يقول ابن خلدون: «الإنسان جاهلٌ بالذاتِ، عالمٌ بالكسبِ».. عقلَهُ صفحةً بيضاء، ليس فيها معرفةً قَبْليَّة! ثم تبدأ التجارب بالانتقاش عليها (22)، لتُلونها.. هذا فِعلٌ أبيض، وهذا جُرمٌ أسود، وما بين حدة تناقض الأبعَدَين نَهرُب لعالمٍ من الألوان، عسى أن تَنبُتَ زهرة بريَّة بنفسٍ جرداء، أو حتى يواسينا بصبره -على العطَشِ- خَضار لون الصبّار.. في سطورنا الآتية محاولة متواضعة منّا لوقف الأسود عند حدِه، ومنح الأبيض بعض حظِه، فلا يطغى ولا يُطغى عليه.. ويكون لنا في الألوان حياة!
الواقع.. مزيج من الأبيض والأسود
بسهولة يمكنك رسم الخطوط الأولية لموضوع ما موجود بالواقع (منضدة أو شجرة أو وجه.. إلخ) ولكن ما يغير حالة العمل ويُكسبه نوع من الجمال الواقعي هي بضعة ضربات مُتقنة بالفرشاة باستخدام الأبيض ونقيضه الأسود.
فيمكننا تعريف الرسم بأنه فن استخدام الظل والنور في تلوين لوحة ما بفرشاة في يديك أو باستخدام أحد برامج التصميم على حد سواء لإضفاء حالة من الإيهام بواقعية عمل ما. فأنت بعملك الفني تحاول محاكاة عملية الرؤية الفيزيائية التي نرى العالم بواسطتها من خلال أعيننا. لهذا فعندما ترى عمل فني ما مشابه لهيئته في الحقيقة فأنت تقول: كأنها واقعية أو وكأنها حقيقة!
بل إنك أثناء مشاهدتك فنان ما يقوم برسم لوحاته فقد يبدو لك للوهلة الأولى أن ما يفعله محض عبث، حتى يبدأ بوضع رتوش الأبيض والأسود فينجلي لك عمله إلى تحفة فنية! (1)
(صورة رقم 1)
*(witer in the frost by Piotr Olech (1
سيتسارع إلى ذهنك تساؤل منطقي.. كيف تُؤَوِل جمالية عمل ما إلى الأبيض والأسود في حين أننا نرى أعمالًا فنية لا فيها الأبيض نقيًا ولا الأسود خالصًا، بل أحيانا ما تكون اللوحة كلها بألوان أخرى؟!
تساؤلك مشروع.. في حقيقة الأمر فالألوان التي تراها أمامك لم تكن لتظهر بتلك الصورة الجمالية إلا باستخدام كميات قليلة من الأبيض والأسود، يتم خلطهما باللون الأساسي، لتخرج بتلك النتيجة المُبهرة، وسيتضح لك هذا في الفقرة التالية.
قاعدتان أساسيتان لا تنسهما في علم الألوان:
(كل شيء له لون يكون لونياً، في حين أن الصبغات المحايدة، بما في ذلك الأسود والأبيض، ليست لونية (. (13)
أول ما أخبرنا به أساتذتنا -وهي معلومة قد تبدو لك غريبة نوعًا ما- أنه طبقاً لعلم الألوان فالأبيض والأسود رسميًا لا يدخلان في تصنيفات الألوان. فالأبيض ليس بلون والأسود ليس بلون، وإنما هما أداتان مُعبرتان عن النور والعتمة في الحياة الواقعية نُسقطهما على أعمالنا الفنية لتُضفي عليها بعضًا من الواقعية. فحينما تدخل لمكان مضيئ فأنت لا تقول هذا المكان لونه أبيض وإنما تقول (مُضيئ) وحينما تدخل مكان مُعتم لا تقول هذا مكان لونه أسود، وإنما (مُظلم). فاستخدام الأبيض والأسود هنا هو لتحديد درجة سطوع أو عتمة لون ما. فبخلطك كمية قليلة من الأبيض باللون الأحمر على سبيل المثال ومزجِهما تكون النتيجة الحصول على لون أحمر فاتح، وبخلط كمية قليلة -محسوبة- من الأسود مع اللون الأحمر يعطيك لون أحمر قاتم.
دائرة الألوان (Color Wheel)
تأكيدًا على ما سبق فإذا طالعت دائرة الألوان فلن تجد بها الأبيض أو الأسود. ودائرة الألوان عمومًا تعطينا القدرة على بناء هيكل تنظيمي منطقي للألوان. على سبيل المثال لنفترض أن لدينا مجموعة من الفواكه المُختلفة في ألوانها فبإمكاننا، بالاستعانة بالدائرة تنظيمهم تبعًا لألوانهم وللعلاقة بين تلك الألوان. (4)
(صورة رقم 2)
ودائرة الألوان تقوم بشكل أساسي على ثلاثة ألوان وهي الأصفر والأحمر والأزرق، وهذا مُتفق عليه في النظريات اللونية (Colorimetery)، وإن كان هناك خلاف بين هذه النظريات في عدد الألوان الأساسية، فما درسناه هو أن عددها 24 لون أساسي، إلا أن بعض المصادر البحثية تُعِدُها 12 لون، وحتى لا يتشتت انتباهك فأهم ما هو مُهم لك أن تعرفه أنها جميعًا اشتُقت من المثلث اللوني (الأصفر والأحمر والأخضر)، لم هذه الألوان تحديدًا؟ لأنها تُكون ولا تتكون.. أي بإمكانك اشتقاق باقي الألوان الأساسية منها وليس العكس. (8)
وسنعرف لاحقاً سببًا آخرًا (فسيولوجي) ونحن نستعرض آلية الرؤية بالعين البشرية.
(صورة رقم 3)
*(5)
كما نرى بالشكل المُوضح فعلى رؤوس زوايا المثلث تقع الألوان الثلاثة الابتدائية على شكل دوائر، وعند خلط كل لونين منهما بنسبٍ متساوية ينتج لنا اللون الثانوي بينهما والمُوضح على هيئة مُربع حاد الحواف.. وهكذا بإمكانك اشتقاق ما شئت من درجات لونية.
المعلومة الثانية والتي علمها لنا أساتذتنا الكرام هي أنه حال صنع تدرجات من لون ما باستخدام الأسود بدءًا من لون غامق ثم ذو طلة رمادية، ثم شديد القتامة، حتى الوصول لدرجة قريبة من الأسود.. فهذه التدرجات يُطلق عليها (رماديات-Shades) هذا اللون أي تدرجات نسبة الظل/العتمة في هذا اللون؛ أما في حالة صنع تدريج أفتح من لون ما باستخدام نِسب محددة من الأبيض، فهذا يُسمى بـ (مَسحات-tints) هذا اللون. (8)
(الصورتين رقم 4،5 متتاليتين)
* (Shades)
* (Tints)
أتُرى!
حين أفقأ عينيكَ،
ثم أُثَبتُ جوهرتين مكانَهُما..
هل تَرى؟!
هي أشياءٌ لا تُشترى..
*لا تُصالح/ أمل دنقل (2)
وأنت تقرأ هذه الكلمات فلابد وأن تُولِي قدرًا من الامتنان لعينيك فبفضلهما تُمارس أوجه أنشطتك المعيشية بيُسر، فتنهل من المعارف وتقي نفسك مخاطر الارتطام بكثيرٍ مما قد يعترض طريقك، وتتطلع لحُسن وجهِ أحبتِك، وتنتقي وتُهندم ملبسَك، وتمارس عملك، وتتذوق الفنون.. ولجعل عمل فني ما يبدو جيدًا حينما تراه العين فلابد لنا وأن نفهم كيف ترى أعيننا الأشياء من حولنا، بإيجازٍ غير مُخل سنستطلع قدرًا يسيرًا من سِر تلك الجوهرة المكنونة، بما ويتصل مع الغرض من حديثنا.
مع دوران الأرض حول نفسها، في مسيرتها المُخلصةِ حول كعبة الضياء.. يتعاقب علينا النهار بصحوته وضياءه، والليل بسكونه وظلمته، فتهدأ الحواس المشحونة بلمسة من ستر الظلام وبنقصٍ في القدرة على إدراك المثيرات البصرية التي خبرناها بالصباح، فنقضي أمسية صافية لا نرى فيها جديدًا بأعيُننا بقدر ما تسترجعه وتراه ذاكرتنا؛ لا سيّما، قبل أن يَطيل (أديسون) من سُهادنا بمصباحه!
ولا نغفل عن توصيات أطباؤنا النفسيين -إن لجأت لأحدِهم يومًا ما- بأن نبتعد عن المثيرات الضوئية، أو مطالعة هواتفنا المحمولة عند الخلود للنوم دفعًا للأرق، وبالطبع نصيحة كتلك في عصرنا هذا كمن يستغيث وحيدًا بصحراء خالية!
وليس طبيبك وحده من قد يخبرك بأمر كهذا، بل إن الدارسين للهندسة والتصميم الداخلي للمنازل، إن رجعوا بالذاكرة لمقررات نُظم التحكم البيئي، و(الإضاءة) بالأخص؛ فبالضرورة أنهم تعلموا عند التخطيط لإضاءة غرفة ما أن يأخذوا بعين الاعتبار ثلاثة أنواع من الإضاءات. فهناك الإضاءة الشاملة، وهناك الإضاءة الوظيفية، وهناك الإضاءة الشاعرية. والأخيرة تلك محلها غرفة النوم فهي تُشكل جو الغرفة بخُفُوتِها، جاعلةً إياها دافئة ومُريحة ولا ترهق العين، فتستطيع الخلود للنوم بيسر. (3)
آلية الرؤية بالعين البشرية
القـلب يعشـق كل جميـل.. ويـاما شُـفتي جمـال يـا عيـن
هكذا كتبَها بيرم ولحَنَها رياض وغنتها أُم كلثوم.. وغنينا معها. ولكن يا تُرى كيف رأت أعيُننا هذا الجمال؟!
لنضرب مَثلًا.. ما قيمة وقوفك أمام لوحة تشكيلية في معرض فني، زرتَه ليلًا إن حدث انقطاع بالتيار الكهربي، وصار المكان مُعتمًا؟! هل ترى شيئًا؟ رُغم ذلك فهناك كائنات أخرى قد ترى في تلك العتمة!
ذلك المشهد الذي تُدركه بعينيك ما هو إلا تأثير فسيولوجي حاصل على شبكية العين، سبَّبَهُ ضوء أبيض أو ملون صناعيًا مُنعكس/أو صادر من جسم ما. فهو إحساس، ليس له وجود خارج جهازك العصبي، فالموجات الضوئية ليست مُلونة في الواقع، وما تراه يختلف في لونهِ عما تراه القِطة أو الطائر أو أي كائن آخر، بحسب المستقبلات الحسية اللونية لكل نوع من الكائنات على حدة. (6)
تصل موجات الضوء بأطوالها المختلفة إلى شبكية العين (Retina) بعد مرورها على القرنية والعدسات. والشبكية هي امتداد للجهاز العصبي المركزي، وتتصل بالمخ بواسطة العصب البصري، كما أنها النسيج الحساس للضوء، حيث يحتوي بأحد طبقاته على نوعين من (المُستقبلات الضوئية-Photoreceptors)، وهما المستقبلات الضوئية قضيبية الشكل (Rods) وهذه تتركز بدرجة كبيرة على حواف الشبكية وتكون حساسة للضوء الخفيف، لذا فهي تعمل في ضوء القمر ولا ترى الألوان.
والنوع الثاني هو المستقبلات الضوئية مخروطية الشكل (Cones) وتلك تتركز في (النقرة المركزية-Fovea centralis) وتكون مسؤولة عن حدة البصر، وتعمل في الضوء الساطع. (7)
وهنا نعود لجزئية تحدثنا عنها سابقًا والمتعلقة بمثلث الألوان والمُشتق منه جميع الألوان الأساسية، فالنوع الثاني من مستقبلات الضوء مخروطية الشكل ينقسم بدوره لثلاثة أنواع من المُستقبلات وكل منهم يستجيب لواحدٍ فقط من الألوان الضوئية وهي الأخضر، والأحمر، والأزرق. أما الألوان الأخرى بين تلك الألوان الثلاثة فهي تُنشِط أكثر من نوع من هذه المستقبلات المخروطية.
وتجدر الإشارة إلى أن مرض عمى الألوان (Color blindness)، والذي يكون عادة أكثر شيوعًا في الرجال عنه في النساء، سببه هو خلل وراثي ناتج عن غياب نوع أو أكثر من المستقبلات الضوئية مخروطية الشكل، بحيث لا يستطيع الفرد تمييز لونين عن بعضهما، فغالبية المرضي لا يستطيعون تمييز اللون الأحمر من الأخضر. وهُنا تظهر فائدة أخرى لدائرة الألوان، وهي عدم صلاحية العين البشرية دائمًا لتكون فيصل في معايرة الألوان. فعند شراء قطعة قماش تتعرف العين على لونها، وعند إعادة شراء قطعة أخرى بنفس اللون في وقت آخر نجد أن لون القطعتين قد يختلف عند مقارنة القطعتين سويًا وهو مالم تدركه العين البشرية إلا بالمقارنة بين القطعتين. (6)، (7)، (8)
مثلث لوني أم مُربع لوني!
ذكرنا أن (دائرة الألوان-Color wheel)، والمُشتق منها جميع الألوان الأساسية كانت مبنية على ثلاث ألوان رئيسية وهي (الأصفر والأحمر والأزرق)، بينما المستقبلات الضوئية المخروطية في أعيننا هي (الأخضر والأحمر والأزرق)! في الواقع فإن هذا التصنيف المؤسَس عليه مُثلث الألوان مرجعيته اشتقاقية، بمعنى أن تنظيمه كان مبني على أساس إمكانية اشتقاق باقي الألوان الأساسية من الثلاث ألوان المذكورة، ويمكنك الرجوع للصورة بالأعلى وسيتضح لك المعنى.
واستيفاءً لكل الآراء التعليمية في اشتقاق الألوان الأساسية، فبعض أساتذة الفنون، ومنهم أستاذي الجليل كان يطُالبنا باشتقاق 20 لون أساسيّ في دائرة الألوان من (أربعة) ألوان رئيسية وليس ثلاثة، بحيث يُصبح مجموع الألوان الأساسية بالدائرة 24 لون، وهي نفس فكرة الاشتقاق اللوني في الدائرة السابقة ولكنها هنا مبنية على مُربع ألوان وليس مثلث ألوان، وذلك بإضافة اللون الأخضر لمثلث الألوان، فنكون قد ضممنا جميع الألوان التي تعمل عليها المستقبلات الضوئية في الشبكية، ولكن يبقى (مثلث الألوان) يُكوِن ولا يتكون. فالأخضر الذي أضفناه لهذا المربع يمكن اشتقاقه من نسبٍ متساوية من الأصفر والأزرق، ولكن فائدة مربع الألوان «تنظيمية» أكثر، ليس إلا.
في الصورة التالية قمت بتصميم شكل تقريبي يوضح الأمر، وتذكر أن القضية ليست هل هو مثلث ألوان أم مُربع ألوان فتلك مُجرد (وسائل) تيسيرية للاشتقاق اللوني، وليست (غايات).. فغايتنا هي الحصول -بأسلوب يسير- على أكبر عدد ممكن من الألوان الأساسية بشكل مُنظم تبعًا لتسلسلهم اللوني في الدائرة.
(صورة رقم 6)
وعودة لأصل الحديث بخصوص عدم إدراج الأبيض والأسود ضمن دائرة الألوان فلمزيد من الدقة وحتى لا يحدث لديك التباس فبعض المصادر البحثية تصف الأبيض والأسود مرورًا بالدرجات الظلية المختلفة للرمادي بكونها (ألوان محايدة-Neutrals). (6)
الأبيض.. الأب الغائب!
رُغم وأننا أشرنا مُسبقًا كون الأبيض والأسود عوامل (مُحايدة) تغيب ولا تدخل فعليًا ضمن الألوان الأساسية بالدائرة إلا أن هناك حقيقة لابد وأن نعيها ، وجزء من هذا الوعي أدركناه بإسهامات العلماء، فعندما قام (نيوتن) بتحليل الضوء الأبيض بمنشوره الزجاجي عام 1667 وجد أن الضوء ينكسر من خلال المنشور إلى أشعة طيفية مُلونة، وهي المُكونة لألوان قوس قزح (الأحمر والبرتقالي والأصفر والأخضر والأزرق والنيلي والبنفسجي)، وكان نظريته قائمة على أن الأسطح تمتص الأشعة الضوئية وتعكس منها قدرًا آخر وهو ما يصل لشبكية العين في صورة طول موجي معين ذو شدة تردد ما، يُترجم إلى لون محدد في عقلنا بعد ذلك.
بخلاف ذلك فهناك تجربة بسيطة ولطيفة كنا نقوم بها أثناء دراستنا، وهي أنك إذا أحضرت مروحة هوائية كهربية ذات ثلاثة أذرع ولوَنت كل ذراع منهم كما مثلث الألوان باللون الأصفر والأحمر والأزرق، فستلاحظ مع الدوران السريع أن مزيج هذه الألوان وتداخلهما معًا يعطيك اللون الأبيض! (9)
(صورة رقم 7)
استخدام توزيع الألوان في تأثيرات الظل والنور
أكد (جيبسون-Gibson) في العام 1960 أن التحول في النظام البصري، وليس مُحتوى الإشعاع الضوئي هو ما يحقق الإبصار بإرسال إشارات للمخ بهدف إيجاد علاقات تحمل معنى للرؤيا المُدركة، وأكد (Koenderink) على أنه لا يجوز حصر إدراك اللون على الطاقة الضوئية أو الصبغات الملونة لأسطح العناصر فحسب، وإنما للعلاقات المتبادلة والتفاعلات خلال المجال البصري.
وفي الشكل الآتي توضيح لهذا الأمر، فللوهلة الأولى قد يُتصور للناظر أن الصورة اليُمنى تحوي ألوانًا أكثر مما باليسرى ولكن بالتدقيق تكتشف أن كل مجموع الألوان هنا هو نفسه ما بالأخرى، ولكن ترتيب الألوان تبعًا لدرجات الظل والنور هو ما أعطى هذا الإيحاء. (6)
(صورة رقم 8)
كل ما ترسمه هو ضوء!
ضع نُصب فِكرك أنه لا يوجد خط فاصل بين مشهدِ ما تراه أو صورة تتمعن في جمالها والضوء؛ فهما وجهان لعملةٍ واحدة. فعندما ترسم لوحة ما فأنت تقوم بمحاكاة الأشعة التي تُتَرجَم في عقلك بعد انعكاسها عن الأجسام والأسطح، بألوانها وكثافتها وبريقها، وبشكل مماثل لما يقوم به المخ من تقدير لكمية اللون المنتشر، واتجاهه أو المنظور الذي يُشكله ومدى التباين فيه، ولنُقرب الأمر لك فحينما ترسم اللاب توب أو الموبايل الذي تستخدمه الآن فأنت مُقيد بما يُقدَم لك من أشعة ضوئية مُنعكسة/صادرة منهما، تُترجمها بفرشاتك لشكل يقارب ما تراه، فالضوء هو الهيئة الظاهرة للأشياء، وأنت لا ترسم شيئًا سوى الضوء! (1)، (6)
تجدُر الإشارة إلى أن الضوء الساقط على جسم ما ينعكس قدرًا منه بشكل مباشر-وفي صورة ناصعة- دون أن يمتصه هذا الجسم فيما يُعرف بـ(Specular reflection)، بينما جزء آخر يتم امتصاصه في سطح الجسم ثم يُعاد تشتيته وانعكاسه من جزيئات هذا الجسم وهو ما يُعرف بـ(Diffuse reflection)، وهناك جزء من الضوء يتم امتصاصه تمامًا ولا ينعكس (Absorbed light)، وأخيرًا فبعض الأجسام لديها قدر من الشفافية يسمح للأشعة المُمتصة بأن تجد طريقًا للخروج من هذا الجسم من الجهة الأخرى. وما نحتاج أن نُولِيه قدرًا أكبر من الانتباه في الفن التشكيلي هو النوعين الأوّلَين. (1)
أرجل لامعة!
أصبح حديثنا أكاديميًا نوعًا ما، أليس كذلك؟ سآخذك قليلًا من السرد النظري المُمل، لنتنزه معًا في أرض الواقع. وبصفتك مُستخدمًا لوسائل التواصل الاجتماعي فسأعرض عليك مثالًا من واقع بيئتك الاجتماعية، وبشكل أكثر تحديدًا (صورة)، فلنُلق نظرة ثم نستكمل حديثنا..
(صورة رقم 9)
انتشرت هذه الصورة مؤخرًا بشكل أثار التساؤلات عما إن كانت لأرجل شديدة اللمعان أو أنها فقط مجرد بضعة خطوط من اللون الأبيض! وبخلاف مواقع الفنون البصرية فحتى الوكالات الإخبارية مثل (BBC)، (The Washington Post)، (The Telegraph)، (Fox news)، (RT)، (Time)، (The Huffington Post).. وغيرها الكثير من المصادر تناولت هذه التساؤلات!
لأول وهلة قد تبدو لك هذه الأرجل لامعة وكأنها مطلية بالزيت، خاصة إن رأيتها في حجم صغير على شاشة الموبايل مثلًا، لكن بعد التحقق منها تكتشف أنها مجرد خطوط، ورتوش من الأبيض وضعتها هذه الفتاة على أرجلها في صورتها المنشورة على حسابها باسم (leonadhoespams) على موقع (Instagrame).
في الانطباع الأول تَجري بعقلك عملية قياسية سريعة جدًا بحسب الخبرات البصرية التى مررت بها في حياتك، فبذاكرتك صُورًا مُسجلة لمظهر البشرة اللامعة أو المدهونة بالزيت، وقياسًا عليها تَصور العقل بشكل سريع أن هذه بشرة لامعة، حتى تنتبه لوجود أقلام التلوين بجوار الأرجل وتدقق في التفاصيل لتكتشف أنك خُدعت!
وهذا ينطبق تمامًا على الرسم فهو خداعٌ جميل باستخدام درجات الضوء. (14)
والآن لتناول هذا الأمر من ناحية فنية.. في الواقع فما رأيته في تلك الصورة هو التفسير الحيوي لحديثنا النظري المُمل السابق بخصوص أنواع انعكاسات الضوء (reflection & Diffuse reflection
Specular)، وتحديدًا النوع الأول وهو (Specular reflection) أو الانعكاس المباشر للضوء شديد اللمعان والذي نَتج عن عدم امتصاص الجسم لقدر من الضوء، بل انعكس بمجرد ملامسته للسطح الخارجي.
سأربط أفكارك بالواقع أكثر وسأقوم بتصوير قلم سنون رصاص أمامي، تحت الكشاف الضوئي بكاميرا الموبايل حتى لا يتوقف ذهنك عند المثل السابق فحسب..
(صورة رقم 10)
هل ترى هذا الخط الأبيض الرفيع على القلم؟ هذا الخط الأبيض هو ما جعل العقل يُدرك بأن المادة المصنوع منها هذا القلم مادة لامعة، وإن حاولت رسم هذا القلم على لوحة بشكله اللامع فلن يحدث ذلك إلا إذا أضفت إليه بالفرشاة خطًا أبيض، وهو الأمر الذي فعلته صاحبة الصورة بأرجلها.
وهذا الخط هو القدر من الضوء الذي انعكس بمجرد ملامسته لسطح الجسم (Specular reflection)، في زاوية مماثلة لزاوية سقوط الضوء، بينما اللون الأحمر الفاتح هو موجات الضوء المنعكسة بعد امتصاص الجسم لقدر من الضوء (Diffuse reflection)، وبدون الضوء سيكون كل ما يظهر أمامنا هو الظلام مثلما هو واضح على جانب القلم السفلي، هذا إن رأيت شيئًا أصلًا! والمواد التي تعطي هذا الإيحاء في الضوء عادة ما تكون الأجسام المصقولة جيدًا كالأجسام الزجاجية أو التكوينات المائية أو المعدنية.. أو حبات اللؤلؤ على سبيل المثال!
واهبُ الحياة!
ونبدأ من حيث انتهينا -بخصوص اللؤلؤ- وقياسًا على محور حديثنا وهو الخداع الناتج عن تأثيرات الضوء في عمل ما، فلابد وأن يحضر الذاكرة عملاً فنيًا مُبدعًا للفنان الهولندي (Johannes Vermeer)، نفذه في العام 1665، وهو رائعته (The Girl with the pearl earring) أو الفتاة ذات القرط اللؤلؤي.
(صورة رقم 11)
فقط انظر لتلك اللوحة، التفافتها في استحياء، النظرة العطشة للمجهول، اللمعان الآسر في عينيها، فمُها المُرتوي لتوهِ من كؤوس الأسرار، انفراجة شفاه على وشك البوح بما استُؤثِرَ في الغيب، قرطها اللؤلؤي يُداعب الصمت بلمعانِه الوَهَاج!
ما الذي وهب لتلك اللوحة الحياة؟
وحدَهُ الأبيض!
لمَّ لم أُشرِك معه الأسود؟ لأن الأسود هو حالة من العدمية (انعدام الضوء)، فنستأثر هنا بالذكر (الموجود) وليس المعدوم. (15)
لا عجب أنْ شكَلَ سِحر هذه الفتاة المجهولة -التي لُقبت بموناليزا الشمال- وحيًا للروائية (Tracy Chevalier) لتنسج من خيوطِه رائعتها الأدبية الثانية (Girl with the pearl earring)، والتي نُشرت في العام 1999، وتُرجمت لـ 38 لغة، وبِيع منها أكثر من أربعة ملايين نُسخة، وتم تجسيدها في فيلم سينمائي في العام 2003، أبدعت فيه الخلابة (Scarlett Johansson). (20)
عطفًا على ما سبق من عرضنا لتلك التحفة الخالدة للفنان (Vermeer)، واستخدام فرشاته في إظهار جمال فتاته الخلاب، كعروس تألقت في حُسنها بلمسات من يدِ خبير تجميل، فنتساءل هل من عَلاقة بين استخدام تقنيات الظل والنور في فن البورتريه وفن الماكياج؟!
فن الماكياج.. بين الظل والنور
تُثقل عليك الضغوط فتقرر مكافئة رُوحك بنزهة في حقل الجمال.. فتبتاع تذكرة في إحدى دور العرض لتُشاهد فيلمك السينمائي المُفضل، وباستلامك تذكرة حضور العرض فكأنك أخذت لتوك روشتة طبية وُصف لكَ بها جُرعة مكثفة من دواء الفن!
لنستعرض تلك التركيبة الدوائية.. ها هو جزء أساسي منها بُني على عملٍ روائي مبدع، أخذه منتج قرر عرضه على مُخرجك الجبار، ليُرشد أبطال العمل بخبرته التي يتقاضى أجره عِوضًا عنها، فيُبهرونك بأداء تمثيلي مُتقَن، وجزء أخر يتمثل في الموسيقى التصويرية التي تُشعل حماسك، وتُلهب من مشاعر الترقب بداخلك، وجزء اعتمد على مُخيلة مهندسي الديكور لبناء بيئة مصطنعة تدمجك بأحداث العمل، وجزء ارتجل فيه مصمم الأزياء فألقى عُصِيَّهُ فإذا هي زينةً تكسو أبطال العمل، بما ويلائم فِترته الزمنية، وجزء أتى بهِ فنانِي الماكياج فأخرجوا من جُعبتهم ألوانا تنساب في رقةٍ على وجوه طاقم التمثيل، فترى جمال تلك الفاتنة الأخاذ أو سطوة الزمنِ الجائرة على وجه تلك العجوز أو عضلات هذا المصارع المفتولة!
هل تتذكر الفيلم الملحمي (300) الذي أُنتج بالعام 2006، عن رواية للكاتب (Frank Miller) بنفس الاسم. في الواقع خضع أبطال العمل لبرنامج رياضي مُكثف، ومُرهِق بحسب تصريحات مُخرج الفيلم (Zack Snyder) إلا أنه ذكر أيضًا أن تدخلات فن الماكياج كان لها أثر في ظهورهم بتلك الصورة الأقرب للمثالية، خصوصًا عضلات البطن! (17)
خبراء الماكياج تعاملوا مع الجسد باعتباره لوحة فارغة وبرتوش من درجات الألوان الرمادية، وبعض مَسحات الألوان الفاتحة الأقرب للون البشرة استطاعوا أن يُحاكوا تأثيرات الظل والنور الناتجة عن البروز الحقيقي لعضلات البطن، فيما يُعرف بـ(Six packs contouring)، وذلك بمراعاة نفس مبادئ سقوط الضوء على جسم ما وتأثيرات انعكاس موجاته التي وضحناها سَلفًا، مما كان له كبير الأثر في ظهور أبطال العمل بتلك اللياقة الجسدية الأقرب للمثالية. كذلك كل عملٍ سينمائي فيه مشهدًا مُتقنًا لعمليةٍ جراحية، أو إصابة بالغة الخطورة بالوجه، أو كدمات وتورم بالعين إثر جولة ملاكمة، لم يكن ليخرج بتلك الواقعية في حال عدم اللجوء لأهل التخصص.
فببساطة فن الماكياج هو (رسم) ولكن على البشرة، لهذا فكل فنان بورتريه ناجح هو بالقطع فنان ماكياج ناجح، وهذا سر واقعية العمل الذي أبدعه (Vermeer).، ولكن يتطلب هذا النجاح دراسة تشريحية لعظام وعضلات الوجه.
علم التشريح.. بين الظل والنور
علم التشريح البشري يتعلق بالدراسة الداخلية (Microscopic anatomy)، والخارجية (Macroscopic anatomy) لأجزاء جسم الإنسان. (21)، والهيكل البشري -كموضوع فني- كأي هيكل مادي آخر، حتى ولو مِنضدة، فبحسب فهمنا لتضاريسه نستطيع النجاح في فهم سلوك سقوط الضوء عليه، ومن ثم تطبيق ذلك في الأعمال الفنية!
فالأجزاء الأكثر بروزًا في وجهنا عادة ما تكون هي الأكثر تعرضًا للضوء وبالتالي نرى لونها أفتح من الأجزاء الغائرة. مثال للأجزاء البارزة في عظام الوجه: مُقدمة الجبهة، وعظام الخدين، وعظام الحاجبين وتحديدًا في الركن الخارجي لجفن العين العُلوي، والذقن، وعظام الأنف. أما المناطق الغائرة فعادة ما تكون أقل درجة أو درجتين لونيتين عن البشرة، ليس لاختلاف لون البشرة نفسها ولكن بحسب نسبة وصول الضوء إليها، مما يشكل الـ(Face contouring) الطبيعي لكل شخص، تكفيك نظرة أخرى للوحة (Vermeer) وستدرك هذا الأمر.
في الصورة التالية توضيح للـ (Face cotouring) والمُتبع في رسم البورتريه وفن المكياج على حدٍ سواء باستخدام تأثيرات الظل والنور. (18)
(صورة رقم 12)
أيضًا فالتشريح هو نفس عمود الأساس الذي يقام عليه فن النحت، فما فائدة محاولة نحت جسد بشري وأنت لا تعلم التشريح الهيكلي أو العضلي لجسم الإنسان؟ مؤكد أنك شاهدت الكثير من أعمال النحت لأبطال روما واليونان، لم يكن الفنان ليستطيع محاكاة الجسد البشري دون علمه بأسس التشريح، وإذا حاولت نحت الوجه في الصورة السابقة فستكون مُقيدًا باستخدام تأثيرات الظل والنور المؤثرة على الـ(Face contouring)؛ وزيارة خاطفة منك لإحدى كليات الطب البشري ستكون كفيلة لك بالاطلاع على الهياكل الجسدية المنحوتة، لتكون أداة تعليمية للدراسين، كذلك كليات طب الأسنان، يتعلمون فيها كيفية نحت عظام الفك واللَثة والأسنان، بل أكثر من ذلك يتعلمون فنون التصوير والإضاءة لإظهار نتائج العمليات التجميلية للأسنان (Before & After)! هل أصبح الأمر واضحًا الآن بخصوص اتصال شتى أنواع الفنون بالعلوم؟ يا صديقي العالم مترابط أكثر مما نتصور.
رمزية الألوان عند العرب (Color Symbolism)
*(هذه الفقرة رُغم تطرقها لجوانب دينية إلا أن معناها ذُكر بالمصدر رقم 19 على لسان باحثة أجنبية وهي توضح الفرق بين مفهوم رمزية اللون، وسيكولوجية اللون، وسيأتي ذكر بعض من رأيها في فقرة سيكولوجية اللون)
سَلي الرّماحَ العَوالي عن معالينا، واستشهدي البيضَ هل خابَ الرّجا فينا
بِيـضٌ صَنائِعُنـا، سـودٌ وقـائِـعُنـا، خِــضــرٌ مَـرابـعُنـا، حُــمرٌ مَـواضـِينـا
أنشدها صفيّ الدين الحلي (10)، مُسلطًا الضوء على تأثر الثقافة العربية والإسلامية بالألوان وانعكاس هذا التأثر على رموز المذاهب الدينية، فالأبيض هو رمز الأمويين، والأسود هو رمز العباسيين، والأخضر هو رمز
العلويين والفاطميين.. أما الأحمر، فقد اختاره كل من أشراف مكة والعثمانيين. (11)
ولا تخفى علينا مظاهر الطقوس الصوفية في مصر -تأثرًا بالعهد الفاطمي- وكفى بشارع المُعز خير مثال! فهو قِبلة عشاق الدفء الفاطمي. فمساجدهُ ممتلئة بأضرحة الأولياء المُزينة بالأخضر وعمائم مشايخ الطرق يغلب عليها الأخضر، حتى خيام المُريدين، الهائمين في حضرة الأحبة منسوجة من الأخضر؛ وبالطبع فعامل القبول النفسي والاجتماعي لهذا اللون مُرتبط بمرجعية دينية مُستقاة من النصوص المقدسة، وهو ما يُلقي الضوء على تأثر الفن ومدلولات عناصره بالمرجعية الثقافية لجماعة بشرية ما سواء في الإرث الُلغوي لتلك الجماعة أو إسقاطات نصوصها المقدسة. ففي الكتاب المٌقدس لدي المسلمين نرى وصف ثياب الصالحين منهم في جنتهم الموعودة «وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا»، «مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ»، «عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ»، مما وَرَّثَ في الفِكر الجمعي لأتباع هذا الدين حالة من الارتياح النفسي لهذا اللون، نرى أثرهُ جَليًا حتى الآن.
تأكيدًا على تدخل الإرث اللُغوي في فهم مدلولات الألوان، فقديمًا كان يُعبَر في اللغة العربية -أحيانًا- عن الأبيض من ألوان بشرة (الناس) بكونه أحمر، وكان يتعلق استخدام البياض أكثر في وصف (الأشياء).
«والعرب تقول امرأةٌ حمراءٌ، أي بيضاء. وسُئل ثعلب لمَّ خُصَ الأحمر دون الأبيض، فقال لأن العرب لا تقول رجلٌ أبيض من بياض اللون، إنما الأبيض عندهم الطاهر النقي من العُيوب، فإذا أرادوا الأبيض من اللون قالوا أحمر». ويوضح الأزهري استخدام الأحمر في وصف بياض البشرة: «والقول في الأسود والأحمر أنهما الأسود والأبيض، لأن هذين النعتين يَعُمَّان الآدميين جميعًا»، بينما يوضح الجوهري استخدام الأحمر في وصف الأشياء: «أهلَكَ الرجالَ الأحمرانِ: اللحم، والخمر». (12)
سيكولوجية اللون
يربط العلم عادة بين اللون وتأثيره على الحالة المزاجية للأفراد، وسلوكهم رغم عدم وجود الكثير من الأبحاث في هذا الصدد. (19)، إلا أن الظاهر –لاسيّما من تناقض الأبحاث- أنه لا توجد ألوان محدِدة للجمال وألوان مُحدِدة للقبح، ولا توجد ألوان فاتحة للشهية أو ألوان لكبت الجماح، فتلك صفات نُطبعها على الماديات من حولنا بحسب ما اختبرنا في حيواتنا، وقد وضحنا ذلك في الفقرة السابقة.
فعلى سبيل المثال قد يُعبر اللون الأحمر عن الدموية ويُستخدم في تصميمات طباعية لدعم قضايا مناهضة للإرهاب أو العنف، وعلى النقيض فمن الممكن أن يُستخدم للدلالة على شدة مشاعر الحب، ونراه يتصدر المشهد في المناسبات العاطفية، وفي بعض ربوع مجتمعاتنا له دلالات أخلاقية وقد يُربط بينه -ظُلماً- وبين السمعة السيئة. (19)
وبحسب رأي الباحثة (Angela Wright) فنحن لا نتأثر فعليًا بلون محدد وإنما بطبيعة التجانس بين مجموعة لونية ما، فلا يوجد لون قبيح بحد ذاته، وإنما بحسب السياق أو التكوين الذي يرِد به هذا اللون. (19)
اللون برئ.. لا هو إرهابي ولا هو عاطفي.. ولا هو جنسي.
بل إن ما يتم إلصاقه ببعض الألوان من انطباعات مُسلَم بها ما هو إلا استسهال، غير واعٍ للأبعاد النفسية الشرطية في خبرات حياة شخص ما! فعامل الارتباط الشرطي مستمر معنا حتى نهايتنا في هذا الوجود.. إن انتهينا!
فمن اختبر حادثة سير مفجعة بسيارة حمراء، لن تجدي معه نفعًا كلماتك عن جمالية اللون الأحمر وهو يشترى سيارته الجديدة!
مما سبق يتضح أن المقصود بسيكولوجية اللون هو استطلاع الألوان وتأثيراتها من منظور نفسي، وكما نعلم فالنفس البشرية كيان معنوي مطاطي، لا يمكن تشكيله في قالب ثابت ثم نتوقع أن يكون هذا القالب بمثابة معيار يتطابق مع كل البشر!
إذن لمَ سيكولوجية اللون؟
هي مجرد مؤشرات (تنظيمية) وليست جبرية، فهي مجموعة من المبادئ في صورة نقية، ونقصد بالصورة النقية أي الغير متأثرة بالذكريات إيجابية كانت أو سلبية، فهي تتعامل معك باعتبارك كيان حيادي، أو بمعنى أدق وكأنك طفل وُلد لتوه لم يزدحم عقله بعد بأي ارتباطات شرطية.
في هذا الصدد وُضعت بعض المؤشرات (النسبية)، لتسهيل الأمر على العامة، باعتبارات تفضيلات (الأغلبية)، من خلال بعض البحوث الاستطلاعية، ومن خلال بحثي في هذا الأمر وجدت شرح بسيط ولطيف يُلخص مدلول سيكولوجية اللون وكُتُبِه العريضة في رسم كرتوني موجز وغير مُخل، فقط اضغط على هذا الرابط.. (16)
غرفة ألوانك الخاصة
ذكرنا أثناء حديثنا عن سيكولوجية اللون أن خبرات الإنسان تؤثر على قراراته واختياراته بشكل عام وفي الألوان بشكل خاص، فمن تعرض للحبس في مكان مظلم لشهور أو سنوات، فإنه سيميل لاحقًا لنقيض تلك الذكريات المؤلمة وسيجد راحتهُ في الأماكن المضيئة والدرجات اللونية الفاتحة، لكن يخرج من هذا السرد السابق استثناء مُحير وهو الطفل بطل فيلم (Room)، الفيلم الذي حصل على جائزة أوسكار العام الماضي وفازت بطلته بجائزة أفضل ممثلة عن تجسيدها لدور الأم، فبعد عثور الشرطة على الأم وابنها ونجاتهم بعد الاختطاف والحبس لمدة أعوام في غرفةٍ ضيقة، إلا أننا نرى الطفل يلحُ على والدتهِ في الرجوع للغرفة التي احتُجزوا بها! مما أثار جنون الأم. هل لدى الأم حنين للحرية، بينما يرغب الطفل بالأسر؟ ما سر هذا التناقض؟
لمن شاهد الفيلم ففي فترة احتجاز الأم مع طفلها كان هو كل ما لديها في هذا المكان الضيق فكانت تلاعبه طوال الوقت وتُمتع مخيلته بحكاوي وأقاصيص تُدهشه، كما أن الطفل وُلد في تلك الغرفة، وهي كل العالم الذي يعرفه، لكن بعد خروجهما انشغلت عنه الأم وبدأت تعاني من ذكرياتها السيئة في الاختطاف، هي ترغب في الحصول على عالم مُبهج، نشيط اختبرته قبل اختطافها، والطفل كل أمله عالمه المبهج الذي اختبره في أحضان أمه بالغرفة. إذن فلا يوجد تناقض فعلي، فكل شخص يبحث عن عالمه المبهج الخاص به.
وهكذا نحن، ما بين الأبيض والأسود لكل منا غرفة ألونه الخاصة التي تسعده، وبهجته الذي لا يجدها إلا في لونه الخاص، بهجة متصلة بأحداث حياته، بهجة لا وجود لها على أرض الواقع.. فقط في تلك المساحة الصغيرة من جسدنا (عقلك).
وأخيرًا.. تذكر دومًا أن حياتك لوحتك الخاصة، فلا تسمح لأحدٍ غيركَ أن يُلونُها بألوانه.
______________________
إعـــــداد: عُمر عون
مراجعة: إسلام سامي
المصادر:
1- http://sc.egyres.com/R4sR6
2- http://sc.egyres.com/BCHsJ
3- مُقدمة في نُظم التحكم البيئي/ الإضاءة/ خيري فخري.
4- http://sc.egyres.com/JJZ7F
5- http://sc.egyres.com/AoVmd
6- نظريات الألوان-Colorimetery/ خالد عويس
7- Animal Physiology/L.S.B.N. 977-17-0982-8
8- http://sc.egyres.com/NkMKb
9- http://sc.egyres.com/smWwj
10- http://sc.egyres.com/5DcX8
11- http://sc.egyres.com/Fnx3a
12- http://sc.egyres.com/18011
13- http://sc.egyres.com/kn76t
14- http://sc.egyres.com/9nXAI
15- http://sc.egyres.com/fiI9h
16- http://sc.egyres.com/oJUWs
17- http://sc.egyres.com/KGwNz
18- http://sc.egyres.com/uRmUF
19- http://sc.egyres.com/VDi3A
20- http://sc.egyres.com/Wnawb
21- http://sc.egyres.com/iLOOD
22- http://sc.egyres.com/rtOFw