أُم السيلفي!

Frida_Tr

||

أُم السيلفي!

نظرة إنسانية على حياة الفنانة المكسيكية (فِريدا كالو-Frida kahlo)

1

هل تتمركز قوتنا خلف ثكنات العناد؟ عناد الصعاب، وعناد الألم، وعناد الظروف.. قد يكون، لم لا!

أول ما يتبادر إلى الأذهان عندما يتردد صدى اسم «فِريدا كالو» على مسامعنا هو صورة تلك السيدة ذات النظرة الثاقبة، المُحيرة، بحاجبيها المتصلين في اتحاد، وعلى وجهها أثرشارب خفيف لطفلٍ أمرد يناهز البلوغ. لم تحرِم الشفتين المذمومتين تطلُعهما للظهور فأشبعتهُما بالأحمر الصارخ، في غير انصياع لتنميط حدود جمال جسد الأنثى المُرسخ اجتماعيًا، لها ذوق خاص في ملبسها يُعيد تعريف الألوان ومعانيها، الورود في عالمها ليست مُهملة أو محنية الرأس في أبريق زجاجي على طاولة جانبية! بل صنعت منها إكليلًا، يتموضع بأريحية على خصلات شعرها المضفور بعناية واهتمام، فأولت لها المكانة والصدارة، لتفرض وجودها على الآخر -المُشاهِد-  في رسالة تحدٍ تنحاز للحياة، وتلعن الموت بنظرة عينين ملؤهما العناد.

مدلول السيلفي

تعبير الـ«سيلفي» وإن كان يبدو عصريًا نوعًا ما نُظرًا لربطه بالهواتف الذكية إلا أنه أقدم مما تتخيل، فكل عمل جداري أو فني يقوم الإنسان بالإشارة لنفسه فيه فهو يندرج تحت مصطلح السيلفي، سواء بتعريف العمل الفني بأنه بورتريه شخصي، أو بأن يُصور الفنان نفسهُ في ذلك العمل بهيئته الحقيقية أو لما يرمز لنفسه به، وسواء رسم نفسه فقط أو رسم معه أشخاص آخرين، أو حتى إن صوَر نفسَه في أي موضوع آخر له، دون تقيُد بنفس واقعية التصوير الفوتوغرافي، فما يُعبر به الفنان التشكيلي عن نفسه يخضع لرؤيتِهِ الخاصة. (4)
وعليه فنستطيع أن نعتبر أقدم الآثار الفنية المُكتشفة للإنسان الأول والتي عبر فيها من خلال النحت على جُدر الكهوف عن مخاوفه من أهوال الطبيعة وباقي المفترسات، ورسومه التي يرتدي فيها الأقنعة لكي يختفي عن السحر، فلا يتأثر به (سيلفي) طالما رسَمَها أو شكَلَها بيديه، لم يرسمها أحد نيابةً عنه. (6)

معظم الفنانين التشكيلين خاضوا تجربة البورتريه الشخصي بنسب تتقارب فيما بينها عدديًا، وهو أمر مشابه لفكرة التقاطك صورًا شخصية بهاتفك مع اختلاف الأدوات، والوقت الذي يستغرقه ذلك، والأهم من ذلك احتواء العمل على جانب فني ولكن عندما تتمحور معظم أعمالك حول شخصك وجسدك! فهو أمر يستلزم وقفة لملاحظته عن قرب.

أُم السيلفي!

فِريدا فنانة مكسيكية اشتهرت بالعديد من اللوحات الشخصية التي كانت ترسمها لنفسها بما فيها من دلالات وإسقاطات عديدة، يتمحور معظمها حول خبرات شخصية ممتلئة بالألم والشغف، في جرأة تخطف الأبصار وألوان صارخة تُصارع للبقاء! تقترب أعمالها في العدد من المائتين، منها 143 عملًا متعلقًا بحياتِها الخاصة، ونُضيف إليهم 55 عملًا في صورة بورتريه شخصي، (2) ولكثرة لوحاتِها التي رسمتها لنفسها فقد عُرفت بـ(أُم السيلفي-Mother of selfie). (7)

2

«أرسم نفسي كثيرًا لأنني دومًا وحيدة، ولأنني أكثر شخص أعرفه جيدًا!». فريدا كالو

طفولة غير بريئة!

ليس الشعراء وحدهم يولدون من رحم العذاب! فلم تحظ فِريدا بفترة طفولة تُحسد عليها؛ كيف وقد عانت في سنواتها الأولى من مرض شلل الأطفال، والذي أثرَعلى شكل قدمها اليمنى وعلى طريقة سيرها، فتتعرض لسخرية مستمرة من أقرانها في الصغر، تضطرها تلك السخرية لأن تتخيل رفقاء وهميين تستأنس بهم في وحشتها. (1)  لتُلقي عليها الحياة بأثقالها بعد ذلك، على حين غفلة وسط نشوة أحلام المراهقة، فتختبر حادث سير قُدِر لها النجاة منه بأعجوبة.. أو لم تنج! فقد تحطم جسدها تمامًا، أُصيبت بضرر في العمود الفقري وكسور بعظام الحوض والقدم وانخلاع بالكتف، ليُحكم عليها بالحبس داخل دعامة جسدية لفترة لم يتنبأ بعِدتِها الأطباء، وسط تهامُس بعدم قدرتها على السير ثانية، فيهجرها حبيبها، مع عُذر رقيق.
تَرى شخوص الموت تتراقص حول فراشها، ويشفق الأب على ابنته فيُعطيها لُعبة تلهو بها في سرير المرض (أوراق وألوان)،  تمزج آلامها بألوانها، وتطلب منهم مرآة تُعلَق بالسقف الخشبي لسريرها، فلا ترى في وحدتها إلا نفسها، فترسم نفسها، ثم ترسم نفسها، ومن هنا.. من فراش المرض كانت بداية رحلتها الفنية! (2)

3

4

من حُطام جسدها المنكوب صنعت فريدا سلاًحا تُنازل به في ساحات الفن. من أعمالها التي عبرت عن معاناتها مع المرض لوحة (The broken column) حيث صورت نفسها نصف عارية و مشقوقة النصف العلوي واستبدلت العمود الفقري بعمود معماري محطم، والمسامير تملأ جسدها. (3)،(2)

«تمتلئ لوحاتي برسائل من ألم! ». فريدا كالو

5

تأثرها بفناني المكسيك

كان من أسباب ذيوع صيت فريدا في المكسيك أنها تشربت الثقافة المكسيكية الشعبية باستيعاب، ثم عبّرت عنها من خلال فنها -بل وحياتها بأكملها- بذكاء شديد أثار انتباه أبناء جيلها، وبالطبع فهذا يُعد انعكاسًا لقوة شخصيتها وحضورها، عوضًا عن ذلك فقد اشتهرت كأيقونة للحركات النسوية، حتى وإن لم تسْع هي لذلك، ولكن كان لتَمحوُر أعمالها حول خبرات الأنثى وصراعاتها وجسدها دورًا كبيرًا في ذلك. (3)

أول بورتريه شخصي رسمته لنفسِها كان في العام 1926 هو (Velvet dress)، تأثرت فيه بالنمط الفني المكسيسكي في رسم البورتريه الشخصي، والذي كان متأثرًا بدورهِ بفنون عصر النهضة الأوروبية. (2)

6

بدأ هذا التأثر بالإنطباع على أعمالها بشكل أقوى فاتبعت نفس إسلوب فناني المكسيك في تكوين خلفية بعض أعمالها والتي غالبًا ما كانت عبارة عن ستائر منسدلة مربوطة على الجوانب، يظهر هذا جليًا في لوحتها الثانية (Time flies-1929)، حيث ارتدت الملابس الشعبية، واستخدمت الأبيض والأخضر والأحمر المُعبران عن علم المكسيك. (2) ونرى نفس إسلوب الخلفية مُتكرر في لوحاتها (A woman in white)، (Self portrait dedicated to Leon Trotsky).

7

8

9

فيل وحمامة!

كان أول ظهور لـ(ديجو ريفيرا) في حياة فِريدا أثناء قيامه بعمل فني جداري في مدرستها، وحينها كانت على علاقة بـ(اليخاندرو) زميلها في الدراسة، وسبقت ريفيرا سمعته «السيئة» إلى آذان الطلبة والطالبات كفنان مُتحرر في علاقاته الجنسية، فتقول لهم فريدا بلهجة تحدٍ ساخرة، تُناسب معدنها: «أنا الأقدر على الفوز بقلبه!». (1)،(3)

بعد الحادث المؤلم الذي تعرضت له فريدا، وهجران حبيبها لها بدأت تتماثل للشفاء، ووَسط دهشة من حولها يتعافى جسدها بقدر يُتيح لها السير مرة أخرى، فيزيد هذا من رفضها للمسَلمات ويصقل من روحها أكثر، فتضع شارة سوداء على ذكرى عثرات قلبها، وتستبد بها رغبة عارمة في اللامألوف فتستدعي ريفيرا للذاكرة بتمرده وحريته فتجد فيه أنسب قطار للهروب!

تُفكر في حيلة تتقرب بها إلى «الفنان» فتذهب إليه في العام 1928 بحجة أخذ مشورته في بعض أعمالها، ولم يبخل عليها الآخَر بقبسٍ من خبرة سنوات عمره التي تزيد عن عمرها بما يقارب العشرين عامًا، وعلاوةً عليها بعض الاحتواء! (3) وعلى ما يبدو فالحيلة آتت أُكُلها وتُوجت بالزواج عام 1929.
ويجتمع الفيل بالحمامة! كما شاء لوالدتها أن تصف زواجها من ريفيرا. (1)

10

الجسر الفاصل

كانت علاقتها بزوجها الفنان (ديجو ريفيرا-Diego Rivera) مضطربة نوعاً ما، وعلى ما اتُصف به من كونه «زير نساء» فلن نحاول الحكم على أحد الطرفين فالمسؤولية مشتركة بشكل أو بآخر، إلا أن ريفيرا تمادى فأقام علاقة جنسية مع أختها الصغرى، وتلك كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، فبدورها دخلت فريدا في علاقة مع تروتسكي المناضل السياسي أثناء ضيافتهما له في منزلهما هربًا من خصومات سياسية(3)، وأيًا كانت الدوافع فقد كان عامل الشد والجذب في علاقتهما هو سيد الموقف بين ودٍ وهجرٍ، لينتهي الأمر بالطلاق، ورُغم ذلك فقد خاضا تجربة الشراكة الزوجية للمرة الثانية!(1)،(2)،(3)

لا .. ليس انتصارًا للحب في مشهدٍ يخطف الأنفاس؛ فكعادة الفُرص الثانية في العلاقات ذهب قدر كبير من الشغف إلى غير رَجعة، وأصبح الأمر بينهما أشبه كما لو كان صديقان يعيشان معًا في منزلٍ واحد، حتى أننا سنتحفظ على تعبير (المنزل الواحد) ففعليًا قاما ببناء منزلين متجاورين يربط بينهما جسر فاصل معلق.. صغير بقدر ما تبقى من الشغف! ولكل منهما عالمه الخاص في لوحة بديعة تُجسد احتضار لطيف للمشاعر. (3)

عبّرت عن تلك الاضطرابات في حياتها الزوجية في أكثر من عمل، ومن ذلك لوحتها (Las Dos Fridas) أو الفريدتين، ورُغم أنها كتبت في مذكراتها أن ذلك العمل كان متعلق بذكريات رفيق طفولتها التخيُلي، إلا أنها صرَحت بعد ذلك بأن المقصود من اللوحة هو التعبير عن وحدتها بعد انفصالها عن زوجها، حيث صورت نفسها على هيئة جسدين يربط بينهما حبل وريد يوازي في رمزيته الجسر الفاصل بينهما، بينما تُعبر السحب الغائمة عن اضطرابها الداخلي، وتجدر الإشارة إلى أن الثمن الذي تقاضته فريدا عن هذا العمل كان هو الأعلى طوال فترة حياتها.(10)

11

وفي لوحتها (Memory of heart) عبرت فريدا عن فاجعتها بخيانة زوجها لها مع أختها كريستينا، فنرى وجهها صامتًا عن التعبير، بينما تتحدث دموعها، وجَزَت شعرها، مرتدية الملابس الأوروبية، حيث سافرت بعد انفصالها عن زوجها، ولجأت للجرح الجسدي في التصوير كإشارة لجراحِها النفسية، ويؤكد قلبها الملقي بجوارها على هذا المعنى. (9)

12

وإذا طالعنا لوحتها (Cropped Hair) فسنرى أنها تُعبر بقص الشعر عن فقدان الولاء تجاه شريكها الذي كان يحب شعرها الطويل. وكأنما بقصها لشعرها تقطع الروابط بينهما.(1)،(2)

13

بشكل عام نستطيع أن نربط بين أشد لحظاتها ألمًا، وبين طريقة تصوير شعرها في لوحاتها، فبعد رجوعهما معًا للمرة الثانية، رسمت لوحة في العام 1949 بعنوان (Diego and I)، بعد علمها بخيانته لها مع صديقة مشتركة لهما، ويظهر فيها نفس إسلوبها المُتبع في رسم الشعر عندما تكون في حالة نفسية سيئة.

14
مابين السريالية والواقعية!

شاركت فريدا في العام 1940 في المعرض الدولي للسريالية بعملين لها وهما (The Two Fridas)، (The Wounded Table)، إلا أنه حين وصف الكاتب الفرنسي (Andrew Breton) أعمالها بالسريالية رفضت فريدا ذلك وقالت أن أعمالها واقعية. وكان رسم اللوحتين بعد أن تم انفصالها عن زوجها، حيث كانت تُعبر في لوحة (The wounded table) عن يأسها ووِحدتها، وكما نرى فالدمُ ينبثق من شقوق الطاولة ذات الأقدام البشرية، ويسقط على ملابسها، وهي نفس ملابسها في لوحة (The two Fridas)، وكأنما كل من العملين هو امتداد لرسالة الآخر، فالطاولة هنا ترمز لشعور فريدا بانهيار زواجها، ووجود أبناء أختها بجوارها تعبير عن رغبتها اليائسة في الإنجاب، بينما الظبي على الجانب الآخر فلكونه الحيوان المُفضل لديها وكأنه بديل الطفل الذي تمنته. وخلفها رمزت لزوجها وكأنه يهوذا الاسخريوطي -تلميذ المسيح الذي خانه-  في دلالة عن خيانة زوجها، وذكرت أنها عملت بجهد كبير لإنهاء هذه اللوحة في الموعد المحدد قبل افتتاح المعرض.(2)،(11)

15

حُلم مُبْتَسِر!

خضعت فريدا خلال حياتها لما يقرب من ثلاثين عملية جراحية (2)، آخرها كان بتر جزء من ساقها اليمنى، وفي العام 1953 كان موعدها مع أول معرض فردي يُقام لها في المكسيك، ورُغم كونها طريحة الفراش إلا أنها أصرت على حضور الافتتاح، وبالفعل تم نقلها إلى قاعة العرض في عربة إسعاف، ونُصب لها سريرًا وسط القاعة لتتلقى تهنئة الحضور وهي ممددة عليه. (3)
وعلى ما يبدو فهذا العدد الكبير من العمليات الجراحية التي خاضتها كان من أسباب عدم تتحقق أمنيتها بالإنجاب، حيث تعرضت للإجهاض عدة مرات. (1)
16

تحيا الحياة

وُلدت فِريدا في العام 1907 ورحلت في عام 1954 وهي تناهز الـ 47 من عمرها، وسط تكهنات بدوافع انتحارية، ليلحق بها ريفيرا بعد ذلك بشهور قلائل. قد تكون بالزيارة القصيرة لها لهذا العالم، إلا أنها تركت بصمة لا تُمحى من الأذهان؛ وتُصنف عالميًا حاليًا ضمن فئة أعلى الفنانات التشكيليات من حيث أسعار اللوحات المُباعة، وجدير بالذكر أن منزلها بالمكسيك، الشهير بالبيت الأزرق تحول لمتحف يضم أعمالها ومقتنياتها الشخصية، حتى رماد جسدها محفوظ بالبيت الأزرق، فقد أوصت بحرق جسمانها كالتماس أخير لتحريرها من منفى الجسد! (1)
نظرة خاطفة على آخر لوحة لها قبل وفاتها والمُعنونة بـ(تحيا الحياة-Viva la vida)، جنبًا إلى جنب مع آخر ما قالته ستكون بمثابة قطعة البازل الأخيرة، والتي تكتمل بها فلسفتها الحياتية.

17

«أتمنى أن تكون نهايتي مُرضية، وأتمنى ألا أعود أبدًا!». آخر ما قالته فِريدا.

فيلم يوضح حياة الفنانة وهو الأقرب لسيرتها الذاتية:

 

______________
إعداد: ع.ع
تحرير: ندى أحمد 

المصادر:

1- Schaefer, Claudia. Frida Kahlo: A Biography. Westport, CT: Greenwood, 2009.
2-  http://sc.egyres.com/Q3kRQ
3- http://sc.egyres.com/dWT1D
4- http://sc.egyres.com/5Lul2
5- http://sc.egyres.com/okcq6
6- تاريخ الفنون المصرية القديمة والإغريقية/ فتحي عبد الوهاب
7- http://sc.egyres.com/MglVe
9- http://sc.egyres.com/mHOp5
10- http://sc.egyres.com/uqvUd
11- http://sc.egyres.com/xYh1j

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي