يُعد «أخناتون» أحد أكثر الفراعنة إثارةً للجدل في حياته التي شهدت فيها مصر تغييراتٍ دينية وسياسية غير مسبوقة، وحتى تفاصيل نهايته التاركة حيرةً دائمةً في أوساط علماء المصريات حتى الآن.
أخناتون «أمنحتب الرابع»
كان أخناتون أو أمنحتب الرابع قبل أن يغير اسمه في العام السادس لحكمه وليَّ عهد الإمبراطورية المصرية التي امتدت من سوريا حتى ضفاف الشلال الرابع لنهر النيل في السودان كما توضح رسائل تل العمارنة، وهي ألواحٌ طينية منقوشة باللغة المسمارية الأكادية بلغ عددها نحو ثلاثمائة وخمسين لوحًا وُجدت في تل العمارنة، توضح مراسلات دبلوماسية بين ملك مصر وأقرانه من الملوك التابعين للتاج المصريّ في غرب آسيا وغيرها [1].
تُوّج أمنحتب الرابع فرعونًا لمصر بشكل رسميّ من بعد والده الملك «أمنحتب الثالث» ووالدته الملكة «تي» نحو عام 1353 قبل الميلاد. ورغم كونه الابن الأصغر، فإن وفاة أخيه الأكبر جعلته يتولى العهد.
ويعتقد باحثون أنه شارك والديه الحكم بشكل غير رسميّ منذ سن السادسة عشر، الأمر الذي -على غير المتوقع- لم يجعل منه قائدًا محنكًا، حيث تشير رسائل تل العمارنة إلى انصرافه عن السياسة الخارجية وإدارة الإمبراطورية لانشغاله بإصلاحاته وفلسفته الدينية، ما أدى إلى تزايد نفوذ الإمبراطورية الحيثية في عهده، ومهاجمتهم لحلفاء مصر من الممالك السورية والميتانيين، وأغرى الشعوب البدوية هي الأخرى بمهاجمة الممالك الفلسطينية التابعة لمصر[4].
علاقات أخناتون
قبل تتويجه مباشرةً أو بعد ذلك بمدةٍ بسيطة، تزوّج أخناتون من الملكة «نفرتيتي»، لتصبح ملكة مصر الرئيسة وشريكته في الحكم وشريكته أيضًا في عبادة «آتون الشمس» فيما بعد، بل وفي فترةٍ ما -كما يظن باحثون- كانت حاكمةً منفردةً لمصر [5].
ورغم مكانتها العظيمة لديه، ومكانها المتفرد كملكة كما تُظهر المنحوتات التي صُورت فيها مساويةً لزوجها، إلا إنه اتخذ زوجةً غيرها بناءً على رغبة والدته وهي الملكة «كيا»، التي أظهرت أبحاث المجلس الأعلى للآثار المصرية أنها والدة ابنه «توت عنخ آمون» [5].
بالإضافة إلى علاقات ما زالت غير مثبتة الصحة كالعلاقة التي جمعته بكلٍّ من والدته الملكة تي وأخيه «سمنكارع»، حيث ذُكرت الملكة تي في النقوش لأكثر من اثني عشر عامًا بعد وفاة زوجها الملك أمنحتب الرابع بأنها «الملكة ومحبوبة الملك»، ما دعم نظرية (أخناتون-أوديب) التي تشير إلى أخناتون كنموذج تاريخي لأسطورة أوديب [5].
أما علاقته بسمنكارع الذي أشير إليه كمحبوب أخناتون وأيضًا بلقب نسويّ هو «الجمال الفائق لآتون/نفرو نفرو آتون» فمحاطةٌ بالغموض، ويرى باحثون أنه أخ غير شقيق ل‹‹أخناتون›› أو ابن له، بينما يظن آخرون أنه اسم مستعار لإحدى زوجتيه نفرتيتي أو كيا.
إلا أن هذا الظن تدحضه لوحةٌ محفوظةٌ في متحف برلين يبدو فيها أخناتون ملاصقًا لأخيه سمنكارع مطوقًا خصره بإحدى يديه، ويداعب بالأخرى ذقنه بينما يرتدي كلٌّ منهما تاجَ الملك، كما أن انتقال نفرتيتي إلى ضاحية «ظل رع» تاركةً قصرها -طوعًا أو كرهًا- واختفاءها من النقوش الملكية في هذه الفترة يدعم نظرية العلاقة المثلية بين «أخناتون» وأخيه غير الشقيق[5].
آتون وتوجه نحو التمرد
على أن قرص الشمس لم يكن بالوافد الجديد على الحضارة المصرية، كان أخناتون أول من قرر محورته كمعبود في البدء، قبل أن يتحول إلى فكرة التوحيد المطلق [1].
منذ عامه الأول في الحكم، ظهرت دلائل نبذ أخناتون لعبادة «آمون-رع»، فشيّد سلسلةً من معابد آتون داخل مجمع معابد الكرنك الذي كان مخصصًا في هذه الحقبة لعبادة آمون. كما وجه هذه المعابد ناحية الشرق عكس السائد في معابد الكرنك التي كانت موجهةً ناحية الغرب في ذلك الحين، كدليل آخر على ظهور معتقدات أخناتون في وقتٍ مبكر [1].
لعقدٍ وأكثر من حكم أخناتون كان يُشار إلى آتون باعتباره المعبود الأعلى، حتى قرر تغيير اسمه إلى المعبود الأوحد في ثورةٍ على المنظومة الدينية المصرية، أتبعها بحملة تدنيس للآلهة جميعًا، والإلهين آمون و«موت» بشكلٍ رئيسي، حيث شرع وأتباعُه بإزالة اسميهما من كل النقوش القديمة، وتحويل صيغ الحديث عن الآلهة من الجمع إلى المفرد، كما أغلق معابد الآلهة وسرّح كهنتها [1].
ثورة التوحيد
توسّع أخناتون في ثورته الدينية لتشمل الإمبراطورية المصرية جمعاء، من الأهرام والمسلات التي تذكر اسم آمون وحتى حدود مصر بالنوبة عند الشلال الرابع لنهر النيل. ويظهر مدى كراهيته لآمون في أمره بتشويه اسم أبيه واسمه الملكي أمنحتب لتمجيده لاسم آمون في مقطعه الأول [1].
ورغم ذلك، لم يستطع أخناتون إقناع المصريين بعبادة آتون والتخلي عن آلهتهم، فلم يضف المصريون مقطع آتون إلى أسمائهم إلا في أضيق نطاق، حتى أن النحات الملكي صاحب تمثال نفرتيتي الشهير احتفظ باسمه «تحتمس» الذي يكرم الإله «تحوت». كما عُثر على رموز لآلهة قديمة مثل «تحوت» و«بيس» في قلب العاصمة الآتونية تل العمارنة [1].
وكما شهدت مصر في هذه الآونة تغييرات دينية وسياسية غير مسبوقة، شهدت أيضًا توجهًا فنيًا جديدًا، فتختلف منحوتات هذه الفترة -بالذات التي تُصوّر العائلة المالكة- عن الهيئة الجامدة المعتادة مضمونًا وشكلًا، فرُسمت العائلة الملكية في لحظاتٍ حميمةٍ؛ الرسم الذي يوضح أخناتون ونفرتيتي يتبادلان القُبل تحت أشعة آتون مثالًا.
أما شكلًا فقد اتسمت منحوتات هذه الفترة بالتشوّه المتعمد، فنجد الأجساد المنحوتة مخروطية الهيئة هزيلة الأطراف، ورجّح باحثون أن بشاعة أخناتون الشكلية دفعته إلى تغيير طراز الفن المصريّ، فنراه يظهر أنثوي الهيئة بأفخاذٍ ممتلئٍة وبطنٍ سمينة. إلا أن مومياءه-أو ما يرجح أنها كذلك- التي وُجدت في وادي الملوك لا تشير إلى أي تشوه جسدي، ما يجعل هذا الطراز الفني لغزًا ينتظر الحل[4].
أُفول الشمس الآتونية
بعد تركه طيبة عاصمة آمون في العام الرابع لحكمه مبتعدًا عن كهنتها المعارضين متخذًا من تل العمارنة موطنًا له ولديانته، ظل أخناتون بها مدة طويلة يبني لإلهه معابد تحمل رمز قرص الشمس منثورةً في مُختلف جهات القطر المصري بالكرنك، وأسيوط، ومنف، والأشمونين، وسوريا، ونوبيا العليا عند الشلال الثالث [3].
رغم ذلك، لم تعش الديانة الآتونية أكثر مما عاش مبتدعها، ويرى علماء المصريات أن سبب ذلك يكمُن في توجيه أخناتون شعبه لعبادة آتون من خلاله هو كشخص، غير واضعٍ في حسبانه أن ذلك قد يميت ديانته بوفاته [6].
ولم تساعده سياساته في أن تعيش ديانته من بعده، فإلى جانب انصرافه عن السياسة الخارجية، عانى الشعب المصري في عهده من سياسات داخلية مُهمِلة أدت إلى نقص التغذية الظاهر في عظامهم المنقرة، وكثرة موت صغارهم [6].
أيضًا لوحظ انتشار الداء المفصليّ التنكسي بين العمال الذين بنوا عاصمته الجديدة، نتيجًة لعملهم الطويل في الصحراء مع الأحمال الثقيلة بغذاءٍ مقتصرٍ على الخبز والجعة، لذا رغم رغبة أخناتون في محبة شعبه، فإنه لم يعطه من الأسباب إلا التي تجعله يرغب عنه [1].
موت أخناتون
رحل أخناتون عام 1336 قبل الميلاد بعد حياةٍ حافلة، ليتولى الحكم من بعده ابنه من زوجته الثانوية «توت عنخ آمون»، الذي تولى الحكم في سن صغير سمح لكهنة آمون بتحويل عقيدته عن آتون، فنقم على أبيه ومعتقده حتى أنه حوّر المقطع الثالث من اسمه ليصبح توت عنخ آمون عوضًا عن توت عنخ آتون تكريمًا لمعبود مصر الرئيسي آمون. وفي عقودٍ قليلة، عاد آمون وموت إلى مكانتهما يترأسان الآلهة المصرية، ليعود الشعب المصري بذلك إلى آلهته القديمة [2].
وكما هُجرت ديانة أخناتون، هُجرت عاصمته، وأُهملت سيرته في قوائم الملوك المصرية وذُمّت عند ذكرها، حتى من ابنه الذي نقش ذمًا صريحًا لأبيه على إحدى مسلات الآلهة في الكرنك، فيقول نصًا:
معابد ومدن الآلهة الذكور والإناث، من إلفنتين -جزيرة الفيلة- وصولًا حتى مستنقعات الدلتا، كلها أصابها البلى، وأصاب أضرحتها الخراب، فأمست تلالًا يغطيها العشب النامي، لقد تجاهلت الآلهة هذه الأرض [2].
في رسالة واضحة، أهان أخناتون الآلهة بانقلابه عليها، فانقلبت عليه، أما توت عنخ آمون ومن خلفه فسيُعيدون الأمور إلى نصابها مُصلحين ما خربه الملك المارق.
رغم كل ما نعرفه، تظل حياة أخناتون مادةً ثريةً لدارسي علم المصريات وباحثيه، وحتى علوم الأديان والفلسفة وعلم النفس، وتظل أجزاءً كثيرة من حياته تنتظر من يكشف الستار عن غموضها وأسرارها.