أحمد خالد توفيق: العراب الذي جعل الشباب يقرأون

أحمد-خالد-توفيق-م2

||||

رجلٌ بسيط، آمن بأثرِ الفراشةِ واتّخذه منهجًا، فُتِن بالأدبِ والطِّب، بحثَ عن الفرادةِ في كلِّ شيء، وآمن أن مَن خلفَ الكواليسِ دائمًا أبهى ممن يسعى للظهور، فأخذَ يتهادى في كواليسِه مُنفردًا بنفسِه؛ فنسجَ خيالَه بخفّةٍ، وصنعَ تاريخَه بهدوءٍ، وكتبَ أدبه بتجلٍّ.. وظَّف الطِّب في الكتابة، وأُلهَم بالكتابةِ في الطِّب، هربَ بنفسِه وبِنا من الواقع المرير إلى فانتازيا الماورائيَّات، وبسلاسةِ الفراشة اجتذبنا نحو عالمِه.

حين تنظر إليه بسهولة تجد في ملامحِه البشاشةَ والوقار، وتتلمَّس الطفولة والشباب والكِبَر محفورين في ثنايا وجهه، تلحظ نزعةَ ألمٍ تغلبها ابتسامةٌ صادقة، وحكمةً ترتسمُ على الجبهة، صاحَبَ المرضَ فلم يتبرَّم، وخافَ الموتَ فلم يُنكر، وواجه الحياةَ فلم تستعصِ عليه، جعلَ الكتابة مُتنفَّسه؛ فجعلَ القراءة مُتنفَّسنا. ذلك لأنه مَن «جعلَ الشبابَ يقرأون».. ذلك لأنه: أحمد خالد توفيق.

أخافُ أن أموتَ قبل أن أحيا..

العرَّاب: أحمد خالد توفيق

لا أعتقد أن هناك كثيرين يريدون معرفة شيء عن المؤلِّف.. فأنا أعتبر نفسي -بلا أي تواضع- شخصًا مُملًّا إلى حد يثير الغيظ.. بالتأكيد لم أشارك في اغتيال «لنكولن»، ولم أضع خطة هزيمة المغول في «عين جالوت».. لا أحتفظ بجُثَّةٍ في القبو أحاول تحريكها بالقوى الذهنية، ولم ألتهم طفلًا مُنذ زمنٍ بعيد.. ولطالما تساءلت عن تلك المُعجزة التي تجعل إنسانًا ما يشعر بالفخر أو الغرور.. ما الذي يعرفه هذا العبقري عن قوانين الميراث الشرعية؟ هل يمكنه أن يعيد دون خطأ واحد تجربة قطرة الزيت لـ «ميليكان»؟ هل يمكنه أن يُركِّب دائرة كهربية على التوازي؟ كم جزءًا يحفظ من القرآن؟ ما معلوماته عن قيادة الغواصات؟ هل يستطيع إعراب «قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلٍ»؟ هل يمكنه أن يكسر ثمرة جوز هند بين ساعده وعضده؟ كم من الوقتِ يمكنه أن يظل تحت الماء؟ الخلاصة أننا محظوظون لأننا لم نمت خجلًا من زمنٍ من فرطِ جهلنا وضعفنا.. [1]

طبيبٌ وأديبٌ وروائيٌّ يُعرَف بالاسم الثلاثيّ: «أحمد خالد توفيق»، يُلحَق ذِكره دائمًا ببطلِه العجوز: «رفعت إسماعيل»، وُلد توفيق بمدينة طنطا في محافظة الغربية في 10 يونيو 1962م. وأحبَّ في شبابِه كتب «تيشكوف» و«محمد عفيفي» و«يوسف إدريس»؛ ليعرف الأدبُ الطريقَ إلى قلبِه، التحق بكلية الطِّب متوقِّعًا اعتزاله والاتّجاه إلى الكتابة، ولكنَّه وقعَ في غرامِ الطِّب واستخدمه في الكتابة، وحصلَ على الدكتوراه في طبِّ المناطق الحارّة عام 1997م. والتحقَ كعضوِ هيئةِ التّدريس واستشاريِّ قسم أمراض الباطنة المتوطِّنة في طبِّ طنطا.

لم يكن يرى نفسَه عبقريًّا، قضى حياته في طنطا وكان يكره القاهرة، وقال أن عدم إقامته في القاهرة سبب عدم تحوُّل أيٍّ من رواياته إلى فيلم إلى الآن؛ لأن الأمر يلزمه الإقامة في القاهرة وتعدُّد العلاقات والاختلاط بمن هُم في هذا الوسط، ولكنه فضَّل أن يستبدل هدوء الأعصاب والبُعد عن الصراعات بفُرص وأضواء العاصمة. [2]

الرُّعب: أدبًا، خيالًا، وواقعًا!

كانت بدايته مع المؤسسة العربية الحديثة من خلال كتب الجيب في أدبِ الرُّعب، ورَغم محاولة إقناعه بكتاباته البوليسيَّة إلا إنه لم يجد إليها طريقًا، اشتهرَ بكتابة السلاسل مثل: «ما وراء الطبيعة»، و«فانتازيا»، و«سافاري»، وظلّ إبداعه يتجدد من خلال المجموعات القَصَصية أو الترجمة لروايةٍ عالمية، كما قدَّم روايتي: «يوتوبيا» و«السنجة».

كتبَ في أدب «الرُّعب القوطيّ» وهو أحد فروع الأدب الرومانسيّ الذي يتميَّز بالهروب من الواقع، وظهرَ هذا النوع من الأدب أيام الثورة الصناعية، حيثُ كان الناس لا يطيقون الحياة الخانقة، فبدأ الاهتمام بالخيال عن طريق الغرق في الرومانسية الذي يصحبه الهروب إلى عالم الخيال والأشباح. والذي كان يستغلّه ليتخلّص من مخاوفه عن طريق إخراجها على الورق، فهو لم ينكر أنه كان يخاف هذا العالم، حتى إنه قد يكتب القصّة ويقضي الليل خائفًا منها!

وكان دافعه للكتابة في الرُّعب هو أنه لم يجد ما يكفي لقراءته من أدب الرُّعب؛ فاضطر لكتابته. وسبب هذا هو أنه لم يكن يقرأ إلا الأدب العربيّ فقط، فإنجليزيّته كانت بدائية ولا تسعفه للاسترسال في قراءة رواية كاملة، ولكنَّه وجد فيما بعد أن تلك البدائية هي سبب ما وصل إليه، فلو كان قرأ أدب «شارلوك هولمز» و«لاف كرافت» و«ستيفين كينج» لم يكن ليفكّر في الكتابةِ قط!

وصرَّح العرَّاب أن سبب بعض السودوية في كتاباته هو تشاؤم وكئابة حقيقيون في شخصيّته، فهو لا يملك في الظروف الراهنة أي جُرعة تفاؤل يمكن أن يبثها إلى قُرَّائه؛ ففاقد الشيء لا يُعطيه! [2][3]

أنا من النوع المُكتئب جدًا، وأجد أن الأمور بلغت قدرًا رائعًا من السواد؛ لهذا أحلم.. كل شخصياتي هربت من واقعها إلى عالم الأشباح.. إلى فانتازيا.. إلى أحراش أفريقيا.. لم تبق شخصية واحدة هنا. [4]

وأُرجِع إقبال الشباب على هذا النوع من الأدب إلى الرّغبة في الهروب من أخطار الواقع عن طريق الخوض في أخطار رمزيّة، ولكنَّه على أي حال كان لا يرى للرُّعبِ مستقبلًا في مصر؛ لأن الوضع مُخيفٌ بما يكفي لكي لا نحتاج لخوفٍ رمزيّ.

الشباب ليسوا مجموعة من الملائكة، لكنهم ليسوا شياطين.. سوف يصيرون كذلك لو لم نفِق من غيبوبتنا، ونحن لسنا ملائكة ولا شياطين .. نحن مَلّاحون خائبون غرقت سفينتهم أو كادت.. وعلينا أن نترك قطعة خشب واحدة طافية ليتمسك بها من يأتون بعدنا. [4]

رفعت إسماعيل: البطل الذي خرجَ عن المألوف

لم يعِش في وجدانِ القارئ العربيّ بطلٌ مثلما عاشَ «رفعت اسماعيل»، البطل الذي ابتدعه د.أحمد خالد توفيق في سلسلته «ما ورا الطبيعة»، إنه مُجرَّد طبيبٍ لأمراضِ الدم، يرتدي بدلةً كُحليَّة، يُدخِّنُ السجائر ويسعلُ معها باستمرار، كان المؤنس لمواليد الثمانينيات والتسعينيات، طمأنهم أنهم ليسوا غُرباء، أثَّر على استخدامهم للتعبيرات اللُغوية، وغيَّر لديهم مفهوم الوطن، لقد انتهى «رفعت إسماعيل» مع السلسلة التي قرر الكاتب أن يضع لها نهاية، ورقدَ مُستريحًا من عناء الأساطير، ولكن العزاء أنه تركَ ثمانين عددًا على رفوف المكتبات يُمكن العودة إليها دائمًا، وينضمُ إلى قُرَّائها أجيالٌ جديدة.
لقد حطَّم د. أحمد خالد توفيق بشخصية «رفعت إسماعيل» النمط التقليدي لشكل وشخصية أبطال الروايات على مدار العصور بمختلف الثقافات، البطلُ شديد الوسامة، الشجاع، المغوار، ذو القدراتِ الخارقة، والحظِّ المُحالِفُ دومًا.. لقد كان «رفعت إسماعيل» رجلًا لا يكاد يفقه شيئًا، حزينًا، منطويًا، مريضًا بكل الأمراض التي قد تخطر على بالك، ينتظر الموت في كل ساعة مُشعلًا سجارته، يعيش وحيدًا بسبب فرط رومانسيّته، فقد فضَّل البُعد عن حبيبته الوحيدة حتى لا يتشوّهَ حُبُّهما، ولا يملك أي شيء سوى عقله!

شخصية «رفعت إسماعيل»
شخصية «رفعت إسماعيل»

وهذا النوع من الأبطال هو المُفضَّل عند كاتبنا، ويرى فيه جاذبيةً وسحرًا خاصًا، ربما يرجع هذا السحر إلى نقطة التماهي أو الإسقاط، فهو يُهيِّئ للقارئ الفرصة لأن يتخيل نفسه مكان البطل بكل سهولة، فالبطل ليس «جيمس بوند» بل هو شخص عادي جدًا يملك ما نملك من مخاوف ونواقص.
وقد ارتبط توفيق بهذه الشخصية ارتباطًا كبير، وقد شبهه بالحذاء القديم المُريح، ورغم قسوة التشبيه إلا إنه يراه الأدق، وبسبب حبه لهذا الشخص قرَّر أنه لن يُمَلَّ، ولن يصبح كالرجل الثمانيني العجوز غير المُبهِر، لذلك قرر إنهاء السلسلة القصصية في ذروة تعلُّق القرّاء بها.

كان يتعمَّد أن يبرز شخصيات رواياته قدر الإمكان ليتوارى خلفها، حتى إنه اختفى طول فترة كتابته لمجموعته القصصية «ما وراء الطبيعة»، وجعلَ بطلها شخصية «رفعت إسماعيل» هو من يرد على القرّاء نيابةً عنه في كل عدد؛ فلطالما انبهر توفيق بمن يتوارى في الظل بعيدًا عن الأعين، فهو يُفضّل المُخرِج على المُمثِّل، والمُلحِّن على المُطرِب. [2]

حسنًا.. انتهت قصّة الحُب.. ها هي ذي تدخل ورشة ذكرياتي لإعادة تدويرها، حيثُ يتم الاستفادة بكل شيءٍ منها، سيتم تفكيك ما يصلح منها ليُضاف إلى كومة حكمتي، ومنها ما يصلح نواةً لقصة جيدة، ومنها عُقد نفسية طازجة أضيفها لكومة عُقدي، بعض الأجزاء من وجهها تصلح لتكوين تمثال لفتاةٍ أُريد أن أحبَّها لو قابلتها يومًا ما، بعض الأجزاء سيضيف تجاعيدَ لوجهي أو شعيرات بيضاء في رأسي.. هل بقي ما يكفي لقصيدة؟ لا أظن. أما ما بقى فيصلح للسردِ على مسمع صديقي «أيمن الجندي» في أُمسية حزينة ونحن نمشي في شارع البحر.. الخُلاصة أنني سأستفيد بكل شيءٍ من هذه القصّة.. أما هو فقد أخذها هي ذاتها فقط.. يا لي من محظوظ! [4]

لهذا أصبحَ العرَّابُ عرَّابًا

صرَّح د. أحمد خالد توفيق أن اللقب الذي أطلقه عليه مُريدوه يضفي عليه مسؤوليةً جسيمة، تجعل الناس يتخيّلونه جالسًا على مقعدٍ وثير والجميع يُقبِّلون خاتمه -في إشارةٍ لمارلون براندو في فيلم -God Father- لكنّه في الحقيقة إنسانًا طبيعيًّا يذهب إلى العمل ويسير في الشارع ويبتاع الفول من العربات للإفطار.. وهذه الهالة التي يضفيها قرّاؤه إليه تزعجه عندما يتوقع منه أحدهم أشياءَ أكبر من إمكاناته؛ لذا يُحب التأكيد على كونه شخصًا عاديًا وليس خارقًا للعادة. [3][5]

فقط كُف عن الرثاء لنفسك لأنك لم تملك العالم.. كم من فتاةٍ حسناء عرفت أنها لن تكون لك؟ كم من قصرٍ منيف عرفت أنك لن تطأه بقدميك أبدًا؟ كم من سيارةٍ فاخرة فارهة رأيتها و عرفت أنك لم تملك ثمن إطار واحد منها؟ الأمر لا يختلف يا صاحبى.. مُجرد فقرة جديدة تُضاف لقائمة الحرمان التى يخفيها كل منا فى صدره.. لهذا نحلم بالجنة.. لهذا الجنة ثمينة جدًا.. عسيرة جدًا. [4]

وكان د. أحمد خالد توفيق مُلتزمًا بأخلاقيات الكتابة كما يجب، حيث وضع سقف الرقابة فوق نفسِه بنفسِه، وأبى أن يكتب لفظًا خارجًا واحدًا في أعماله، أو أن تحوي أعماله شيئًا من الجنس أو العنف؛ فقد لامه بعض القرّاء على رواية «السنجة» لاحتوائها على بعض الايحاءات، وذات مرة أخبره قارئ أن صديقه أصبح مُدخنًا بسبب تأثُّره بشخصية رفعت إسماعيل فاعتذر بشدة وشعرَ بالأسف لهذا، وعزمَ ألا يذكر السجائر أو التدخين أبدًا في مؤلّفاته مرة أخرى، وأن تخلو أعماله من كل ما قد يؤذي أو يخدش الحياء. [2]

أكيد هناك أخطاء قاتلة ارتكبتها، لكنّي لا أذكر معظمها -هذه مِزية تفاعُل الهروب الشهير الذي يجعلنا ننسى-. الخطأ الأول الذي أذكره هو كم الرومانسية الفظيع الذي يدفع المرء لتركيبه على أيةِ فتاةٍ تصلح دون اقتناع حقيقيّ. الخطأ الثاني هو أنني انعزلت وقرأت أكثر من اللازم، بينما كان زملائي يمارسون الحياة ولا يقرؤون عنها. ربما كنت بحاجة إلى جرعة انفلات أقوى، لكنّي كنت أشعر بأنني سأغير العالم ولم يكن عندي وقت لهراء الآخرين. اليوم أجد أنهم لم يكونوا بهذه الحماقة.

ولقد كان يرى أنه يخاطب فئة المراهقين والشباب، وهم -على الرغم من انفتاحهم هذا العصر- فئة في غاية الحساسية، واستجاباتهم للمؤثرات من حولهم عالية جدًا، فكان يرى أن هذا جزء من دوره ورسالته، فيقول إنه لا يقبل أن يقلق شابٌ حين يجد أخته الصغرى تقرأ له رواية، بل يجب أن يطمئن لأنها تقرأ لـ: «عمو أحمد خالد». [2]

-للأبد ؟
=ماذا ؟
-ستظل تحبني للأبد ؟
=حتى تحترق النجوم، وحتى تفنى العوالم..
حتى تتصادم الكواكب، وتذبل الشموس..
وحتى ينطفئ القمر، وتجف البِحار والأنهار..

حتى أشيخ فتتآكل ذكرياتي..
حتى يعجز لساني عن لفظ اسمك..
حتى ينبض قلبي للمرة الأخيرة..

فقط عند ذلك ربما أتوقف
ربما..

الكاتب الذي كتبَ سيناريو وفاته

يوم 2 إبريل 2011، عُدت من الكُليَّةِ مُرهقًا.. كانت منال زوجتي في المطبخ تنهي إعداد الغداء. همستُ: «ألا يا عتبة الساعة.. أموتُ الساعة الساعة». لم تفهم ما أعنيه، فقلتُ لها إنه بيتُ شعرٍ لأبي العتاهية كان يمقتهُ لأنه ضعيفُ المستوى.
جلسنا لتناول الغداء.. ثُمَّ.. شعرتُ للحظةٍ بتلك الضرباتِ المختلةِ من قلبي.. نوعٌ من النغبشةِ الكهربيةِ الغريبة.. لا تتوقَّف.. قلتُ لنفسي: «سوف تتوقف حالاً. اصبر»..

(ظلام!)

أفتحُ عيني لأجد دائرةً من الوجوه الباكية: منال.. محمد.. مريم.. كلهم يتوسَّلون لي كي أفتحَ عيني.
ماذا حدث؟ لماذا أنا على الأرض؟ لماذا أنا واهنٌ هكذا؟ هل نحن في النهارِ أم الليل؟ لماذا يبكون؟
بدا لي هذا سخيفًا.. كما أن صديقي «د. رائف وصفي» كان جالسًا في الصالة مما بدا لي غريبًا.. هو لا يأتي من دون موعد أبدًا!
فهمتُ ببطٍء أنَّ قلبي توقَّف عن العمل تمامًا، وسقطتُ على الأرض، وقمتُ ببعض التشنُّجاتِ اللطيفة جدًا.
زوجتي طبيبةٌ، وتعرفُ ما تقول. أما عن محاولات محمد للاتصال بالإسعاف فقد فشلت تمامًا كالعادة، وهكذا اتصل بصديقي رائف ليتصرف.
ما لم أعرفه كذلك هو أن في ذات اللحظة توفَّى صديق عزيز اسمه «رفعت فوزي» بنوبةٍ قلبية. كان رائف على وشك الاتصال ليخبرني بذلك! ما معنى هذا؟
طلبوا مني أن أذهب للطبيب، لكني كنت أعرف شيئًا واحدًا: لو لم أنم الآن لنصف ساعة مع كل هذا التعب، فسوف أموت. توسَّلوا لي لدرجة أنهم تمسَّكوا بقدمي لكني صحت: أتوسل لكم أن تتركوني أنام.. أنتم تقتلونني!
عندما رقدتُّ في الضوءِ الخافتِ بعد ذلك، كنت أفكِّرُ في أحداثِ اليوم. كان من الوارد جدًا أن يكونَ موعدُ دفني هو الأحد 3 إبريل بعد صلاةِ الظهر.
ولكن شاء الله ألا يفقد الصغيران أباهما الآن.. [6]

وفي يوم الاثنين، 2 إبريل 2018، ذهبَ العرَّاب إلى مستشفى عين شمس التخصُّصي، حيثُ خرجَ من بيته في تمام الساعة السابعة صباحًا، ووصلَ إلى المستشفى في تمام الساعة العاشرة، كان الطبيب لم يصل بعد، فانتظره، وبدأت العملية، في تمام الساعة الواحدة ظهرًا، وهي عملية كيّ فى عضلةِ القلب، وهي عملية مُخصَّصة للقضاء على رعشة تصيب القلب.

بعد إجراء العملية، زارته الدكتورة «هيام»، وهي مُتخصصة في كهرباء القلب وقد درستها فى الخارج، ثم قامت بإجراء عدة فحوصات، وقالت له بأن العملية «عدِّت على خير» ولكن من المُحتمَل عودة الرعشة مرة أخرى، ثُمَّ قامت الدكتورة هيام بعمل “DC” لإنهاء الرعشة -وهي عملية تقويم نظم القلب بالكهرباء-.
وتشير أسرة العراب، إلى أنه كان من المُفترض أن يقوم الدكتور أحمد خالد توفيق، بإجراء عملية في الأسبوع المقبل، بعدما يصل إليه الجهاز الذى اشتراه من الخارج، وتأخر في الجمارك.
تستكمل أسرة العراب وتشير إلى أنه بعد ذلك أخذ أدويته، ونام قليلًا، وحينما استفاق في الساعة السادسة والنصف مساءً كان قد استعاد وعيه، ارتدى ملابسه، وطلب أن يشرب الشّاي، وأتت له زوجته به، ثم داعبها بسؤاله عن ابنه: «هو دخل الجيش ولا إيه؟»، لأنه لم يكن حاضرًا حينما أفاق، ثم تحدث معها في بعض الأمور التي تشغله بعده وصوله إلى طنطا.
وتوضح أسرة الدكتور أحمد خالد توفيق، أن ابنه كان في القاهرة، ينهي تدريبًا خاصًا بعمله، وحينما اتصل للاطئمان على والده، أخبرته والدته بأن العملية مرَّت بسلام، وأخبرته أن يأتي في نهاية الأسبوع حتى لا تشغله عن عمله.
وتذكر أسرة أحمد خالد توفيق اللحظات الأخيرة فى حياة العراب، حينما سألَ زوجته عن نظارته، فقالت له أن ينتظر حتى تبحث عنها خارج الغرفة، وحينما خرجت من الغرفة، وعادت قال لها «أنا دايخ»، وقبل أن تستكمل ردّها عليه بأن تأتي له بأكسيجين، كان قد دخلَ في أزمةٍ قلبية نتيجة لعدم انتظام ضربات القلب البطيني، ووصل إليه الأطباء الذين استغرقوا ما يقرب من ساعة في عملية إنعاش القلب بالكهرباء، وإعطائه أدرينالين في القلب.

إذن كان هذا هو الموت، بدا لي بسيطًا مُختصرًا وسريعًا. بهذه البساطة، أنت هُنا.. أنت لم تعد هُنا. والأغرب أنني لم أر أي شيء من تجربة الدنو من الموت التي كتبت عنها مرارًا. تذكّرت مقولة ساخرة قديمة هي أنَّ عزاءك الوحيد إذا مُت بعد الخامسة والأربعين.. هو أنك لم تمت شابًّا!

كان ذلك في تمام الساعة السابعة مساءً، كما تتذكر أسرة العراب، ليظل بعدها الأطباء لما يقرب من ساعة يحاولون إنعاش قلبه بكل الطرق لما يقرب من الساعة. [7]
وتمامًا كالسيناريو الذي كتبه مُنذ سبع سنوات.. ففي 2 أبريل 2018 رحلَ عنَّا العرَّاب، وشاء الله أن يكون موعد دفنه هو 3 إبريل، بعد صلاةِ الظهر..

أنا أقوم بتسليتك بأقل تكلفة، وأقل قدر من التنازلات، لا أريدك أن تهربَ منّي، هناك عبارة يقولها (ر. ل. شتاين): أُريدُ أن أكتبَ على قبري «جعلَ الأطفالَ يقرأون».
أما أنا فأريد يُكتب على قبري: «جعلَ الشبابَ يقرأون».. أقول إنني لست آخر من يكتب.. هناك الكثيرون غيري، وأنا لستُ النهاية أبدًا.. لكن الفكرة هي أنك صرت مُدمن كتاب؛ لأنك ستشعر في وقتٍ من الأوقات أن هذه الروايات لم تعد تصلح لك، أي أنك ستزهدني مثلا على سن 25، 26.. وتبدأ دخول عالمٍ آخر مُعقَّد تجد فيه نفسك، وتجده متفقًا مع ميولك؛ فكل مرحلة عمرية ولها كتاباتها.

وداعًا أيُّها الغريب، كانت إقامتُك قصيرةً، لكنَّها كانت رائعة. عسى أن تجدَ جنَّتك التي فتشتُ عنها كثيرًا. وداعًا أيُّها الغريب، كانت زيارتُك رقصةً من رقصاتِ الظلِّ، قطرةً من قطراتِ الندى قبل شروقِ الشَّمسِ، لحنًا سمعناه لثوانٍ من الدغل، ثم هززنا رؤوسنا وقُلنا أننا توهَّمناه. وداعًا أيُّها الغريب، لكنَّ كلَّ شيٍء ينتهي. [8]

فوداعًا أيُّها القريب…

 

كتابة وإعداد: هبة خميس
مراجعة: آلاء محمد مرزوق
تدقيق لغوي: خالد نصر
تعليق صوتي: حسني أيمن

المصادر:

  1. أحمد خالد توفيق .الآن نفتح الصندوق. دار ليلى للنشر والتوزيع , 2007.
  2. CBC Egypt. #ممكن | الحوار الكامل | لقاء خاص مع الكاتب أحمد خالد توفيق [Internet]. [cited 2018 Sep 12]. Available from: https://bit.ly/2ObBDNC
  3. Library of Alexandria “Bibliotheca Alexandrina” Channel. ندوة الأديب الدكتور أحمد خالد توفيق – مكتبة الاسكندرية [Internet]. [cited 2018 Sep 12]. Available from: https://bit.ly/2x6hYIv
  4. أحمد خالد توفيق [Internet]. [cited 2018 Sep 12]. Available from: https://bit.ly/2Odi9Iu
  5. TeN TV. وصفوا لي الصبر – عمر طاهر مع صنع الله إبراهيم – حلقة الجمعة 2 مارس 2018 [Internet]. [cited 2018 Sep 12]. Available from: https://bit.ly/2NzbFXs
  6. أحمد خالد توفيق: أماركورد [Internet]. [cited 2018 Sep 12]. Available from: https://bit.ly/2x7JXXB
  7. أسرة أحمد خالد توفيق تكشف لـ”اليوم السابع” تفاصيل الساعات الأخيرة.. أجرى عملية فى عضلة القلب الواحدة ظهرًا وآفاق 6:30 وطلب “يشرب شاى”.. تحدث مع زوجته وسأل عن نظارته وقبل أن تجدها قال: “أنا دايخ” ومات فى السابعة – اليوم السابع [Internet]. [cited 2018 Sep 12]. Available from: https://bit.ly/2p1r58S
  8. أحمد خالد توفيق .أسطورة النبوءة. المؤسسة العربية الحديثة للطبع والنشر والتوزيع, 12 May 2002.ما وراء الطبيعة #53 د. رفعت إسماعيل عبد الحفيظ, رضا إسماعيل, رئيفة إسماعيل, د. كاميليا منصور
شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي