اختبارات الشخصية
إذا كنت تبحث عن فهم أعمق لذاتك الحقيقيّة، فهناك طيف من الاستبيانات الشخصيّة المتاحة، بعضها سخيف مثل اختبارات الإنترنت التي تخبر كل من يؤدّيها بأنه في صميمه مُسَوّف، أما الاستبيانات الأخرى، فقد طُوِّرت وبِيعت كأداةٍ لمساعدة الأشخاص على توظيف المرشح المناسب أو إيجاد الحبّ المناسب أو التعامل مع أنفسهم بقدر أكبرَ من الجدّية.
المشكلة هي أن أغلب ذلك ليس سوى هدرٍ للمال إذا سألت الخبراء، فكما تقول سيمين فازيير (Simine Vazire)، الباحثة في «علمِ نفسِ الشخصية» بجامعة كاليفورنيا بمدينة دافيس: «يجب أن تكون متشكّكًا»، «وحتى يأتي الوقت الذي نختبر فيه استبياناتِ الشخصيّةِ تلك علميًّا، لن نستطيع التفريق بينها وبين العلوم المزيّفة كالتنجيم»، عملًا بمبدأ: «كذب المنجّمون وإن صدقوا».
ومن بين الأمثلة الشهيرة لاختبارِ الشخصيةِ التجاريّ، الذي حظِي بشعبيّة كبيرة على الرغم من الضبابيّة التي تحيط بمصداقيّته، مؤشر مايرز وبريجز (Myers–Briggs Type Indicator)، يقسِّم هذا الاستبيان الأشخاص إلى 16 نوعًا مختلفًا، وفي كثير من الأحيان يقترح التقييم مهنةً معيّنةً أو زيجاتٍ عاطفيّة محدّدة، بتكلفةٍ تتراوح بين 15 إلى 40 دولارًا للفرد، إلا أن علماء النفس يقولون عن ذلك الاستبيان إنه أحد أسوأ اختباراتِ الشخصيةِ الموجودة لمجموعة متنوّعة من الأسباب، وهو غير جدير بالثقة لأن نوع الشخص قد يتغيّر من يوم إلى آخر. فهو يعطي معلومات كاذبة، أو «استنتاجات زائفة» كما يصفها أحد الباحثين. الأسئلة مربكة وسيئة الصياغة، وتلخص فازيير الأمر على أنه «سيّء بشكل صادم».
بدأت استبيانات الشخصيّة تتطوّر منذ قرن من الزمن، كما يقول جيم بوتشر، أستاذ علم النفس الفخري بجامعة مينيسوتا، ويقول: «لقد بدأوا في طرح أسئلة عن تفكير وسلوك الفرد أثناء الحرب العالميّة الأولى»، «كان ذلك لدراسة مشاكل الشخصيّة ومشاكل الصحة العقليّة». ويضيف أن الأهمّ من ذلك هو أن الجيش الأمريكيّ أراد تلك الاستبيانات ليتخلص من الجنود الذين لم يكونوا مؤهلين لقيادة الطائرات العسكرية.
ووفقًا لبوتشر، فقد بدأ الكثير من الأكاديميّين خلال النصف الأوّل من القرن العشرين في إنشاء مقاييسٍ مختلفة للشخصيّة. وكما يقول: «ليس فقط على صعيد تشخيص الصحّة العقلية، بل وعن كيف تكُون الشخصية أيضًا»، مشيرًا إلى أن المشكلة في جميع التقييمات في ذلك الوقت هو كونها –غالبًا– مبنيةً على المشاعر الذاتيّة لمبتدعيها حول ماهية الشخصيّة، ثم بدأ الناس في إثارة التساؤلات حول ما إذا كانت تلك الاستبيانات تقيس ما يهدفون إلى قياسه، وما مدى مصداقيّة تلك الاستنتاجات، وهل هي صحيحة؟
ويصف بوتشر ما أَعقب ذلك بأنه «إعدام جماعي لأنظمة تحديد الشخصيّة واستبياناتها» نتيجة لعدم تماشيها مع الطريقة العلمية. ولكن هناك نموذجًا وحيدًا لاختبار الشخصيّة قد أثبت جدارته عبر القرن العشرين، ويحظى بشعبيّة بين الأكاديميّين اليوم، وهو ما تستخدمه فازير في أبحاثها. ويطلق عليه «سماتُ الشخصيّة الخمس الكبرى»، (المعروف أيضًا بنموذج الخمسة عوامل)، وقد طُوّر على مدى خمسة عقود بدءًا من عام 1961 في قاعدة بروكس للقوّات الجوّية. ومنذ ذلك الحين وحتى التسعينيّات، ساعد ذلك الاستبيانُ العديدَ من علماء النفس بما في ذلك لويس جولدبيرج ( Lewis Goldberg)، ووارين نورمان (Warren Norman)، وبول كوستا (Paul Costa)، وروبرت ماكراي (Robert McCrae) في تطوير النموذج إلى هيئته الحديثة.
وتقول فازير إنه عند تطوير نموذج «سمات الشخصيّة الخمس الكبرى» حاول علماء النفس تجنّب المخاطر التي ابتلي بها باحثو الشخصيّة الأوائل، مثل اختيار معايير تستند في المقام الأول إلى الحدس. بدلًا من ذلك، اتّخذ نموذج السمات الخمس الكبرى مسارًا شاملًا بجمع كل كلمة يمكن اعتبارها سمة شخصيّة، وإنشاء أسئلة بسيطة ومباشرة حولها. على مقياس من 1 إلى 5؛ هل أنت منفتح واجتماعيّ؟ هل أنت ذو طبيعة متسامحة؟ واستنادًا إلى كيفيّة إجابة الأفراد على الاستطلاعات الأولية، استخدم الباحثون أساليبًا إحصائيةً لجمع الصفات التي تبدو وكأنها تتوافق معًا (مثل كون المرء كثير الكلام واجتماعيًّا) في خمس فئات أساسيّة: الانبساط النفسيّ (عكس الانطوائية)، والضمير الحيّ، والوئام (التعاطف والتعاون)، والعُصابية (القلق المفرط)، والانفتاح على التجربة.
والنموذج الآخر المعروف بنموذج هكساكو (HEXACO) لهيكلة الشخصية والذي ابتكره عالما النفس كي بوم لي بجامعة كالغاري، ومايكل أشتون بجامعة بروك في أونتاريو، فهو نموذج مماثل ولكنه يضيف فئةً أخرى وهي الصدق والتواضع.
إن ميزة نموذج الخمسة عوامل هي بساطته، فهو لا يصنّف أي شخص إلى نوع، ولكن يُطلعهم عن موقعهم في سلسلةٍ متصلةٍ من الصفات الشخصيّة. وتقول فازير إنه لا يوجد حِيَل أو مفاجآت يمكن الكشف عنها. وعلى نحو ما، فإن هذا مخيّب للآمال. فذلك يعني أن اختبارات الشخصيّة تخبرك فقط ما تمليه أنت عليها، مصرّحة أن المساهم في الاختبار لن يتعلم أي شيء لم يعرفه مسبقًا عن نفسه، وأن دقّة الاستبيان تأتي بالكامل من مدى صدقك واستبصارك لذاتك في إجاباتك.
تقول فازير إنه في أحسن الأحوال يمكنك استخدام الاستبيان كأداة مقارنة تستطيع أن تخبرك عن ترتيبك في كونك منفتحًا مقارنة مع غيرك ممن أجروا نفس الاختبار. وهناك دراسات تُظهر كيف أن بعض نقاطِ نموذج الخمسة عوامل ترتبط بنتائج معيّنة، فعلى سبيل المثال: يرتبط الضمير الحيّ بطول العمر، والانفتاحيّة بنِسب مبيعات أعلى لمندوبي المبيعات. وتقول فازير: «بالرغم من ذلك، فإن كون المرء منفتحًا أكثر لا يجعل منه بائعًا أفضل». وتلك الارتباطات ليست سوى مجرّد ملاحظاتٍ عارضة. ولكن يبدو أن التقييمات التجاريّة للشخصيّة تعتمد اعتمادًا كبيرًا على مثل هذه الارتباطات. فعلى سبيل المثال: إحدى تقييمات شركة بريدكتيف إندكس (The Predictive Index) –وهي شركة تقيس الخصائص السلوكيّة وتوافق بين الملفات الشخصيّة ومايناسبها من وظائف– تعتمدُ هذه الترابطاتِ في الدراسات الخاصّة بالشركة كمقياس للنجاح.
ويقول ثاد بيترسون (Thad Peterson) أحد المسؤولين التنفيذيين في الشركة: «[لقد أظهرنا] في أحد العملاء، وهو تاجر مجوهرات بالتجزئة، أن الزيادة في صفة الهيمنة أو العدوانية كانت مسؤولة عن 125 ألف دولار من العائدات». ويرى بيترسون أن الفكرة وراء هذا المؤشّر هو استخدام هذه التدابير للمساعدة في إرشاد الناس لمناصبهم الوظيفيّة الأكثرَ ملاءمة.
وكما يقول راندي شتاين (Randy Stein)، عالم النفس بجامعة بوليتكنك بولاية كاليفورنيا في بومونا، «تهدف مثل هذه التقييمات الخاصّة بتحديد الشخصيّة –خاصّةً تلك التي تستهدف توظيف العمّال والمديرين– إلى الكشف عن شيء من الحقيقة المخفية عن الشخص». وأضاف: «[الباحثون] يفترضون وجود جوهرٍ خاصّ بك وجوهر خاصّ بالوظيفة، وتجب مطابقة هذين الأمرين أثناء التوظيف. ولا أعتقد في وجود حقيقة مخفيّة، وحتى إن وُجدت فإن اختبار الشخصيّة لن يكشف عنها».
ويقول شتاين: «كما هو الحال مع نموذج الخمسة عوامل، فإنه لايمكن لأي تقييم شخصيّ أو سلوكيّ أن يعرف أشياءً لم تُجِب عنها بصراحة في الاستبيان. فأحيانًا تطرح الاختبارت التجاريّة للشخصيّة أسئلةً غريبة، مثل: هل تشعر بالانسجام مع الثعابين؟ أو كيف تكون ردّة فعلك تجاه لونٍ معين؟ ثم محاولة تكوين استنتاجات من إجاباتك». وكما يرى شتاين فإن هذا النوع من الاستنتاجات يقع تحت بند العلم الزائف.
هناك أسباب أخرى لاعتقاد شتاين أن بعض تقييمات الشخصيّة قد تكون زائفةً علميًّا. فيقول: «إن صحّةَ أو زيف ما ستخبره هذه الاختبارات للناس يعتمد على مقدار ما هم مستعدّون لدفعه مقابل ذلك»، ويرى أن دورهم كشركة يتلخّص في إخبار الناس بكلّ ما سيساعدهم على بيع منتجهم. على النقيض من ذلك، صِيغ كلٌّ من نموذجَي السمات الخمس الكبرى وهيكساكو (HEXACO) بفعل عمليّةٍ تجريبيّة ومراجعة مهنيّة مستقلّة، وقد أظهرا أن نتائج الناس كانت تميل إلى الاتّساق، وأن التنبّؤات التي تمّت باستخدام النماذجِ قابلةٌ للتكرار. وفي حال غياب هاتين الخاصّيتين يرى شتاين أنه يجب التعامل مع اختبارات الشخصية بقدر بالغ من الشكّ.
وتؤكد بعض الشركات مثل بريديكتيف إنديكس أن منتجاتها مطابقة لهذه المعايير، واستثمرت الشركة في عمليّة تدقيق للحسابات بقيمة 20,000 دولارًا وأكثرَ لصالح شركة التصنيف النرويجيّة دي إن في جي إل (DNV GL) لمراجعة منتجاتها وتوثيق مطابقتها للمعايير الموضوعة بواسطة الاتّحاد الأوروبيّ لرابطة علماء النفس. ويقول أيضًا اثنان من ممثّلي المؤشّر وهما جريج بارنيت (Greg Barnett) وأوستين فوسي (Austin Fossey) إن التنبّؤات التي تستند على نهجهم دقيقة.
ترى فازير من جامعة ديفيس أنه ربما من السهل جدًّا التحقّق من صدق هذه التنبّؤات، وتقول فازير: «إذا طلبتُ منك أن تصنع استبيانًا فقط حول الانفتاح؛ فإنك ستقوم بعمل ذلك بشكل جيّد جدًّا، لأننا جميعًا نُجيد الحكم على الشخصيّة»، وتُكمل فازير: «إنه غالبًا مايَصدُق حدسنا بشأن من علينا مواعدته أو توظيفه أو عن حقيقة ما نحن عليه. إذا بدت العملية مربكةً أو حادت الأسئلة إلى الضلال؛ فهذا يمثّل إنذارًا بالخطر». فالشخصية –كما تعتقد فازير– ليست بهذا الغموض.
في النهاية، بغضّ النظر عن مدى دقّة هذه الاختبارات إلا أنها تشكّل جزءًا بسيطًا فقط من حقيقة ما أنت عليه، فهي ليست مقياسًا لذاتك الحقيقية بل فقط انعكاس ما أظهرْته أنت في إجاباتك البسيطة. أنت وحدك أعلم بما تفتقده من سماتٍ لكننا أحيانًا نتجاهل ذلك طلبًا للراحة وإخفاءً لعيوبنا، لذا ثق بنفسك وأهدها تقييمًا حقيقيًّا ولا تنتظر ذلك من أحد. خذ قرارًا وغيّر ما تشعر أنه خطأ في سلوكك وفي حياتك فذلك سبيلك الوحيد للتقدّم نحو واقعٍ أفضل وحياة أمتع.