إزالة الذكريات السيئة

ازالة-الذكريات-السيئة

إزالة الذكريات السيئة

في إزالة الذكريات السيئة

حينَ نَتفكَّرُ في حياتنا، تعودُ ذاكرتنا بشكلٍ عام للماضي مُحاولةً تذكُّرَ الأوقاتِ السعيدة، مع محاولةِ تَقبُّلِ المؤلمِ منها. ولكن الأمر ليس سِيان لهؤلاء الذين يعانون من اضطرابات القلق، خاصةً هؤلاء الذين يعانون من اضطرابٍ إجهاديٍّ بعدَ رَضحِيّ (Post-traumatic stress disorder) [1 والمخاوف المرضية (Phobias)، فذاكرةٌ واحدةٌ صعبةُ المراسِ وغيرِ مرغوبٍ فيها بإمكانها أن تُؤثِّر على إدراك الفردِ منهم وعواطفه وسلوكه مدى الحياة، وذلك على الرغم من الجهود المضنية للأخصَّائيين المعالجين.

ولكن بفضلِ تطوِّر التقنيات التي تُصوِّر وتُحلِّل المخ، يستطيع علماء الأعصاب والنفس الآن أن يستكشفوا الآليات العصبية التي تَتشكَّل بها الذكريات وتُخزُّن. وقد استطاعت أبحاثهم الكشفَ عن عدة تدخلاتٍ فسيولوجية (من ضمنها التيارات الكهربائية واستغلال الأدوية والعقاقير في الوقت المناسب) بإمكانها أن تُعطِّل الذكريات المخيفة، اكتشافٌ قد يُؤدِّي لعلاجٍ نفسيٍّ أكثرَ فعاليّةً وتركيزًا.

بينما يعتمد الأطباء الممارسون اليومَ على تقارير المريض فقط. يقول الدكتور ستيفان هوفمان (Stefan Hofmann) مدير مختبر العلاج النفسي والبحث في العواطف بجامعة بوسطن: «في خلالِ أعوامٍ من الآن، سيستطيع علم الأعصاب أن يُبلِغ عن الممارسات السريرية»، ويضيف: «سنتمكن من الاستخدام الكلي للأدوات البيولوجية والعصبية لإعطائنا دلائلَ عن كيفية العلاج».

كيف تتكوَّن الذكريات المُخيفة؟

ورغمَ أنَّ العلماء قد بدأوا بالكاد في قياسِ أعماقِ المخ، فقد شكَّلوا عدة نظرياتٍ عن كيف تُعالج أمخاخنا الذكرياتِ المخيفة. ففي البداية، حين نشهد حدثًا مخيفًا، يقوم المِهاد البصري [2](Thalamus)بتوصيل المعلومات الحِسِّية إلى اللوزة الدماغية [3](Amygdala)، والتي تُسجِّل الذكرى على أنَّها ذات مدلولٍ عاطفي وتخزنها لأجلِ الاستخدام المستقبلي، لمساعدتنا على تجنُّبِ المخاطرِ المتصلةِ بها. الشبكات العصبية بالحُصَيْن [4](Hippocampus) تنشغل بالبدء في تكوينِ خريطةٍ لسياقِ الذاكرة في الساعات القليلة الأولى من بعد حدثٍ ما، وأثناء ذلك تُقوَّى الاتصالات العصبونية (Synaptic connections) المرتبطة بالحدث في عمليةٍ تُسمَّى التقوية طويلة المدى [5](Long-term potentiation)، مما يؤدِّي لتقوية الذاكرة. ولكن، تلك العملية لا تحدثُ بمفردها.

يقول الدكتور ستيف راميرز (Steve Ramirez)، عالم الأعصاب بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: «حين تتعلم شيئًا جديدًا، فعدةُ نواحٍ من المخ تتحدث مع بعضها بعضًا لتمثيل المشاهد والأصوات والروائح التي تتعلمها»، ويضيف: «ولكن تظل عملية استدعاء ذكرى مُعينة يجعلها قابلة للتعديل. [فتلك الذكريات] تبدو وكأنها عرضٌ صادقٌ للماضي، ولكنها في الحقيقة تُعدَّل باستمرار عبر المعلومات الجديدة».

تعطيل الجانبِ المُزعج من الذاكرة يتضمن تشكيلَ روابطٍ عقليةٍ جديدةٍ وآمنة لنفس المُنبِّهات الحسية. حتى الذكريات طويلة المدى حين تُستدعى تكون لديها القابلية للتعديل والتحديث، وتلك خاصِّية يسعى الأطباء النفسيون لاستغلالها أثناء العلاج بتعريض المريض لما يخيفه في بيئةٍ غير خطرة بهدف تمكينه من السيطرة عليها، مما يتطلب تواصلًا عصبيًّا بين العديدِ من مناطق في المخ: حيث يقوم الحُصَيْن بتنبيه القشرة الجبهية البَطْنِية الإنسية (Ventromedial prefrontal cortex) بالظروف المُتغيرة، والتي تكبح النشاط العصبي -والاستجابة الشرطية للخوف- في اللوزة الدماغية.

ولكن عند بعض الناس، لا تسير تلك العملية بشكلٍ مستقيم، مما يجعلهم غير قادرين على الهروبِ من الأفكار المُتطفِّلة.

يقول الد. غريغوري جي كويرك (Gregory J. Quirk)، والذي يتقصَّى علم أعصابِ الخوف في كلية الطب بجامعة بويرتو ريكو (University of Puerto Rico): «نحن فعلًا لا نعلم لِمَ يستجيب الناس بصورٍ مختلفةٍ للتجاربِ المؤلمة»، ويقول: «من المُحتملِ أن تكون القشرة الجبهية أقل اتصالًا باللوزة الدماغية، فلذلك لا تستطيع أن تُبلِّغها بأنَّها ليست في خطرٍ في اللحظةِ الحالية».

_______________________________________
[1] حالة مَرَضيّة عَقليّة تُصيب الإنسان بعد وَضْع مُروِّع جرى له كأن يُجرِّب بنَفْسه سُقوط الطائرة وهو فيها (http://sc.egyres.com/EU6xv )

[2] جُزْء مِن مُخّ الإنْسان مُختَصّ بإرْسالِ النَّبَضات العَصَبِيَّة إلى اللِّحاء الدِّماغِيّ. (http://sc.egyres.com/Njch1 )

[3] اللوزة الدماغية هي جزآن من المخ، كل جزء يقع في فص دماغي، ومهمته هي معالجة العواطف والدوافع، خاصةً المرتبطة بالبقاء (http://sc.egyres.com/W33jM )

[4] جزء من المخ وظيفته تكوين وتخزين ومعالجة الذاكرة، ويشبه في هيئته القرن (http://sc.egyres.com/nz1nI )

[5] عملية تقوية طويلة المدى لاستجابة الخلايا العصبية بعد المشبكية (Postsynaptic nerve cell) لمحاكاة ما عبر المشبك، والتي تحدث مع المحاكات المتكررة، ويُعتقد أنها مرتبطة بعملية التعلم والذاكرة طويلة المدى (http://sc.egyres.com/K4dU3 )

 

ذكرياتٌ قابلةٌ للتطويع

يُحاول بعضُ العلماء أن يتلاعبوا بعمليةِ إعادة دمج الذكريات، التي تجعل من الذكريات المُخَزَّنة قابلةً للتغير. شَارَكَ راميرز في دراسةٍ بعام 2014 مع فريقٍ من مركز RIKEN-MIT لدراسة علم وراثة الدوائر العصبية، وقد استطاعوا أن يُغيِّروا الذكرياتِ السيئة لذكرياتٍ سعيدة في الفئران الذكور، عبر استخدام طريقةٍ تُدعى علم البصريات الوراثي (Optogenetics)، والتي تعمل بالتشفير الوراثي، لإدخال بروتيناتٍ تستجيب للضوء بداخل الخلايا. تَمكَّنَ العلماء من تحديدِ منطقة تشكيل الذكرى السلبية للفأر بدقة، حيث كانت ذكرى صَعق قدمهِ كهربائيًا، وكانت الذكرى تقبع في الدوائر العصبية التي تربط التَلفيفة المُسنَّنَة (Dentate gyrus) في الحُصَين باللوزة الدماغية، ثم تَمكَّن الباحثون من التلاعب بتلك الخلايا العصبية عبر الليزر. وفي كل مرةٍ يُغامر فأر بالاقتراب من مُحيطٍ مُعيَّن، تُفَعَّل الذكرى السلبية، مما جعلهم يتعلمون بسرعةٍ الخوفَ من تلك المنطقة.

ثم سُمح للفئران بالمرح مع فأرات، بينما كانت نفس الخلايا العصبية في قيد الاستغلال، مما ساعد في تغير الرسالة من الألم للمتعة. وفي المرةِ التالية التي سَعَى فيها الفأرُ الذكر لاقتحام الغرفة، زال خوفهم تمامًا.

هناك فكرةٌ أخرى قيد البحث وهي: هل نستطيعُ تحفيز عملية إعادة التعليم عبر الأدوية؟ لأكثرِ من عقدٍ من الزمان، درس علماءُ النفس آثارَ المضاد الحيوي (D-Cycloserine (DSC في المساعدة على زيادة إخماد الذكرى بالتزامنِ مع العلاج السلوكي المعرفي. يرتبط الدواء بالمستقبلات (N-Methyl-D-Aspartate (NMDA، ذات الأهمية في عملية التعلُّم والترجمة، والتي تُحفِّز نشاط الغُلُوتَامَات (Glutamate)، وهي عبارة عن ناقل عصبي في اللوزة الدماغي يُسهِّل عملية إعادة دمج الذكريات. وفي التجارب ذات النتائج الأكثر إيجابية، كان العلماء يوفِّرون جرعاتٍ صغيرةٍ في خلال ساعاتٍ قبل كل ثلاث أو خمس جلسات تعريضية.

يشرح الدكتور مارك بوتن (Mark Bouton)، بروفيسور علم النفس بجامعة فرمونت: «أحد الأسباب التي جعلتنا نهتم بالـ DCSكانت طبيعته كدواءٍ يستطيع نظريًا أن يُسهِّل من عملية التعليم. إذن، فإذا استعملته بهدف تسهيل التعلم الانقراضي[6]، فهذا يتضمن آثارًا طبيعة رائعة».

ولكن نتائج الدراسات الأولية على الـ DCS لعلاج اضطرابات القلق قد مُزجِت. ففي تجربة، عانى المرضى المصابين من اضطراباتِ ما بعد الصدمة والذين أُعطُوا الـ DCSوتدهورت حالتهم الصحية.

يرى د. هوفمان أن ما يتطلب قدرًا أكبرَ من الدراسة والبحث هو الكم والتوقيت المناسبان لجرعات الـ DCS، وتفاعلها مع العلاج. فكما كتب في جريدة الاكتئاب والقلق (Depression and Anxiety Journal) بـ 2014، أنه إذا كان العلاج الانقراضي للذاكرة (أي إزالة الذاكرة السيئة) ضعيفًا مقارنةً بقوةِ الحالة الأصلية، فالـ DCS يمكنه حقًا أن يؤدِّي إلى عملية إعادة دمج أنجح للذكريات المخيفة. ففي دراسةٍ أخرى، تَبيَّن أنَّ مَرضًى قد تَلقُّوا جلساتِ علاجٍ ناجحة، وتَلقَّوا من بعدها DCS قد ظهر عليهم تحسنٌ أفضل ممن تَلقَّوا علاجًا زائفًا. ولكن، هؤلاء الذين كانت مستويات خوفهم مازالت عاليةً من بعد جلسات العلاج أظهروا تحسنًا أقل عمن تلقوا علاجًا زائفًا.

استئصال الذكريات

من ضمن الاستفسارات التي يُبحَث فيها أيضًا هو إذا ما كانت الذكريات المُخيفة من الممكن إضعافها أو القضاء عليها تمامًا. في الصيف السابق، قام الدكتور إدوارد جي ميلوني (Edward G. Meloni)، بروفيسور مساعد للتحليل النفسي بكلية هارفارد للطب، والدكتور مارك كوفمان (Marc J. Kaufman)، مدير مختبر ترجمة الصور البيو-طبية بمستشفى ماكلين (McLean Hospital Translational Imaging Laboratory)، بإجراء اختبارٍ باستخدام غاز الزينون، وهو مُخدِّر مُستعمل للبشر، لتعديل عملية إعادة دمج الذاكرة بالفئران، وقد حفَّز الغازُ مُستقبِلَ الـ NMDA. فبعد تلقي الجرعة بحوالي ساعة من بعد صعق قدم الفأر، تلاشى خوف الفأر بصورةٍ ملحوظة تجاه الصدمة وسياقها، مقارنةً بفئران مجموعة التحكم.

تختبر بعض المختبرات ما إذا كانت الأدوية بإمكانها إزالة الذكريات. يقوم الدكتور ريتشارد هوجانير (Richard Huganir)، المشارك بإدارة معهد علم المخ بجامعة جونز هوبكنز، بملاحظة أمخاخ الفئران الأحياء عبر ألواحٍ صغيرةٍ مصنوعةٍ من مادة الـ plexiglass موضوعة في أسمنت كي يدرسوا المستقبلات العصبية أثناء عملها. دَرَسَ د. هوجانير وفريقه أثرَ دواءٍ يقوم بمنع مجموعةٍ من البروتينات –مستقبلات AMPA للكالسيوم التي تزيد في اللوزة الدماغية بعد التعرض للخوف- على إضعاف الوصلات العصبية في المخ الناتجة عن الصدمة النفسية. اكتشف الفريق أن إزالة البروتينات عبر التلاعب الكيميائي بناقلٍ عصبي ذو علاقة أزال تمامًا الخوف المُصاحب له، والذي كان يُحَفَّز عن طريق الضوضاء العالية المفاجئة.

يقول د. هوجانير: «حين تُضاف المستقبلات وتُزال بعيدًا عن المشبك [7](Synapse)، تُغيَّر قوة الانتقال المتشابك (Synaptic transmission) والتعلم»، ويقول: «تكمن الحيلة في القدرة على الاختيار ما بين تعطيل أو تحفيز تلك الآليات في مناطقَ مختلفة من المخ».

_______________________________________
[6] إيقاف استجابة الفرد تجاه محفز معين.
[7] مَشْبَك، مَمَسّ: مُلتَقى جُزأَينِ من الجُملةِ العصَبيَّة، كعَصَبُونَين أو عَصَبون ومُنفَعِل، تمُرُّ عَبْرَهُ المعلوماتُ. تُثيرُ الدَّفعةُ العصَبيَّةُ الحُوَيصِلاتِ في نُتوءَاتِ المِحوار الكُعْبُريَّة لإفرازِ الناقِلات العَصَبيَّةِ التي تنتشِرُ عَبْرَ المَشبَك إلى غُصَيناتِ العَصَبون التالي مُثيرةً بِدَورها دَفعةً عَصَبيَّة. ( http://sc.egyres.com/jXcIC )

 

إعداد: Hesham Kamel
تدقيق: Mohamed Sayed Elgohary

تحرير: يُمنى أكرم 

المصدر: http://sc.egyres.com/o7qjS

#الباحثون_المصريون

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي