هل اكتشف الفايكنج العالم الجديد قبل كولومبوس بـ 5 قرون؟

هل اكتشف الفايكنج العالم الجديد قبل كولومبوس؟

ملخَّص دراسة حديثة

في دراسة حديثة نُشرَت في مجلَّة (ناتشر – NATURE)، توصَّل العلماء إلى حقيقة وصول (الفايكنج) إلى العالم الجديد قبل (كريستوفر كولومبوس) بنحو 500 عام، حيث يوضِّح الباحثون:

حدث الاكتشاف عبر المحيط الأطلسي قبل قرون من عبور كولومبوس، حيث عُثِرَ على أدلَّة مادِّيَّة للوجود الأوروبِّي المبكِّر في الأمريكتَين في نيوفاوندلاند وكندا. ومع ذلك، لم يكن التَّحديد لوقت هذا الوصول دقيقًا.(2)

ويستكملون ملخَّص الدِّراسة باستعراض نبذةٍ عن نتائجهم كما يلي:

في هذه الدِّراسة، نؤكِّد أنَّ هناك دليلًا قاطعًا على أنَّ الفايكنج كانوا موجودين في نيوفاوندلاند في عام 1021م؛ إذ تغلَّبنا على عدم دقَّة التَّقديرات السَّابقة من خلال الاستفادة من الارتفاع المفاجِئ الذي أحدثته الأشعَّة الكونيَّة في تركيزات الكربون المُشِعّ في الغلاف الجوِّي في عام 992م. يضع تأريخنا الجديد علامات على الإدراك الأوروبِّي لوجود الأمريكتَين منذ زمن مبكِّر، ومثَّل هذا الإدراك أوَّل نقطة معروفة قام فيها البشر بتطويق الكرة الأرضيَّة. كما أنه يوفِّر نقطة ربط للبحوث المستقبليَّة ليُبنَى عليها بعد ذلك دراسة طُرُق نقل المعرفة، والتَّبادل المُحتَمل للمعلومات، والحيوات، والأمراض عبر المحيط الأطلسي.(2)

من هم الفايكنج

الفايكنج -أو كما عُرِفوا أيضًا بالنُّورمان- هم جزء من المحاربين البحريِّين الإسكندنافيِّين، الذين داهموا واستعمروا مناطق واسعة في قارَّة أوروبا، من القرن 9 حتى القرن 11 الميلادي. كان لهذا الاستعمار والتَّخريب صدًى كبيرٌ في التَّاريخ الأوروربِّي في العصور الوسطى؛ إذ كانت قوَّاتهم تتألَّف من مُلَّاك الأراضي، ورؤساء العشائر، والخدَم، والأحرار، الذين سعَوا وراء روح المغامرة والاغتنام خارج أراضيهم.

وبالرَّغم من أنَّ هؤلاء الإسكندنافيِّين كانوا مستقلِّين ذاتيًّا، وعاملين بالزِّراعة داخل أراضيهم؛ إلَّا أنَّهم كانوا ناهبين للخيرات، ومُغِيرين على البلاد خارج أراضيهم بشكل شديد. وكانت هذه العصابات تعيش في سفن كبيرة، وتشنُّ غارات الكرِّ والفرِّ على المدن والبلدان الواقعة على طول سواحل أوروبا، حتى أُطلِق عليهم اسم «الفايكنج» وتعني «القراصنة» في اللغات الإسكندنافيَّة القديمة.(5)

«هل اكتشف الفايكنج أمريكا حقًّا؟!» إنَّه سؤال يتطلَّب بعض التَّفنيد. بادئ ذي بدء، هناك مشكلة في المنظور الأوروبِّي حول مصطلح اكتشاف؛ إذ يقتصر ذلك المنظور في كونه حركة بحريَّة قادها بعض الرِّجال على متن السُّفُن وصولًا إلى العالم الجديد، متجاهلين بشكل كامل حقيقة أنَّ هناك سكانًا أصليِّين لهذه المناطق، كانوا يعتبرون هذا العالم وطنًا لهم.(1)

المنظور الأوروبِّي لاكتشاف الأمريكتين

بموجب هذا المنظور الأوروبِّي؛ ربَّما نطلق على ما قام به صيَّادو آسيا أنَّهم مكتشفو أمريكا أيضًا. فقد شقُّوا طريقهم إلى آلاسكا، إمَّا سيرًا على الأقدام من سيبيريا عبر جسر برِّي يمرُّ بمضيق بيرينغ خلال العصر الجليدي المتأخِّر؛ أو جاءوا عن طريق القوارب، مُبحرِين بها جنوبًا على طول السَّاحل. وفي كلتا الحالتين، وصل هؤلاء الأشخاص منذ ما يقارب 13.000- 35.000 عام إلى أمريكا، بحيث يعتبرهم أحفادهم اليوم هم السُّكَّان الأصليُّون للبلاد.(1)

وحينما نسأل السُّؤال السَّابق بشكل مختلف: «هل كان الفايكنج هم أوَّل الأوروبِّيِّين الذين وطأت أقدامهم السَّواحل الأمريكيَّة؟»، وإجابة هذا السُّؤال تتوقَّف على ما نعنيه بالضَّبط بأمريكا؛ فإذا كنَّا نشير إلى أمريكا في نطاقها الواسع (أمريكا الشَّماليَّة والجنوبيَّة)؛ فهناك احتمال بأنَّ البولينيزيُّون -سُكَّان بولينيزيا في جزر المحيط الهادي- قد وصلوا هناك أوَّلًا. قد استنتج بعض العلماء باستخدام التَّحليل الجينيّ للبطاطا الحلوة -والتي موطنها الأصليّ هو أمريكا- بأنَّ البولينيزيُّون قد وطأت أقدامهم أمريكا الجنوبيَّة، وأخذوا طريقة زراعة هذه البطاطا عند عودتهم إلى جنوب شرق آسيا وجزر المحيط الهادي. ويؤكِّد العلماء أنَّ هذا الانتقال الزِّراعي قد حدث قبل زمن كريستوفر كولومبوس، ولكنَّهم لا يجزمون فيما إذا حدث هذا قبل زيارات الفايكنج إلى أمريكا الشَّماليَّة.(1)

ما بين الفايكنج وكولومبوس

التَّساؤل عمَّا إذا كان الفايكنج هم أوَّل الأوروبِّيِّين وصولًا إلى أمريكا، يمهِّد الطَّريق للجدل حول الفايكنج وكولومبوس معًا. ولكن أوَّلًا، يجب حساب الرّحلة حسب أسطورة القدِّيس (بريندان)؛ وهي عبارة عن رحلة ملحميَّة كتبها القديس بريندان بصيغة النَّثر اللاتيني، بين منتصف القرن الثَّامن وأوائل القرن العاشر الميلاديَّين.

تحكي هذه الأسطورة أنَّه في القرن السَّادس الميلادي، كان هناك راهب إيرلنديٌّ يُدعى بريندان، يتجوَّل في قارب على شكل وعاء يُسمى (كوراكل)، مع بعض إخوانه من الرُّهبان، أبحروا غربًا عبر المحيط الأطلسي، وقِيل أنَّهم وصلوا إلى حدود أميركا الشَّماليَّة بواسطة هذا الكوراكل. وقد أثبتت التَّحليلات حديثًا أنَّه من المنطقي قَطْع هذه المسافة عبر المحيط الأطلسي بواسطة هذا النوع من القوارب. ولكن بالرَّغم من ذلك، لا يوجد دليل أثري واحد على هذه الزِّيارة الإيرلنديَّة المبكِّرة لأميركا الشَّمالية؛ لذلك استمرَّ الأمر متعلَّقًا بطرفي النِّزاع (الفايكنج وكولومبوس).(1)

ويخبرنا التَّاريخ أنَّه في عام 1492م، وأثناء قيادته لأسطول صغير مكوَّن من ثلاث سفن برعاية إسبانيا بحثًا عن أقصر الطُّرق إلى آسيا؛ وصل كريستوفر كولومبوس إلى أمريكا، وبشكل أدقّ، إلى جزيرة سان سلفادور؛ نتيجة لذلك تمَّ إعلان كولومبوس كمُكتشِف لأمريكا الشَّماليَّة.

ملاحم قديمة

مع ذلك، قاوم العديد من المعارضين هذا الرَّأي. أظهرت عدَّة روايات رحلات الفايكنج إلى مكان يُسمَّى بـ «فينلاند»؛ وهي رحلات تمَّت روايتها في زوج من الملاحم الإسكندنافيَّة في العصور الوسطى كملاحم وقصائد بطوليَّة. ومن هذه الملاحم: ملحمة (Saga of the Greenlanders)؛ والتي بموجبها أصبح (بيارني هيرجولفسون – Bjarni Herjólfsson) أوَّل أوروبِّي يصل البرّ الرَّئيسي لأمريكا الشمالية، وذلك عندما إنحرفت سفينته -المتَّجهة إلى جرينلاند- باتِّجاه الغرب في عام 985م.(1)

بالإضافة إلى ذلك، ورد أنَّه في نحو عام 1000م، قاد (ليف إريكسون – Leif Eriksson) ابن إريك الأحمر -مُستكشِف إسكندنافيا- رحلة استكشافيَّة؛ بحثًا عن الأراضي التي وصلها بيارني من قبله. وعثر إريكسون على أرض قاحلة جليديَّة، سمَّاها (Helluland) أي أرض الصُّخور المُسطَّحة، قبل أن يستكمل رحلته جنوبًا للعثور على فينلاند مرَّة أخرى، وهي كما تُسمَّى «أرض النَّبيذ».

وفي وقت لاحق من الرّحلتين السَّابقتين، قاد (ثورفين كارلسفيني – Thorfinn Karlsefni) -وهو تاجر أيسلندي- رحلة استكشافيَّة أخرى إلى فينلاند، ومكث فيها حوالي ثلاث سنوات. وحسب ملحمة (Erik the Red’s Saga)؛ كان ليف إريكسون هو المُكتشِف الأوَّل لأرض فينلاند، ويُنسَب إلى ثورفين وزوجته (جودريد) جميع الاكتشافات الباقية في نفس النِّطاق.(1)

رحلات العصور الوسطى

اكتشاف مبكِّر

رغم كل هذه الملاحم؛ فقد كان يُعتقَد أنَّها مجرَّد قصص، مثل رحلة القدِّيس بريندان وغيرها. إلى أن جاء عام 1960م، عندما كان (هيلج إنجستاد – Helge Ingstad) وبصحبته عالمة الآثار (آن إنجستاد – Anne Stine Ingstad) قد وصلا إلى الطَّرف الشَّمالي لجزيرة نيوفاوندلاند بمساعدة أحد الرِّجال المحليِّين هناك، حيث اكتشفا في منطقة (لانس أو ميدوز – L’Anse aux Meadows) -وهو موقع أثريّ يقع في أقصى الطَّرف الشَّرقي لجزيرة نيوفاوندلاند، وأشهر مستوطنات الفايكنج في أمريكا الشماليَّة- بقايا معسكر للفايكنج، والذي يعود تاريخه إلى عام 1000م.(1)

اكتشافات مادِّيَّة

الآن تبدو ملامح القرون الوسطى السَّابقة الذِّكر جاهزة لتأييد آخر، ولكن هذه المرَّة من الفضاء؛ حينما قامت (سارة باكاك) -أحد أعضاء فريق ناشيونال جيوغرافيك- باستخدام الأقمار الصِّناعيَّة للكشف عن الهياكل المدفونة في أقصى جنوب فاوندلاند؛ لتزيد بذلك الرَّأي القائل بوصول الفايكنج إلى أمريكا تثبيتًا.

في صيف عام 2015م، بدأت سارة باركاك وفريقها البحثي بتركيز البحث في منطقة (بوينت-رووز) بالقرب من شانيل بورت أو منطقة باسكو -وهي امتداد من السَّاحل العشبي المُطِلّ على مضيق كابوت-. وهناك اكتُشِفَت بقايا من الجدران العشبيَّة ومدفأة للحدادة؛ ممَّا أسفر عن معلومات قيِّمة حول تقنيَّات الإبحار واستخدام المعادن لدى الفايكنج أثناء التنقُّل في رحلاتهم.(3)

المستوطنات في جرينلاند التي انطلق منها الإسكندنافيُّون والمناطق التي
قاموا بتسميتها Helluland و Markland و Vinland.
المصدر: https://www.nature.com/articles/s41586-021-03972-8

وعند انتقال التَّركيز إلى منطقة نيوفاوندلاند، استخدمت سارة أدوات الاستشعار عن بعد لتمشيط المنطقة؛ بحثًا عن أدلَّة في الأجسام المدفونة. وجدت أنَّ التُّربة تحتوي على هياكل مخفيَّة، محفوظة بدرجة رطوبة أقلّ من غيرها في طبقات الأرض؛ ممَّا زاد من احتمال وجود أجسام مدفونة في موقع بوينت-رووز. وخلال تحليل هذه الاكتشافات كان للفايكنج دلالتين، أوَّلهما: أنَّ السِّمتَين المميَّزتَين للجدران العشبيَّة والموقد كانت شائعة جدًا في مستوطنات الفايكنج؛ وثانيهما: هو اكتشاف ما يقارب ال 28 رطلًا من خبث المعادن الموجود في مكان قريب؛ يشير إلى استخدام الموقد المُكتشَف في تحميص خام الحديد، وهو ما اكتُشِف بوفرة في منطقة بوينت-رووز. بمجرَّد صهر هذا الحديد، يُستخدَم النَّاتج منه في تصنيع المسامير التي كانت تربط قوارب الفايكنج السريعة، وهي أداة اِشتُهِر بها الفايكنج في تفوُّقهم البحريّ.(3)

صور العناصر الخشبيَّة. يشير اللون الأبيض X إلى الموقع الذي تم أخذ العينات منه.

وتُشِير التَّحليلات أنَّ الفايكنج استمرُّوا في نيوفاوندلاند وجرينلاند لمدَّة عامين -وخاصَّة في منطقة لانس أو ميدوز- حتى توفِّي آخر مستوطن من الفايكنج في جرينلاند؛ نتيجة المناخ الشَّماليِّ القارس هناك. هذا وقد اختفت قافة الفايكنج بأكملها في القرن 12 الميلادي، وذلك عندما تحوَّل كلٌّ من الفايكنج والدول الإسكندنافيَّة إلى المسيحيَّة.(4)

خاتمة

أثبتت هذه الاكتشافات ليس فقط وصول الفايكنج إلى أمريكا قبل كولومبوس بنحو 500 عام؛ بل أثبتت أيضًا أنَّهم سافروا إلى مناطق أخرى، ووصلوا إلى مزارع العنب في فينلاند. لقد زار الفايكنج أمريكا الشَّماليَّة بالفعل، وإذا لم يكتشفوا أمريكا بالمعنى الدَّقيق؛ إلَّا أنَّه من المؤكَّد أنَّهم وصلوا هناك قبل كولومبوس.(1)

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي