أين يخزن المخ الذكريات طويلة المدى؟
نظام إيداع داخلي يصنف الأحداث وفقًا للاستخدام قصير أو طويل المدى
حين أُقتُلع الحُصَين (hippocampus)[1] من مخ مريض الأعصاب المشهور، هنري مولايزون (Henry Molaison)، لمعالجة نوباته المرضية عام 1953، تلقى فهم العلم للذاكرة، وبشكل غير مقصود، أكبر دفعة له على الإطلاق. فقد خسر مولايزون القدرة على تكوين ذكريات جديدة للأحداث، وتدهورت قدرته على تذكر أي شيء حدث له في سنته السابقة. بينما لم تتأثر الأنواع الأخرى من الذاكرة، كتعلم المهارات الجسدية، على الإطلاق، ما يقترح كون الحُصَين هي المسؤولة بشكل أساسي عن استدعاء الأحداث – المعروفة بالذكريات “العرضية”[2].
وأكدت المزيد من الدراسات التي أُجريت على بقية المرضى المصابين بتلف في الحُصَين أنه كلما كانت الذاكرة أقرب زمنيًا في حدوثها كلما كان من الأصعب تذكرها. مما يظهر أن الحُصَين توفر مخزنًا مؤقتًا للمعلومات الجديدة بينما تعالج المناطق الأخرى الذكرى طويلة المدى. فالأحداث التي نستطيع تذكرها فيما بعد تبدو وكأنها تُوجه لمخزن أكثر دوامًا بقشرة المخ (Cortex، الطبقات الخارجية للمخ المسؤولة عن الوظائف العليا كالتخطيط وحل المشاكل). ففي قشرة المخ، تتكون تلك الذكريات بشكل تدريجي، وتصبح متكاملة مع المعلومات المتصلة بها، وذلك لبناء معرفة مستدامة عن أنفسنا والعالم.
أما الذكريات العرضية، فمن المقصود توجيهها للمخزن طويل المدى، ففتراكم كي تشكل الذاكرة “الذاتية”، وهي ذاكرة أساسية لشعورنا بالذات. يعلم علماء الأعصاب اليوم الكثير عن كيفية تشكيل الذكريات قصيرة المدى في المخ، إلا أن العمليات المتعلقة بتخزينها طويل المدى مازالت غير مفهومة بشكل جيد.
وفي دراسة جديدة نُشرت في مجلة Science، لعالم الأعصاب سوسومو تونِغاوا (Susumu Tonegawa) ومجموعة من زملائه بمركز RIKEN-MIT للدوائر العصبية الجينية (Neural Circuit Genetics)، توفرت لنا نظرة على ما يحدث بداخل المخ حين تتشكل ذكرى طويلة المدى، مع تسليط الضوء على الدور الحاسم للجزء الأمامي من قشرة المخ. يقول عالم الأعصاب ستيفن مارِن (Stephen Maren)، العامل بجامعة Texas A&M University بـ College Station، والذي شارك بذلك العمل: “يُعد ذلك التحليل الأكثر تفصيلًا لمساهمة الجزء الأمامي من القشرة الجبهة في استرجاع الذكريات حتى الآن”.
تنطلق الدراسة الجديدة لمجموعة تونِغاوا من بحث مسبق يستعرض وجود الذكريات العرضية في مجموعات من الخلايا بأجزاء من الحُصَين. ففي تلك الدراسات، أجرى الباحثون تعديلات في الهندسة الوراثية للفئران كي تتمكن بعض الخلايا العصبية من إنتاج بروتين حساس للضوء. يمكن بالتالي تفعيل أو تثبيط الأنشطة الكهربائية والكيميائية بتلك الخلايا عبر دفعة من الضوء توصل من خلال كابل من الألياف الضوئية، مزروعة في جمجمة كل فأر، تقنية تُعرف بعلم البصريات الوراثي (Optogenetics).
أُعطي للفئران الموصلة بالأسلاك مخدرًا يعيق إنتاج البروتين الحساس للضوء. وبإزالة تأثير المخدر عن الفئران، سمح ذلك بتحفيز الخلايا بتصنيع البروتين بينما كانوا يستكشفون البيئة الجديدة. ويمكن التحكم بتلك المجموعة من الخلايا، المعروفة بذاكرة “Engrams”، عن طريق حِزَم الألياف الضوئية.
وبتلك الأدوات، أعطي المحققون للفئران صعقات كهربائية في أرجلهم بداخل البعض من حظائرهم بدلًا من أخرى. تجمدت الفئران حين وُضعوا مجددًا في بيئة صُعقوا فيها من قبل، ما يشير إلى “ذاكرة خوف”. وحين فَعَّل الباحثون الـ engrams، حفز ذلك نفس رد الفعل الخائف. تُخزن الجوانب العاطفية للذكريات بمنطقة منفصلة، تُدعى باللوزة (Amygdala)، إلا أن تفعيل الـ engram بالحُصَين يُفَعَّل كافة المكونات المتصلة، ما يسمح باسترجاع كامل للذكرى. وذلك يشابه لكيف يحفز صوت أو رائحة لاسترجاع واسع لذكرى سابقة بحياة الفرد.
وفي الدراسة الجديدة، درب الباحثون الفئران للربط بين قفص معين بصعقات في القدم. ثم اختُبرت ذاكرتهم بما حدث في أيام مختلفة في خلال ثلاث أسابيع. وضع الباحثون علامات على خلايا engram بالقشرة المخية وثم فَعَّلُوها بالضوء، ما سبب للفئران أن تتجمد في بيئات لم يُصعقوا بها أبدًا. وجد الفريق أن الـ engrams بالقشرة المخية لم تكُن تُفعل على الإطلاق بالدلائل الطبيعية (وضعهم في الحظيرة التي صُعقوا بها بعد مرور يومين على التدريب)، إلا أنه صار من الممكن تفعيلها بالدلائل الطبيعية بعد 13 يومًا.
يبين ذلك الكشف أنه رغم أن الـ engrams تتشكل على الفور، إلا أنهم يظلون فيما يسميه تونوغاوا في حالة “صامتة”، ما يعني أنه لا يمكن تفعيلها بالدلائل الطبيعية. وتنضج الـ engrams بعد أسبوعين نحو حالة “نشطة”، حيث يستجيبون فيها لتلك الدلائل. وعلى النقيض من ذلك، كانت الـ engrams بالحُصَين تُفَعَّل بالدلائل الطبيعية في اليوم التالي لتلقي الصعقة بالقدم، ولكن ليس في اليوم الثالث عشر – مما يشير إلى أن الـ engrams بالحُصَين تصبح نشطة على الفور، ولكنها تتلاشى تدريجيًا نحو حالة “صامتة”.
يشير بحث تونِغاوا إلى أن وجود أنظمة ذاكرة متكاملة: واحد يسمح بالتشكيل السريع للذكرى ولكن ذات مساحة محدودة، وبالتالي يحتاج لتمرير المعلومات التي من المفترض وضعها في نظام أخر يدوم لفترة أطول ولكنه أبطأ في الاستجابة. مما يسمح بتخلية مساحة في الحُصَين يمكن إعادة استخدامها. يشرح لنا تونِغاوا قائلًا: “هناك تقسيم للعمل. فالحُصَين يمكن أن يشكل ذكريات نشطة بشكل سريع للغاية، بينما تهتم القشرة المخية بالاستقرار طويل المدى. فإذا لم تكن محتاجًا لذاكرة طويلة الأجل، فالحُصَين كافٍ لتحقيق الغرض؛ وإذا لم تكن بحاجة لتشكيل ذكرى نشطة بشكل سريع، فالقشرة كافية لتحقيق الغرض، ولكنا نحتاج الاثنين”.
يساعد ذلك الكشف في توضيح متى وكيف تتشكل الذكريات بالقشرة المخية. حيث اعتقدت نظرية سابقة بأن المعلومات تنتقل ببطء نحو القشرة المخية، إلا أن اكتشافات تونِغاوا تدعم الفكرة البديلة، القائلة بأن الـ engrams الموجودة بالقشرة المخية تتشكل مباشرةً ولكن تتطلب وقتًا للنمو. يقول مارِن: “السؤال المفتاحي لذلك العمل يتمثل فيما إذا كانت الـ engram الخاصة بالذاكرة تتحرك من الحُصَين إلى القشرة المخية أثناء التعلم، ويتم الكشف عنها مع مرور الوقت. وذلك دليل قوي على الزعم الأخير”.
بَيَّن الفريق أيضًا أن حجز المدخلات للوزة القادمة من الحُصَين أثناء اختبار للذاكرة يضعف أداء الذاكرة قصيرة المدى (اختُبرت في اليوم الثاني والثامن) – ولكن لم تتأثر الذاكرة بعيدة المدى (اختُبرت في اليوم الخامس عشر والثاني والعشرين) – حيث بين منع المدخلات عن اللوزة القادمة من القشرة المخية العكس. بعبارات أخرى، الـ engrams الخاصة بالذاكرة في اللوزة قد حوفظ عليها، وكانت ضرورية لاستدعاء ذكريات الخوف – إلا أنه كان هناك تغير في المنطقة التي احتاجت اللوزة للاتصال بها كي تتمكن الذكرى من العمل. يقول تونِغاوا: “الخلايا التي تسمح للفأر بتذكر جانب الخوف من الذاكرة يُحافظ عليها من اليوم الأول إلى الأسابيع الثلاث التالية. إلا أن هناك تحول في استخدام الروابط: ففي خلال ثلاث أسابيع، حين يحمل الـ engram الخاص بالحُصَين، يسمح الاتصال بين engram القشرة المخية الجبهية وengram اللوزة للحيوان باستدعاء ذكرى الخوف”.
يقول عالم الأعصاب هوارد إيكنبايم (Howard Eichenbaum)، مدير مركز الذاكرة والمخ (Center for Memory and Brain) بجامعة بوسطن (Boston University)، والذي لم يكن جزءًا من البحث، بأن الدراسة: “توفر دليلًا قاطعًا حول متى وأين يمكن لخلايا عصبية معينة أن تساهم في شكل محدد من التذكر وذلك بأسلوب أساسي في أوقات معينة خلال وبعد عملية التعلم”. ورغم كونه إنجاز تقني فذ، تطرح الورقة بعض الأسئلة المفتوحة، فيقول إيكنبايم: “الدراسة لا تخبرنا ما إذا كانت هناك خلايا أخرى تُعد مهمة لذلك النوع من الذاكرة، أو أي شيء عن الأنواع الأخرى من الذاكرة. ويضيف بأن النقطة الأكثر أهمية هي أن الدراسة تخبرنا أن بعض الخلايا، في بعض المناطق في أوقات محددة، تشكل ذكريات – إلا أنها لا تخبرنا كيف تساهم في ذلك. حيث يتساءل قائلًا: “أي نوع من معالجة المعلومات التي تساهم بها القشرة المخية الجبهية ليست أساسية للتعلم أو للاسترجاع بعد فترة قصيرة، ومع ذلك تصبح أساسية مع مرور الوقت؟”. كل منطقة مشاركة لها وظائف مختلفة وطرق مختلفة في معالجة المعلومات. ليس منها ما هو مخصص حصريًا للذاكرة، والتي تتكون من دلائل خُلفت بعيدًا أثناء معالجة النظم العصبية للخبرات. فالحُصَين على سبيل المثال تمثل المعلومات المكانية عبر استخدام “موقع” الخلايا التي ترسم خريطة للبيئة، وتعطي شرحًا محتملًا لكيف من الممكن أن تكون مساهمة لمُرَكَب الـ”موقع” في الذكرى العرضية. ليس من الواضح أي دور تلعبه القشرة المخية الجبهية في المعالجة، إلا أن إيكنبايم يخمن بأن دورها يكمن في التنظيم والاختيار بين بدائل قد تصبح أكثر صلة بينما تشيخ الذكريات.
وهكذا، تتشكل ببطء صورة أكثر حسمًا للطريقة التي تعمل بها الذاكرة، وستساعد تلك الاكتشافات الجديدة في الدفع بمزيد من البحث نحو أنواع شتى من الذاكرة.
——————————————-
[1] جزء منحنٍ وممدود في المخ يشارك في مهام تشكيل، وتخزين، ومعالجة الذكريات (http://sc.egyres.com/TbuIt).
[2] ذكرى طويلة المدى لحدث معين اختُبر بشكل شخصي في لحظة أو مكان معين بالماضي (http://sc.egyres.com/5kEUl).
المصدر:
ترجمة وتصميم: هشام كامل
تحرير: يُمنى أكرم
#الباحثون_المصريون
Here is a collection of places you can buy bitcoin online right now.