تنفست الأسواق العالمية الصعداء اليوم بعد تداول العديد من الأخبار الإيجابية حول نجاح عملية تعويم السفينة البنمية العملاقة (إيفر جيفين – Ever Given) الجانحة بمضيق قناة السويس منذ الثلاثاء الماضي، 23 مارس، والذي يمر من خلاله ما يقرب من 12% من حجم التجارة العالمية مما سبب إرباكاً قوياً بسلاسل الإمداد العالمية، وارتفاعَ أسعار العديد من السلع الاستراتيجية التي كانت قد تضررت بالفعل خلال العام الماضي بسبب أزمة فيروس كورونا المستجد.
ولكن قبل الحديث عن الأزمة دعونا نأخذ نبذة مختصرة عن أهمية النقل البحري حتى يتثنى لنا فهم وإدراك حجم الكارثة التي سنتناولها اليوم.
أهمية النقل البحري بالنسبة للاقتصاد العالمي
ترجع أهمية النقل البحري إلى عملية التبادل التجاري الدولي، حيث يرتبط النقل البحري بحركة التجارة الخارجية بعلاقة تبادلية وثيقة، لكونه الركيزة الأساسية والقاعدة التحتية لتنمية حركة الصادرات والواردات وإعادة التصدير بين مختلف دول العالم.
كما يعتبر النقل البحري الذي يتم من خلاله نقل ما يقرب من 80% من إجمالي حجم التجارة العالمية بمثابة القلب النابض للاقتصاد العالمي.
ولنا أن نتخيل أنه بدون النقل البحري فسنكون عاجزين عن إتمام غالبية المعاملات التجارية بين مختلف قارات العالم، ناهيك عن كم أزمات الغذاء والطاقة التي ستضرب العديد من دول العالم، سواءً كانت تتعلق هذه المعاملات بمواد أولية، أو غذائية، أو منتجات مصنعة، أو أخرى وسيطة لإتمام عملية التصنيع.
كما تُعتبر السفن التجارية من بين أهم الأصول عالية القيمة، حيث تصل تكلفة بناء سفينة واحدة إلى ما يقرب من 150 مليون دولار.
وتلعب الموانئ العالمية والأساطيل التجارية البحرية دوراً رئيساً في تسهيل حركة البضائع وتقليل أسعار النقل ودفع حركة التنمية الاقتصادية والنظام العالمي اللوجستي.
وعلى ذلك، فإن أي أزمة أو تعطل للممرات المائية العامة يمثل كارثةً حقيقية لاقتصادات الدول وشركات النقل والطاقة في جميع أنحاء العالم.
وتعتبر أزمة قناة السويس التي ظلت قائمة على مدار الأسبوع الماضي مثالاً لتلك الأزمات التي نتحدث عنها، حيث فوجئ العالم بأكمله صباح يوم الأربعاء بشللٍ تام في حركة نقل النفط وبعض السلع الوسيطة والاستهلاكية نتيجةً لجنوح ناقلة الحاويات البنمية “إيفر جيفن” بعرض القناة، مما تسبب باصطفاف أكثر من 320 سفينة أخرى على جانبي القناة.
سبب أزمة قناة السويس
صرحت هيئة قناة السويس في بيان لها أن جنوح السفينة “يعود بشكل أساسي إلى انعدام الرؤية الناتجة عن سوء الأحوال الجوية نظرًا لمرور البلاد بعاصفة ترابية، مما أدى إلى فقدان القدرة على توجيه السفينة ومن ثم جنوحها”.
وكان ذلك أيضاً ما صرحت به الشركة المالكة للسفينة “إيفر جيفن”، إلى أن فاجأ الفريق أسامة ربيع الجميع وصرح مؤخراً بأن الرياح ليست السبب الأساسي في أزمة السفينة الجانحة، موضحاً أن القناة تحملت مراكب أكبر من السفينة الجانحة، معتبراً، وفق ما نقلته صحيفة “المصري اليوم” أن قبطان السفينة هو المسؤول عن وقوع تلك الحادثة.
ويقول عميد كلية النقل البحري، إنه رغم ما تمثله واقعة جنوح الحاوية البنمية العملاقة “إيفر جيفن” بقناة السويس باعتبارها “أمرًا غريبًا وجديدًا ويحظى باهتمام ومتابعة من وسائل الإعلام العالمي كافة”، إلا أن المتابعين لمجال النقل البحري يدركون أن الأمر يتكرر بشكل كبير في الممرات الملاحية والأنهار ومداخل الموانئ على مستوى العالم. وأضاف أن مخاطر هذه الحوادث تزداد نتيجة كبر حجم السفن. وتابع: “كلما زاد حجم السفينة، زادت نسبة المخاطر وصعوبة قيادتها”. إلا أن فريق التحقيق الموكل من قبل هيئة قناة السويس ما زال يجري تحقيقه في الأمر، حيث صرحت الهيئة بأن نظرية المؤامرة أمرٌ مستبعدٌ تماماً، وأن الجميع في انتظار انتهاء التحقيق بعد تعويم السفينة.
أهمية قناة السويس
قبل الشروع في الحديث عن خسائر الاقتصاد المصري والعالمي نتيجة أزمة السفينة البنمية، من الضروري أن نتطرق إلى الحديث عن أهمية قناة السويس على الرغم من كون الأمر معلوماً لدى العديد، حيث تُعد قناة السويس شرياناً مهماً لتدفقات النفط الخام من الشرق الأوسط إلى أوروبا والولايات المتحدة، ومنتجات النفط مثل زيت الوقود إلى آسيا، لذا تتعاظم أهمية قناة السويس المصرية بقدر تطور وتنامي النقل البحري والتجارة العالمية، إذ يعد النقل البحري أرخص وسائل النقل، ولذا يتم نقل ما يزيد على 80% من حجم التجارة العالمية عبر الطرق والقنوات البحرية، حيث يمر ما يقرب من 12% من حجم التجارة العالمية وما يقرب من 30% من حجم الحاويات عبر قناة السويس، لما تتميز به من ميزات تنافسية في التكلفة والوقت اللازم لنقل البضائع.
كما تتميز قناة السويس بأنها مزودة بنظام إدارة حركة السفن (في تي إم أس)، وهو نظام قائم على استخدام أحدث شبكات الرادار والكمبيوتر، ليكشف ويتابع حركة السفن على طول القناة، ويتيح بذلك إمكانية التدخل في أوقات الطوارئ، بالإضافة إلى استيعاب القناة عبور السفن بحمولة مخففة، لحاملات النفط الخام الكبيرة جداً، وكل السفن الفارغة مهما كانت حمولتها.
ومن الجدير بالذكر أنه قد ارتفع إجمالي إيرادات قناة السويس خلال الخمس سنوات الماضية -منذ إنشاء القناة الجديدة- بنسبة 4.7%، طبقاً للإحصاءات التي أعلن عنها رئيس الهيئة الفريق أسامة ربيع، حيث بلغت إيرادات القناة في شهر أغسطس الماضي ما يقرب من 27.2 مليار دولار مقارنة بـ 25.9 مليار دولار في الخمس سنوات السابقة. غير أن ما يقرب من 10% من بضائع العالم التي يتم توزيعها في أوروبا وأميركا يتم نقلها عبر قناة السويس، كما أن 40% من بضائع العالم من حيث الحجم والوزن تمر من القناة بشكلٍ عام.
خسائر الاقتصاد المصري
في مؤتمر صحفي له، يوم السبت الماضي، صرح رئيس هيئة قناة السويس الفريق أسامة ربيع بأن خسائر القناة على شكل إيرادات ورسوم عبور، تبلغ يومياً ما بين 12-14 مليون دولار أمريكي، بحسب حركة الملاحة البحرية عبر القناة، مما يعني أن خسائر هيئة قناة السويس على شكل رسوم، بلغت في الأيام السبعة الماضية منذ الثلاثاء الماضي حتى اليوم الإثنين، نحو 84-98 مليون دولار أمريكي، دون الأخذ في الاعتبار تلك الرسوم التي كان من المفترض جبايتها من السفن التي غيرت مسارها نحو رأس الرجاء الصالح.
ولكن يظل حساب الخسائر الناجمة عن مثل هذه الأزمات صعباً بسبب تعدد وتداخل العوامل والمؤشرات المستخدمة في ذلك الأمر. فعلى الرغم من أن تكلفة تعويم السفينة الجانحة وحدها تربو -لا محالة- عن 100 مليون دولار حيث أن زورق القطر أو القاطرة البحرية يُكلّف في الساعة الواحدة ما يقرب من 6 آلاف دولار، إلا أن تعويض مصر لكل تلك السفن العالقة بطول القناة عن تأخيرها يدخل كذلك في حجم خسائر الاقتصاد المصري، حيث صرح رئيس هيئة قناة السويس الفريق أسامة ربيع، بأن الهيئة ستقوم بتقديم خصومات عبور للسفن العالقة في الممر المائي، لتعويضها جزئياً عن الخسائر التي لحقت بها طوال الأيام الماضية.
خسائر الاقتصاد العالمي
لا شك في أن الاقتصاد العالمي قد تحمل القدر الأكبر من حجم الخسائر الناجمة عن أزمة قناة السويس، حيث سجلت شركات نقل عالمية خسائر باهظة بعد أن علقت أكثر من 350 سفينة على جانبي القناة شمالاً وجنوباً، بسبب تعطيل حركتها وتأخير وصولها إلى محطاتها النهائية منها 24 ناقلة نفط متجهة إلى دول تعتمد بشكلٍ أساسيٍّ على نفط الشرق الأوسط، مثل اليابان والهند، وأيضًا قالت وسائل إعلام دولية إن هناك خسائر أخرى مرتبطة بتلف عديد السلع على متن بعض السفن العالقة في قناة السويس، وبعض هذه السفن، محملة بمواد غذائية و”مواشي” كانت باتجاه أسواق عربية كالأردن والسعودية وأوروبية كبريطانيا.
ومن ضمن الخسائر الأخرى، ارتفاع أسعار بعض السلع بسبب تأخر وصول الطلبيات، سواء تلك الطلبيات على متن السفن العالقة على طرفي قناة السويس، أو تلك التي اضطرت سفنها بالتحول إلى المسار الأطول واتخاذ طريق رأس الرجاء الصالح، مما سيزيد مسار البضائع بمقدار 9.65 ألف كم، وبالتالي زيادة تكلفة النقل بما لا يقل عن 300 ألف دولار بسبب زيادة استهلاك الوقود اللازم لقطع هذه المسافة.
ووفق تقديرات صحيفة (لويد ليست – Lloyd’s List) المعنيّة بأخبار النقل البحري بأن تعطل حركة الملاحة بقناة السويس المصرية يكلف الاقتصاد العالمي قرابة 400 مليون دولار لكل ساعة، أي ما يعادل نحو 6.66 مليون دولار لكل دقيقة من توقف حركة الملاحة بالقناة.
ولكن الخسائر الحقيقة تمثلت في ارتفاع أسعار النفط ما بين 2-5% في بداية الأزمة، مع توقعات باستمرار ارتفاع الأسعار ما إذا كانت ستطول الأزمة أكثر من ذلك. ووفقاً لبيانات أسعار النفط الخام خلال الأسبوع الماضي، فقد سجلت تراجعات حتى الأربعاء، قبل أن تزيد بنحو 3 دولارات بالنسبة لبرميل برنت، و2.10 دولار بالنسبة للخام الأمريكي غرب تكساس الوسيط، وحتى إغلاق الجمعة، كانت أسعار عقود النفط عند 64.34 دولار للبرميل، مقارنة مع 61.7 دولار قبيل ظهور المخاوف بشأن طول أمد أزمة السفينة الجانحة في قناة السويس، إلا أنه وبعد إعلان حل الأزمة بشكل نهائي اليوم هبطت أسعار النفط 2% بعد انتعاش السوق تأثراً بالأخبار الإيجابية حول الأزمة.