على الرغم من التدابير المُحكمة التي اتخذها العديد من الدول للخروج من تبعات الأزمة الاقتصاديّة الناتجة عن أزمة جائحة كوفيد- 19، وما صاحبها من تباطؤ اقتصاديّ عانت منه غالبية الدول، فإن الاقتصاد العالميّ قد بدأ بالفعل في الدخول إلى أزمة اقتصاديّة جديدة لم نشهد لها مثيلًا منذ سبعينيات القرن الماضي، أزمة اقتصاديّة شديدة زادت من حدة الوضع، تمثلت في «أزمة الطاقة» التي بدأت في الظهور مؤخرًا لتبدأ معها معاناة العديد من الدول المستوردة للطاقة، حيث تمثلت هذه الأزمة في نقصٍ حاد في كميات الوقود والغاز الطبيعيّ التي تستخدم في توليد الطاقة الكهربائيّة، أزمة مليئة بالوقود، نتج عنها قطع التيار الكهربائي عن المصانع والسكان. ومع قدوم فصل الشتاء، تتفاقم أزمة طاقة عالمية في الأفق مع مزيد من الطلب على الوقود للتدفئة مما يشكل عبئًا إضافيًّا على الدول المنتجة والمستخدمة على حد سواء. هذا ما دفع الدول المنتجة إلى رفع الأسعار لمواجهة الطلب المتزايد على الطاقة حتى تستطيع تحقيق نوعٍ من الاستقرار في هذا السوق العالميّ المتقلب.
ارتفاع أسعار الوقود
نتيجة لهذه الأزمة، شهدت أسواق الغاز الطبيعيّ في آسيا وأوروبا ارتفاعًا كبيرًا في أسعار الغاز الطبيعيّ لتصل إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق منذ أزمة البترول في سبعينيات القرن الماضي، كما سجّلت أسعار النفط أعلى مستوياتها منذ ثلاث سنوات، مما أدى إلى الاتجاه نحو مصادر طاقة بديلة نتج عنها أيضًا ارتفاع في سعر الفحم الحجريّ المستخدم في محطات توليد الطاقة الكهربائيّة لتعويض نقص الطاقة في كلٍّ من الصين والهند وألمانيا. أزمة طاقة عالميّة وضعت الدول في وضع محرج، تسبب عنه إغلاق العديد من المصانع في الصين، واتباع برنامج عمل يومي يقنن من فترات عملها الأسبوعيّ، بالإضافة إلى انقطاع مستمر في الكهرباء عن مناطق سكانيّة كبيرة.
أسباب أزمة الطاقة العالميّة
يرجع السبب الرئيسيّ لهذه الزيادة في أسعار الطاقة العالميّة إلى الزيادة الكبيرة في الطلب عليها نتيجة تعافي الاقتصادات من تبعات أزمة جائحة كوفيد-19، بالإضافة إلى التغير المناخيّ الذي صاحبه طقس شتويّ بارد وقاسٍ من المتوقع ظهوره في جميع أنحاء أوروبا وشمال شرق آسيا، الأمر الذي أدى إلى حاجتها إلى مزيد من مصادر الطاقة للتغلب على هذا الطقس.
السبب الثاني -والأكثر أهميّة- يتعلق بالدول المنتجة للوقود، حيث تقوم الصين في الوقت الحالي بتخزين منتجاتها واحتياطيّاتها المحليّة من الفحم الحجريّ والغاز الطبيعيّ، لتغطية احتياجات السوق المحليّ، مما ترتب عليه نقص في العرض العالميّ لمصادر الطاقة، كما حذت روسيا حذو الصين وأصبحت مترددة في تزويد أوروبا الغربية بالغاز الطبيعيّ بالرغم من ارتفاع الأسعار العالميّة التي أصبحت أكثر جاذبيةً للحصول على المزيد من الأرباح. كما تشهد أستراليا ارتفاعًا في أسعار الغاز الطبيعيّ، يتوقع انخفاضه في وقت قريب.
هرج ومرج في سعر الوقود
على الجانب الآخر من العالم، تعاني الدول المستهلكة للوقود من انخفاض في مخزونها من الطاقة، ففي بريطانيا على سبيل المثال، أدى النقص في عرض البنزين إلى حدوث حالة من الذعر في أوساط سائقي الشاحنات الذين ينقلون الوقود، مما دفعهم إلى شراء كميات كبيرة منه وتخزينها وسط مخاوف من حدوث نقص في عرضها. ومما ساهم في تفاقم شدة الأزمة، قيام العديد من سائقي الشاحنات الأوروبيين بالعودة إلى دولهم الأصليّة (لأن بريطانيا ليست من الاتحاد الأوروبي) ليزيد الطين بلة وينذر بأزمة جديدة.
الأثر الأسوأ في أزمة الطاقة في بريطانيا نتج عن انخفاض إنتاج الطاقة المتجددة، حيث إن حوالي 24% من الطاقة الكهربائيّة البريطانية تنتجها الرياح، ولكن مشكلة الطاقة في بريطانيا قد ظهرت تبعًا لأزمة أخرى عرفت باسم «صيف بلا رياح»، حيث تسبب عدم وجود رياح صيفيّة في انخفاض إنتاج الطاقة الكهربائيّة المتولدة من الرياح، مما شكّل ضغطًا كبيرًا على توليد الكهرباء في بريطانيا، الأمر الذي دفعها للعودة إلى استخدام الوقود لتوليد الطاقة. إذ قامت بريطانيا منذ فترة بالتَحوّل بعيدًا عن استخدام الفحم الحجريّ كمصدر لتوليد الكهرباء، ومع انخفاض مخزون إمدادات الطاقة الطارئة، أصبحت تجد صعوبة كبيرة في العودة فجأة إلى استخدام الفحم الحجريّ مرة أخرى.
ومع إصرار رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون (Boris Johnson) على التمسك بتوليد الطاقة الكهربائيّة من الرياح تفاقمت الأزمة أكثر وأكثر، حيث يقول إنه يريد أن تصبح المملكة المتحدة «المملكة العربية السعوديّة لطاقة الرياح» أي أن تصبح قادرةً على إيجاد فائض من إنتاج هذه الطاقة النظيفة كالمملكة العربية السعوديّة على حد تعبيره، حيث يتوقع أن تقوم مزارع الرياح البحريّة بتوليد ما يكفي من الكهرباء لتشغيل كل منزل في المملكة المتحدة في غضون عقد من الزمن.
تذبذب أسعار الوقود
مع أزمة الطاقة في أوروبا التي إما نتجت عن الصيف الذي بلا رياح كما هو الوضع في بريطانيا، وإما كانت بسبب انخفاض عرض الغاز الطبيعيّ الروسيّ، الذي أدى إلى صعوبة الحصول على مصادر الطاقة، كانت النتيجة الأكيدة هي ارتفاع أسعار النفط ومصادر الطاقة الدوليّة بشكل كبير وغير مسبوق منذ فترة، ومن المتوقع أن يؤثر قريبًا هذا الارتفاع الرهيب في أسعار مصادر الطاقة على أستراليا التي تستورد 80٪ من البنزين والديزل ووقود الطائرات.
وللتخفيف من شدة الأزمة، اتفقت الدول المنتجة والمصدرة للبترول (دول منظمة أوبك OPEC) بقيادة روسيا على زيادة الإنتاج، ولكن بخطوات محسوبة تضمن حل الأزمة، كما تضمن حقوق هذه الدول في المستقبل.
على الجانب الآخر فإنه من المتوقع أن تنخفض أسعار الغاز الطبيعيّ والبترول بحلول منتصف عام 2022، في حالة ما إذا قامت بريطانيا وألمانيا بإيجاد حل لمشاكل إمدادات الغاز الطبيعيّ مع روسيا، وإن لم يحدث ذلك فإن الأزمة مستمرة إلى أجل طويل.
أزمة الطاقة العالميّة شكلت ضغوطًا إضافية على أستراليا، التي وقّعت على عقود آجلة لتوريد مصادر الطاقة مع كلٍّ من اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، عقود كانت تعتبرها مربحة، ولكنها أصبحت تشكل عليها أعباءً، وعليها أن تفكر في كيفية التعامل بحكمة مع ما يتراوح بين 20 و30 عقدًا تنتهي مدتها في غضون سنوات قليلة قادمة.
فرصة أخرى طرحتها الأزمة، تتمثل في اتجاه بعض الدول الأخرى -مثل فيتنام والهند- إلى تكثيف الاستثمار في مشاريع استخراج مصادر الطاقة في منطقة المحيط الهنديّ والهادئ لتوفير مصادرها الخاصة بالغاز الطبيعيّ لمواجهة هذه الأزمة في المستقبل.
انتعاش الفحم الحجريّ
أجبرت أزمة الطاقة العالميّة العديد من الدول التي كانت تعتمد على سوق الغاز الطبيعيّ على العودة إلى الفحم الحجريّ لتوليد الكهرباء لإنارة المنازل وتشغيل الصناعة، مما أدى إلى استمرار أسعار الفحم الحجريّ في آسيا في الارتفاع والوصول إلى مستويات قياسيّة لم يصل إليها من قبل. حيثُ صاحبت أزمة الطاقة العالميّة أزمةٌ أخرى تتمثل في زيادة الطلب عليه، ومع عجز مناجم الفحم الحجريّ الآسيويّة عن توفير ما يكفي منه لتلبية الطلب المتوقع، زادت حدة الأزمة لتصبح أزمة إنتاج فحم حجريّ. كما أدى توقع فصل شتاءٍ باردٍ عقبَ صيف حار إلى نمو اقتصاديّ قويّ للطلب على الفحم الحجريّ، كان مصدره الأساسي زيادة الطلب الصينيّ عليه، نتيجة لأزمة الكهرباء الناشئة في الصين مع عدم قدرة الصين على توفير مصادر بديلة لتوليد الطاقة في الوقت الحاليّ.
وعلى الرغم من قرار الصين بتخفيف استهلاك الفحم الحجريّ قبل بضعة أشهر لتحقيق هدف إنتاج الطاقة الخضراء لخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وحماية البيئة، فإنها -الصين- عادت مجددًا إلى استخدامه مع انخفاض مخزونات الطاقة البديلة. ومن المتوقع أن تواجه الهند مأزقًا مشابهًا عندما ينفد مخزونها من الفحم الحجريّ.
ومع استمرار أزمة الطاقة في الصين، أشارت بعض التكهنات إلى أنها قد تلجأ إلى الفحم الحجريّ الأستراليّ لتعود مرة أخرى إلى الاعتماد على الواردات الأستراليّة من الطاقة.
أما الانتعاش الأكبر في سوق الفحم الحجريّ فسيكون في أوروبا، إذ إن قرار الإغلاق المبكر لبعض للمحطات النوويّة المستخدمة في توليد الكهرباء مع الارتفاع القياسيّ في أسعار الغاز الطبيعيّ سيترتب عليه تعزيز استخدام الفحم الحجريّ لتوليد الطاقة الكهربائية، وخير دليل على ذلك: وصول سعر الفحم الحجريّ إلى مستويات قياسيّة غير مسبوقة في أوروبا، وكذلك الأمر في أستراليا، حيث ارتفع سعر فحم نيوكاسل بنسبة 250٪؛ نسبة قريبة من أعلى مستوى ارتفاع له في عام 2008.
تطلعات مستقبلة
أزمة الطاقة العالميّة التي نشهدها في الوقت الحالي ألقت الضوء على الكثير من المتغيرات التي يجب أخذها في الاعتبار، حيث أشارت الأزمة إلى ضرورة الانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة مع الأخذ بعين الاعتبار طول الفترة الزمنية التي سيستغرقها هذا التّحول، والتعقيدات المتوقعة المصاحبة لهذا التغير. وعلى الدول بناء خططها الإستراتيجية خاصة في مجال توليد الطاقة بما يضمن وجود عدة بدائل حتى لا تقع الدول في فخ أزمة الطاقة التي تعيشها الدول حاليًا، هذه الأزمة التي ستلقي بظلالها على محادثات تغير المناخ (COP26 UN).