كما تكلمنا سابقًا عن طاليس، سنستكمل اليوم مع من أكملوا مسيرته، وتلميذه الأشهر أناكسيماندر (Anaximander).
هو أحد عباقرة فلاسفة ما قبل سقراط بالتأكيد، وأحد محاربي الفكر الأسطوري المسيطر في تفسير ظواهر الطبيعة، أحد ممن يطلق عليهم “الطبيعانيين”.
هو كذلك يعتبر الفيلسوف الغربي الأول الذي نعلم عنه تدوينه لفلسفته وإن لم يصلنا سوى مسودة واحدة مما دوَّن بخصوص أفكاره وأطروحاته. نموذجٌ معبرٌ آخر عن كيف أن هؤلاء المفكرين السابقين فكروا وتبحروا بخصوص أمور تحيرنا حتى اليوم، بل ووصلوا إلى استنتاجات قريبة إلى ما وصلنا إليه اليوم بخصوص بعضها.
سنحاول في هذا المقال أن نشير لحياته وبعض أفكاره وتميزها، مُلقين درجةً أعلى من الضوء على مراحل الفلسفة قبل السقراطية وإبداعاتها التي ساعدتنا أن نصل إلى ما وصلنا إليه اليوم، ولو بالتأسيس على مستوى المنهج وضرورة البحث والتساؤل.
حياة أناكسيماندر
ولد أناكسيماندر ما بين 610 و611 ق.م في ميليتوس، وهي مدينة قديمة في آسيا الصغرى وتقع اليوم في تركيا، ووقتها كانت جزء من أيونيا؛ مدينة إغريقية قديمة.
لا نعلم عن أسرته الكثير، لكن نعلم أن والده يسمي براكسيديس (Praxiades) ولا نعلم اسم أمه. كذلك نعلم أنه وُلِدَ بعد طاليس (Thales) بـ14 عامًا وأصبح تلميذة في نفس المدرسة الميليسية التي ترأسها بعده. والبعض يطرح فكرة أن بينهم صلة قرابة.
كذلك خالف أستاذه في أمور، كما اتفق معه في غيرها، وذلك نفسه ما سيحدث معه عندما يخالفه بعض طلابه بعد ذلك. فأجمل ما في الفكر الفلسفي أنه لا يدعو إلى التقليد الأعمي، بل إلى المراجعة المستمرة للأفكار الذاتية والموروثة، فلا شيء فوق النقد.
ظهر لنا من تحت يديه بعضٌ من كبار الفلاسفة، فيكفي أن نعرف أن من تلاميذه مثلًا أنكسيمانس (Anaximenes) وفيثاغورس (Pythagoras) وهو كذلك تلميذٌ لطاليس واستكمل تحت يد أناكسيماندر.
تُوفي أناكسيماندر عام 546 عن عمر يناهز 64 عامًا، فيهم جال بفكره كما جال العالم، فقد كان كثير الترحال. وأثرى نفسه كما أثرى مجتمعه، وخُلِّدَ في عالم الفكر والفلسفة بحيث نظل نحكي ونتكلم عنه بعد مرور أكثر من 2500 عام.
فكر أناكسيماندر ومعارضته لأستاذه
يُنسب أناكسيماندر إلى الفلاسفة الطبيعانيين كما أستاذه، وحاول كما حاول أستاذه أن يفكر ويبحث عن أصل ألأشياء، لكنه كذلك عارض أستاذه طاليس في أن الأصل هو الماء، فهو يرى أن الماء كمادة لا يصلح أن يكون أصل كل شيء، فهو له صفاته المميِّزة له، فلا يمكن مثلًا أن ينتج عن الماء شيءٍ جاف، بل يصبح الشيء جافًّا بانفصال الماء عنه، أي هناك وجودٌ بلا ماء.
كذلك ففي نظره أن المادة الأولى لا يسبقها شيء وغير “معينة”، فمثلًا عند تحول الجامد إلى سائل لا بد من حرارة، ولذا فالحرارة والبرودة سابقان هنا على الماء، الذي له صفات معينة وتجعله معين ومميز.
المادة الأولي عند أناكسيماندر
عند أناكسيماندر، فإن المادة الأولى أزلية مادية لا متناهية، وذلك من طريقين؛ من حيث الكيف ومن حيث الكم، وسماها الأبيرون (Apeiron)؛ هي علة الكون الأولى والمفسرة له، هي المبدأ الذي بدأ منه كل شيء، شيءٌ مشابهٌ لفكرة المفردة (Singularity) التي فيها كل ما في الكون منضغط إلى أقصى درجة، ومنها انبثق كل شيء وتشكَّل وتغيَّر. والتشابه هنا لا يعني التطابق، بل محاولة للمس مدى القرب بين ما طرحه أناكسيماندر وما يطرحه العلم الحديث، والذي سيكون أكثر إبهارًا في بعض النقاط عندما نستفيض أكثر لاحقًا.
أما اللانهاية من حيث الكيف فهذا يعني كونها غير معينة كما وضحنا سابقًا، وأما من حيث الكم فهذا يعني ألَّا تكون محدودة، بل تكون مزيجًا من الأضداد ذاتها، ففيها صفة اليابس وصفة الرطب، فيها صفة الحار وصفة البارد، ولكن يتصور أناكسيماندر هاهنا أن كل هذه الصفات كانت مختلطة متعادلة وانفصلت بفعل الحركة، والحركة هنا هي الأساس وما زالت تعمل، ومنها اجتمعت مواد الطبيعة.
من الواضح هاهنا تميز أناكسيماندر عن أستاذه طاليس في تفكيره بخصوص شيءٍ مُجردٍ وفي ذهنه، ولذا يعتبره البعضُ أولَ الميتافيزيقيين في الفلسفة الغربية، ولكنه كذلك كان يعتبر أن للمادة الأولى وجود مادي ومنها نشأت بقية الأمور المادية كما أسلفنا في الذكر والتوضيح، وإن كان هناك خلافٌ من قبل البعض بخصوص فهم هذه النقطة.
وربما من المميز كيف حاجج أناكسيماندر بخصوص المادة الأولى، فلم يطرح فقط الفكرة، بل حاجج بخصوص ما ينقدها بشكلٍ واضحٍ وبحججٍ فلسفية يمكن نقاشها، ولهذا يعتبره البعض الفيلسوف الأول وليس طاليس.
نشأة الكون والأكوان المتعددة
عندما نتكلم عن تميز هذا الرجل يصعب أن يفوتنا كلامه عن وجود أكوانٍ متعددةٍ تظهر في الوجود وتنتهي في دورٍ لا نهاية له، وهو الطرح المشابه لفرضية العالم الإنجليزي الشهير ستيفن هاوكنغ (Steven Hawking)، ولكن عنده كلها تأتي من المادة الأولى أو المبدأ الأول كما يسميه البعض، وعملًا بالتجريد الحاضر بخصوص اللفظ.
كذلك يتكلم عن فضاءٍ تطفو فيه الأرض، فالأرض لا تقبع فوق شيءٍ آخر مثلما تصور غيره، ومنهم طاليس الذي تصور أنها تقبع فوق ماء، ويعتبره البعض أول من وصل إلى ذلك، فنجد شخصًا مثل كارل بوبر (Karl Popper) فيلسوف العلوم الإنجليزي الشهير يكتب عنه قائلًا:
في رأيي، تعتبر فكرة أناكسيماندر واحدةً من أكثر الأفكار جرأةً وثوريةً في تاريخ الفكر البشري، لقد مهدت الطريق لنظريات أريتسارخوس (Aridtarchus) وكوبرنيكوس (Copernicus) من بعدها، ولكن الخطوة المأخوذة من قبل أناكسيماندر هي خطوة أكثر صعوبة وجرأة، فتصور أن الأرض تستقر بحرية في الفضاء والقول بإنها تظل بلا حراك بسبب التوازن (كما أعاد أرسطو صياغة أناكسيماندر) هو إلى حدٍّ ما توقُّعٌ لفكر نيوتن عن اللامادية وقوى الجاذبية غير المرئية.
ولكن يظل أناكسيماندر بشر ولم يكن موفق في كل ما وصل إليه، فنجد أن وصفه لشكل الأرض ذاتها غير موفق، فهو لم يتكلم عن أرضٍ مسطحةٍ بالكامل، بل عن شكلٍ اسطوانيٍّ رأسه مسطح وهي حيث نوجد.
في كل الأحوال يظل ما وصل إليه فكرة مبهرة، ففكرة وجود شيء في الفضاء يطفو بلا شيءٍ أسفله هي فكرة صعبة الاستساغة للعقل القديم بالتأكيد.
تكلم كذلك أناكسيماندر عن كيف أن الأجرام السماوية بعيدة عن الأرض وحولها، فالقمر والشمس خارجها تمامًا، ولكنه أخطأ في التفاصيل وتصور حلقات من النار حول الأرض، أحدهم للشمس وأحدهم للقمر وأحدهم للنجوم، ويمكن أن تتغير أشكالهم ولهذا يتغير شكل القمر.
في تصوره لنشأة العالم، تخيل أن من الأبيرون ظهرت عناصر أربعة (نار، وماء، وهواء، وأرض) ولا تطغى قوة وجود أحدهم على الآخر، وسُمِّي ذلك قانون العدالة. منهم تكونت -وتتكون- الأكوان المتعددة التي أشرنا إليها، وفي ذلك يمكن الاستفاضة كثيرًا، ولكن ما قد يهمنا أكثر هو تصوره لنشأة حلقات النار التي أشار إليها من البخار الذي أحاط بالأرض وكيف تخيل فيها فكرة دوران الأجرام حول الأرض وبعضه في دوائر كاملة، وهي فكرة أخرى ثورية في زمنه.
ومن مسمى قانون العدالة يمكن أن نستوعب كيف تم “شخصنة” المواد بدرجةٍ ما، وحضر جانبٌ أسطوريٌّ من الفكر هو نفسه يقاومه، ولكن غير نافٍ له، فأنيكسماندر لم ينفِ آلهة الإغريق على سبيل المثال، وهذا يجعلنا نشيد به أكثر، فهو لم يجعل معتقده يعيقه عن البحث في فهم وتصورات مخالفة لما نشأ عليه، ومرة أخرى هنا من أكبر مميزات الفكر الفلسفي الباحث في المناهج.
كما نرى، يمكن الكلام كثيرًا عن النقاط الذي وُفِّق فيها والتي فشل بخصوصها، لكن مهمٌّ أن نستوعب عند إدراك ذلك عن أي حقبة زمنية في التاريخ نتكلم.
ومضات عن نظرية التطور وبقية إنجازات أناكسيماندر
وربما مما يستحق أن يبهرنا حقًّا هو تصوره عن نشأة الكائنات من بعضها، فظهرت كائنات تشبه الأسماك من البيئة الرطبة، ومنها أجيالٌ خرجت تدريجيًّا للبر، ومنها نتجت كائنات البر التي نتج منها البشر.
وهنا نتكلم عن طرحٍ بدائيٍّ لنظرية التطور المعاصرة قبل الميلاد، وفي الحقيقة لم يكن أنيكسماندر الوحيد، فتلاه بعد ذلك بعضٌ من الباحثين.
في الحقيقة، تميز هذا الفيلسوف لم يكن فقط في تصوراته هذه، فهو مثلًا أول من نعرف عنه رسم خريطة للعالم؛ تم الاستفادة منها كثيرًا، ومنها تم التطوير والتعديل.
ربما أكثر ما يمكن أن يقال بخصوص ما نعرفه عن فلاسفة ما قبل سقراط هو أن كل ما نتكلم عنه بخصوصهم هو أقل القليل بالنسبة إلى دورهم الذي نعرف أنه كان سياسيًّا واجتماعيًّا وكانت لهم وظائفهم ورحلاتهم إلخ، فبالنسبة إلى طاليس وأناكسيماندر مثلًا، فما وصلنا هو أقل أقل القليل، ومع ذلك مليءٌ بالتعقيد الذي لم يسع المقال توضيحه كله، ومليءٌ بالتميز الذي يتضح حجمه إن أدركنا عن أيِّ زمنٍ نتحدث.
أتمنى أن أكون قد وفيت هذا المفكر حقه ووضحت ما يستحق الإيضاح في المقال ولعلنا لاحقًا نستكمل رحلتنا مع تلميذ أناكسيماندر وقد نتوقف بخصوص الفلاسفة الطبيعانيين الأوائل ونذهب لنتكلم عن غيرهم.