون آخر).
وحسب هذا النموذج، يحدثُ كلُ شيءٍ داخل بروتين يدعى (الكريبتوكروم – Cryptochrome)، والذي يوجد داخل شبكية العين. وينص النموذج على أن هناك تفاعل يحدثُ داخل الكريبتوكروم؛ ينتجُ عنه جزيئين كل منهما يحتوي على إلكترون وحيد. يرتبط هذان الإلكترونان الوحيدان في حالة من التشابك الكميّ بحيث أن اتجاه اللف المغزليّ لأحدهما يؤثر على اتجاه اللّف المغزليّ للآخر لحظيًّا مهما كان البعد بينهما.
ويعطينا هذا التشابك الكمي احتمالين: الاحتمال الأول أن يكون اتجاه اللف المغزليّ للإلكترونين دائمًا في نفس الاتجاه، أما الاحتمال الآخر هو أن يكون اتجاه اللف المغزليّ للإلكترونين دائمًا في اتجاهين مختلفين. وبالطبع، ما يُحددُ أرجحية أحد احتماليّ حالة التشابك الكمي هو التغير في اتجاه المجال المغناطيسيّ للأرض بالنسبة إلى الطائر.
في كل احتمال من الاحتمالين، يحدثُ تفاعلٌ كيميائيّ مختلفٌ، والذي ينتجُ عنه مركبات بيولوجية مختلفة. وإذا كانت هذه المُرَكباتُ يمكن أن تنتقل من خلال إشارات عصبية إلى المخ؛ فسيكون لدينا نموذجٌ كاملٌ عن كيفية معرفة طائر الروبين الأوروبيّ الاتجاهات، من خلال نموذج يعتمد على مبدأ أساسي من مبادئ ميكانيكا الكم (التشابك الكميّ)، والذي يبدأ بشبكية العين انتهاءً بالمخ.
ميكانيكا الكم والتمثيل الضوئيّ
تتمثلُ التطبيقات الأساسية للبيولوجيا الكميّة في شرح الكيفية التي يصل بها التمثيل الضوئي في بعض أنواع البكتيريا إلى تلك الكفاءة العالية والتي قد تصل إلى 90%. ومبدأ ميكانيكا الكم الذي سنختبره هنا هو (مبدأ التراكب – Superposition principle).
وينص مبدأ التراكب هذا على أن الجزيئات الكميّة يمكنها أن توجد في أكثر من مكان في الوقت ذاته. وبالرجوع إلى التمثيل الضوئيّ، ووفقًا للنظرية القديمة فإن فوتونات الضوء تصطدم بجزيئات (الكلوروفيل – Chlorophyll)؛ فيمتص أحد الإلكترونات الفوتون فيصبح مثارًا، ولكي تتحول الطاقة في الإلكترون المثار إلى صورة يمكن للنبات الاستفادة منها؛ لا بد من أن ينتقل الإلكترون إلى مركزِ تفاعل البناء الضوئي.
وبينما تتمثل النظرية القديمة أن الإلكترونات تسلك مساراتٍ عشوائية مختلفة؛ للوصول إلى مركز التفاعل، فالنظرية الحالية أن الإلكترون يسلك كل المسارات المتاحة في الوقت ذاته حسب نموذج التراكب الكميّ، وهو النموذج الذي يفسر كفاءة التمثيل الضوئيّ في حفظ الطاقة.[3]
ميكانيكا الكم والتفاعلات الكيميائية
تتحول المتفاعلات إلى نواتج التفاعل في التفاعل الكيميائي؛ ولحدوث ذلك، على المتفاعلات أن تكتسب مقدار معين من الطاقة يسمى طاقة تنشيط.. وهذا النموذج الكلاسيكي متعارف عليه ومتفق عليه منذ فترة طويلة. ويتمثل دورالإنزيمات المختلفة أثناء التفاعل الكيميائي في خفض ذلك الحاجز من طاقة التنشيط؛ فتحتاج المتفاعلات طاقة أقل لتتحول إلى نواتج؛ وبالتالي زيادة سرعة التفاعل.
و من الجدير بالذكر، أن كثير من التفاعلات التي تكون الإنزيمات عاملاً أساسيًا بها تعتمد على تبادلِ بروتون (نواة هيدروجين) بين المتفاعلات والنواتج. وونلاحظ في مثل تلك التفاعلات أن تبادل البروتون يحدث حتى في ظل عدم وجود طاقة كافية؛ كدليل على احتمالية حدوث نفق كميّ ينقل البروتون بشكل لحظيّ من المتفاعلات إلى النواتج.
أما عن التجربة الثانية التي تؤكد ذلك النموذج، فتتمثل في حالة استبدال البروتون بنواة الديوتيريوم (وهو أحد نظائر الهيدروجين وله ضعف كتلة نواة الهيدروجين تقريبًا)؛ مما أدى إلى انخفاض معدل انتقال النوٌيات من المتفاعلات إلى النواتج إلى واحد على المائة من الاحتمالية الأصلية.
وبينما يتعارض هذا الانخفاض الشديد في احتمال حدوث مثل هذا التفاعل مع التوقعات الكلاسيكية، يتفق مع التنبؤات الكمية؛ معطيًا إيانا الضوء الأخضر لقبول نموذج النفق الكميّ في التفاعلات الكيميائية.[4]
ميكانيكا الكم والتكنولوجيا
الحواسيب و الهواتف الخلوية
تساعدنا ميكانيكا الكم على فهم طبيعة الجسيمات الصغيرة مثل الإلكترونات. فتخبرنا ميكانيكا الكم حسب مبدأ تكافؤ المادة والموجة أن المواد لها خصائص موجية، وأن المنظور الماديّ والموجيّ للأشياء وجهان لعملة واحدة. فتساعدنا نظرية (بنية النطاق – Band structure) للمواد الصلبة على فهم، والتحكم في موصلية المواد الصلبة المختلفة حسب فهمنا للطبيعة الموجيّة للإلكترون.
ومن هذا النطاق، وجدنا أن السيليكون مثلًا عندما يضاف إليه شوائب من مواد أخرى مثل الفسفور والبورون؛ تحسن بدورها من أدائه كشبه موصل. أو مثلًا عندما نضع طبقات من السيليكون المشاب بعضها فوق بعض، يكون لدينا ترانزستورات على مستوى النانو؛ فتعطينا الإمكانية أن نملأ لوحة صغيرة لا تتجاوز مساحتها مساحة ورقة بمليارات الترانزستورات التي بدورها تعد حجر الأساس في صناعة الإلكترونيات عامة، سواء كانت حواسيب، أو هواتف خلوية أو حتى ألعاب الأطفال.
وعندما ننظر إلى شاشة الهاتف الخلويّ، نرى ميكانيكا الكم مُتجسدةً فيها. فنظرية بنية النطاق ساعدتنا على التحكم في أشباه الموصلات وتعديلها. وهي أيضًا السبب وراء التكنولوجيا الأقدر في الإضاءة (ومنها إضاءة الشاشات) ألا وهي تكنولوجيا (الصمام الثنائي الباعث للضوء – LED). فعن طريق صمام ثنائي مصنوع من أشباه الموصلات، يسمح للإلكترون بالمرور خلاله من الكاثود إلى الأنود الذي وأثناء ارتحاله، يفقد جزءً من طاقته؛ فيخرجه على شكل فوتون ضوئيّ ذي طول موجيّ محدد.[5]
تكنولوجيا الليزر
لم تكن لتظهر فكرة الليزر لولا الورقة البحثية التي نشرها العالم ألبرت آينشتين في العام 1917 حول تفاعل الفوتونات مع الذرات، والذي بدوره فتح الأبواب لفكرة (الانبعاث المستحث – stimulated emission). وتعتمد الفكرة أنه عند اصطدام فوتون بطول موجيّ معين بذرة ذات طاقة عالية (كأن توضع في درجات حرارة عالية أو تفريغ كهربائي)؛ فإن هذه الذرة تنتج فوتونًا مطابقًا للفوتون الأول.
وعند تكرار ذلك على نطاق ذرات عدة؛ يكون لدينا شعاع ليزر مكثف. ولدى أشعة الليزر نفسها استخدامات عديدة: فهي الأساس لنقل المعلومات باستخدام الألياف الضوئية، وأجهزة الاستشعار والرادار الحديثة، وكثير من أنظمة الحماية الحديثة علاوة على استخدامها في صناعة بعض أدوات القياس الدقيقة، والقطع باستخدام الليزر.[5]
وقد كانت ميكانيكا الكم نظريةً محيرةً للعلماء في مطلعها، ولا ننفي بذلك عنها العجب الذي يلازمها. ولكن محاولة فهمها على ما هو عليه، وتسخير عجبها هذا، أتاح إلينا الوصول إلى عصر التكنولوجيا المبنيّ الذي نعيش فيه، والذي يعتمد بصورة كبيرة على الحواسيب. وما هي إلا سنون، ويحول العلماء ما يحيرنا الآن حول ميكانيكا الكم إلى مخترعاتٍ تغير واقع حياتنا وينقلنا إلى فصلٍ جديدٍ من تاريخ التطور الفكريّ البشريّ.[5]