قد يبدو أن التفاؤل الموجود بعامنا الجديد هذا له مبررَاته وخاصةً مع بدْء البرامج الكبرى لتوزيع اللقاحات ضد فيروس CoVid-19، ولكن حتى بعد مرور حالةِ الطوارئ القُصوى الطبية التي سببتها الجائحة، إلا أن العواقبَ الاقتصادية ستظلُ ملموسةً لسنين قادمة، وإيجاد التمْويل للبُحوث البحتةِ حتى في عصورِ الازدهار لم يكن بالأمرِ الهيّن، فهل لا زال من المُمكِن تبرير تمويل مثل تلك الأبحاث لدراسة الفيزياء في الأوقاتِ العصيبة القادِمة؟ في مقالين منفصلين قام كلًا من شيري موراي – Cherry Murray من جامعة أريزونا ونيك ترينور – Nick Treanor من جامعة إدنبره – Edinburgh بالمملكةٍ المتحدة بإعطاء أسبَابٍ لإقناعنا من إمكانية تبرير تمويل مثل هكذا أبحاث، وتتجه شيري في مقالِها إلى إعطاء أمثلة على التأثيراتِ التكنولوجية والصناعية للفيزياء، ومن هذه الأمثلة تجد أن تمويلَ أبحاث الفيزياء عقلانيّ كفاية من المنظورِ الاقتصادي. وفي مقالٍ منفصلٍ، يخبرنا ترينور بأنه وحتى بدون مثل هذه الفوائد الملموسة، فإن تمويلَ أبحاث الفيزياء لازالت مبررةً جدًا لأن الأفكار التي تقدمها الفيزياء للعالم عميقة بشكل خاص، فدعونا إذًا نبدأ في مناقشة تلك الأفكار.
مناقشة بعض الأرقام (شيري موراي)
وضعتْ جائحةُ كورونا الولايات المُتحدة في أَشُدِ ركودٍ اقتصادي مُنْذ الحربِ العالميةٍ الثانية، وبسبب هذا الركود فإن الحكومةً المحلية في سَعيها لإنعاشِ الاقتصاد قد لا ترى الأهمية في الإبقاء على الاستثمارتِ طويلةِ المَدى في مجالِ البحث العلمي وزيادتها، وخاصةً الأبحاث في الفِيزياء، وأنا أرى أن العائدَ من استثمارٍ كهذا كبيرٌ، وأن التمويلَ القوي للأبحاثِ الفيزيائية لا بُد من استمراره، لأن البحوث يمكنها قيادة الاقتصاد نحو التَقدم وتخليق فرصِ عمل.
وبقضائي عِدة سنوات في مجالِ الصناعاتِ عاليةِ التقنية، أرى ثلاثةً أسباب للإبقاء بلْ وزيادة التمويل للأبحاث الفيزيائية في أوقات الكساد. أولُ هذه الأسباب أن التقدمَ العلمي يساهم في النموِ الاقتصادي طويل الأمد من خلال الابتكاراتِ العلمية التي يُقدمها. ومن الأمثلةٍ البارزةِ؛ التقدمُ في مجالِ الإلكترونيات والبصريات التي تَكْمُنُ خلفَ تكنولوجيا الحواسيب والاتصالاتِ الحديثة، ومع ذلك يمكننا أن نَجِدَ بعض الابتكارات ذات الأهميةِ الاقتصادية الكبيرة في مجالاتِ المواصلات، والطاقة، وتكنولوجيا التشييد، وإنتاج الطعام، وتكنولوجيا المياه والصرف الصحيّ، بالإضافةِ إلى مجالات مِثلْ الصحة والقطاع التكنولوجي الحيوي – Biotech.
والطريقةُ الأكثَر وضوحًا لإدراك هذا العائد الاقتصاديّ المُحتمل من الابتكاراتِ في هذه المجالات هو من خلال الاستثمار في المشاريعِ البحثيةِ الفيزيائية المتركزة على تطبيقات الحياة العملية، ومثل هذه المشاريع يكون هدفها الرئيسي هو تخليق تكنولوجيا حديثة أو تحسين التكنولوجيا الموجودة حاليًا، ومثل هذه الأبحاث الفيزيائية تَهْدُف في الأساس إلى تصميم مواد جديدة ذات خصائصٍ معينة حَسْبَ الطلب (ومن أمثلة هذا الجرافين والمواد الأخرى ثنائية الأبعاد)، ومجالُ بحثٍ مثل هذا كان أساسيًا للوصول إلى تخفيض تكلفة بعض الصناعات مثل، الصمامات الباعثة الثنائية – LED، والخلايا الشمسية، وأشباه موصلاتٍ الجهد العالي، وتوربينات الرياح، والذي يعتبر أمرًا أساسيًا من أجلِ التحول إلى الطاقة المتجددة، وساهَمَ علماءُ الفيزياءِ في المشاريعِ البحثيةٍ متعددة المجال بالإسهام في تقنياتِ التصنيع والتحليل الجديدة ، والتي بِدورها أدت إلى تقدمٍ كبير في مجالات مثل مجال أشباهِ الموصِلات ، وصناعة البطَاريات، والصَرْفِ الصحيّ، والصحة.
والسببُ الثاني الذي يدعو إلى الإبقاءِ على التمويل، بل وزيادته له عَلاقة أيضًا بالتقنيّاتِ المبتكرة؛ وهي تلك التقنياتُ التي لها علاقة غير مباشرة بالفيزياء وتهدفُ إلى إشباعِ الفضولِ حول الكون. وكمثالٍ على هذا، فَكِروا في الحاجةِ التي كانت موجودة في الثمانينيات للمشاركةِ العالمية للبيانات من مُسَارعِ الجسيمات على الطاقة في سيرن – CERN ، وحل هذه المشكلة أدى إلى اختراع الشبكة العنكبوتية العالمية، والثورة المعلوماتيّة التي ظهرت في العقودٍ التي تلت ذلك.
وهناك أمثلةُ أخرى امتدتْ لعقودٍ وتناولتْ مفاهيمَ فيزيائيةً مختلفة ومنها: مجالُ البحثِ الرائد في الساعاتٍ الذرية، والتحليل الطيفيّ – Spectroscopy عالي الدقة في خمسينات القرنِ الماضي، بالإضافةِ إلى النسبيّة الخاصة والعامة التي كانتْ سببًا لوجودِ نظام تحديد المواقعِ العالميّ – GPS ، وقد استُخدِمَ الـGPS في بادئِ الأمر لتعقب الأقمار الصناعية في السبعينات، إلى أن أصبحَ واسعَ الانتشارِ في أنظمةٍ التعقب، والهواتف الذكية حولّ العَالم.
وهناك تطبيقاتُ أُخرى تفرعت من مجالِ بحث تصوير الطولِ الموجيّ الفرعيّ – subwavelength imaging والذي طُوِّرَ في التسعيناتِ كطريقةٍ للتغلبِ على حدّ الدقةِ الأسَاسيّ للعدسات التقليدية؛ فإذا بهذه التقنية قد عززتْ البحثَ في تكنولوجيا النانو، وعلم الأحياء، ومجال تصغير المكوناتِ الكهربيّة كالترنزستورات، والمكونات اللاسلكية، مما سمَحَ بظهورِ عصر إنترنت الأشياء – Internet of Things. والمجالُ الطبيّ أيضًا تحول بفعلِ الاكتشافاتِ الفيزيائية: فاكتشاف الرنينِ المغناطيسيّ النوويّ في عام 1938 أدى إلى اختراع أجهزةِ أشعة الرنين المغناطيسيّ المتواجدة في معظم المستشفيات في يومنا هذا، وكذلك التطورات في تكنولوجيا المسارعاتِ المخترعة في خمسينات القرن الماضي، وتُستخدم اليوم بشكلٍ روتينيّ في مجال اكتشاف الأدويةِ، وعلاج السرطان.
والاكتشافاتُ التي تمت في منتصفِ القرن الماضيّ شأنها أن تُسهلَ الأمر على التطبيقاتٍ الطبية الحيويةٍ التي يقودُها الفيزياء مثل مجال علم البصريات الوراثيّ – optogenetics. وهذه التكنولوجيا الحديثة، والتي تأصلتْ على التطوراتِ في تكنولوجيا الليزر، واكتشاف البروتينات الفلورية الخضراء – green fluorescent proteins، مما أدى إلى تطورِ فهمنا لوظائف المخ، والذي قد يساعدنا في المستقبل على علاج الاضطرابات العصبية.
والحُجَّةُ الأخيرةُ لاستكمال الإنفاق على أبحاثِ الفيزياء في هذا الوقت لا علاقة له بالابتكاراتِ نفسها، ولكن إلى الأشخاص الذين يحتاجون إلى استغلالِها، حيّثُ تولدُ البرامج البحثيّة الفيزيائيّة القوة العاملة الفنية التي يتطلبها الاقتصادُ الرقميّ. فحوالي 75% من خريجيّ درجة البكالوريوس، و50% من الحاصلين على درجةِ الدكتوراة في الفيزياء يشغلون وظائف في مجالِ الصناعة، وعلى الرُغِم من ذلك، فإن الشركات تكافح من أجلِ العثور على عمالةٍ كافية ذات خبرة، والحافزُ الحكوميّ له دور مهم في هذا الموقف وهو تمويل أبحاثِ الفيزياء الأساسية والذي من شأنه أن يُشجِعَ المزيدَ من الشبابِ على دراسةٍ الفيزياء.
القيمة الأساسية للمعرفة (نيك ترينور)
تخيلْ أننا في العام 1750 وأنك أردتْ حينها أن تعرفَ مصيرَ الكرةِ الأرضية؛ قراءتُك للكتبٍ وسؤالك للخبراء لم يكن ليجدي حينها، لأن الإجابة لم تكن قد تم حسابها بعد، والطريقةُ الوحيدةُ لاكتشافِ إجابة هذا السؤال هو أن تبحثَ وأن تقوم بالحساباتِ بنفسك. هل الإجابة تستحقُ العناء؟ وإن كانت تستحقُ فلما تستحقه؟ وهل الإجابة تَكمُنُ في المعرفةٍ التي تكتسبها أم في عمليةِ البحث عن الإجابةٍ ذاتها؟
في سبعينياتٍ القرنِ الثامن عشر، وبناءً على اقتراح من إِسحاق نيوتِن نفسه، قام فريق بقضاء سنتين على جانبٍ جبل شيهاليون – Schiehallion الذي تَعصِفُ به الأمطار في سكوتلاندا. وقد كانوا حينئذٍ يعملون على فرضيةٍ أنه إن استطعنا قياسَ كتلةٍ جبل من خلال مُلاحظة انحراف بنَدول معلق قُرب منحدراتِه السفلية، فسيكون بإمكانهم قياس الكثافة المتوسطة لأرض، وقد اختاروا هذا الجبل بالتحديد لأنه له شكل وتركيباتٍ جيولوجيّة منتظمة إلى حدٍ كبير، مما يعده بأن يجعلَ مهمتهم أسهل بعض الشيء ، ولكنه كان لا يزال عملًا شاقًا يتطلبُ مجهوداتٍ جسديةٍ وعقليةٍ وماديةٍ هائلة.
وفي نهايةٍ المطاف، تمكنَ الفريقُ من الإجابةٍ على أسئلتهم بدرجةٍ لا بأس بها من الدقة، ولكن كما الحال في معظمِ المشاريع البحثية العظيمة، فإن خِتامَ هذا العمل جلبَ معه بعض الاكتشافاتِ غير المتوقعة، من أجلٍ تحديد انحراف البندول، كان عليه صقل استخدام تلسكوب القمة – Zenith sector وهو تلسكوب مُصممُ للقياسِ الدقيقِ للمدى الفلكي. وكذلك للتعرف على كتلةٍ الجبل، كان عليهم اختراع مبدأ الخطوط الطوبولوجيّة.
وقد بدى لنا مؤخرًا أن نتائج هذا البحث جعلتْ السنتان اللتان استثمرهما الفريقُ في هذا المشروع مجديتين، المعرفةُ سلطانُ، وعندما تعلم يمكنك حينئذٍ أن تعملَ بعض الأشياء- تفعل الأشياء التي نهتم بها والأشياء القيّمة في وجهةٍ نظرنا، وإن كان هذا هو المبرر الوحيد للجهد، فإن معرفةَ ما إذا كان الجهدُ جديرًا بتحمله أم لا ، يمكن بتقييم النتائج العملية البحتة مقابل ما تتطلبه تلك الفرصة من تكاليف. فعلينا أن نسألَ حينئذًٍ: ماهي الفوائد العملية التي نتجت (والتي قد تنتج مستقبلًا) من هذه الاكتشافات؟ إن لم يقوم العلماء بهذا البحث، فماذا كان يمكنهم أن يفعلوا غير ذلك في هذا الوقت؟ وهل كان من الممكن استغلال الموارد التي لديهم بطريقة أفضل بعض الشيء؟
العلمُ له تكلفته، ونحن ينبغي علينا أن نقررَ أين وكيّف نستثمرُ الوقتِ، والجهدَ، والمالَ الذي لدينا ، والسائدُ أن الألغازَ التي تحيرُ علماءَ الفيزياء قد يكون لها فوائد عمليّة أقل من الألغازِ التي تُحير علماء آخرين في علومٍ أخرى، ولنفترض وللحظة أن هذه هي الحقيقة فعلًا، هل هناك أي سبب يجعلنا نعتقدُ أن الفيزياء تستحقُ دعمًا خاصًا؟
في اعتقادي هناك سبب، والسببُ لقولي هذا لا يعتمدُ على الفيزياء بل على الفلسفةِ (تخصصي) ، وأنا لا أريدُ أن أنطلقَ في سردِ القصةٍ الكاملة لإجابتي هنا في مجلةٍ علمية لعلماء الفيزياء، لكن دعوني أقدمُ رسمًا تخطيطيًا للإجابةِ بالاعتماد على بحثي وأبحاثِ زملائي.
كلُ مجالٍ يهتم بالاستفسارِ وطرح الأسئلة يولّدُ معرفةً، والمعرفةُ أمرٌ جيّد، أمرٌ من الجيّدِ أن نقدرَ السعي من أجلِ الحصول عليه، والفيزياء فريدةُ ولا نظير لها في باقيّ العلوم من حيثُ المعرفة التي تنتجها. وهذه المعرفة ليست أعظمَ لأن مجال الفيزياء أكبر من -ولنقُل مثلًا- مجال الأحياء (فمجالِ الفيزياء هو الكَون بأكمه، أما مجال الأحياء فهو المحيط الحيوي)؛ ولكن لأن كمية المعرفة التي تحتويها نظرية ما، يتم تحديدها بمدى تجردِ الأجسام، والخصائص، والعلاقات التي تهتم بها المعرفة.
وهنا أطرحُ عليكم تشبيه قد يُعطي صورةً واضحة حوّل رأييّ في هذه النقطة: إن تعملتَ أن التفاحةً هي فاكهة فسوف تكتسبُ معلوماتٍ أكثر من أن تعرفَ أن هذه التفاحة هي ملكُ صديقك عفّان. وكلا الأمرين هما معلومات صحيحة عن التفاحة، ولكن كونها فاكهة هي خاصيةُ أساسية للتفاحة بينما كونها ملك صديقك عفّان ليستْ خاصية أساسية.
كلُ مجالاتِ المعرفة تساهمُ في إبرازِ العالم الرائع، لكن الفيزياء تَصِفُ جوانبه الأكثر أساسيةً. وبفعلها هذا، فإن الفيزياء يمكنها أن تُخبِرنا عن العالمِ أكثر من أي شيءٍ آخر، وإذا كان العلم بالشيء الحسن، وزيادته أحسن، فإن الفيزياء تستحقُ دعمًا خاصًا بغض النظر عن الفوئدٍ العملية التي يمكن أن تجلبها لنا.