استخدام تقنيات الأدب الشعبي في الفن التشكيلي

تقنيات-الادب-الشعبي-في-افن-التشكيلي

|||||

الفن الشعبي هو إنتاجٌ تلقائيٌّ ارتجاليٌّ فردي، يُقِرُّهُ الجمهور، وتستسيغه وتحفظه وتتوارثه الأجيال، حتى يصير جزءًا ثقافيًّا في العقل الجَمعِيّ، بل يصل الأمر بأن يُحفَظ كموروثٍ بيولوجيٍّ من أصلٍ ثقافيّ، ويختلفُ الفنُّ الشعبيُّ من حضارةٍ لأخرى.
تتعدَّد صورُ الفنِ الشعبيّ بين مسموعٍ ومرئيّ، ويظهر جليًّا في أهازيج وحكاوي الأجداد للأحفاد، وأساطير الأمم، وأغاني الأفراح، ويدخل في ذلك الغناء والإنشاد الديني، وأناشيد التحميس التدريبي الرياضي والعسكري، والملاحم والقصص، وجميع ما يُسمَع من غناءٍ تُراثيّ، لا يَدَّعِيه مؤلفٌ أو مُلحِّن، يُشجِي آذان الجميع، ويُحرِّك المشاعر سماعًا. ومنه ما يَقِرُّ العينَ مرئيًّا من تراثٍ معماريٍّ شعبيّ، وزيٍّ شعبي.
والأدب الشعبي وجهٌ من وجوهِ التراثِ الشعبيّ الذي يستغرق مظاهرَ الحياةِ الشعبيةِ قديمها وحديثها ومستقبلها، وهو ما أبقاها على الزمن، لأن اللباسَ يَتلَف، والآلة الموسيقية تَتحلَّل، والصناعات الخشبية والفُخَّارية وما إليهما تزول، والكلام يبقى نِدّيًّا لا يزيده الزمن إلّا حياةً وقيمةً وأهمية، إذ هو ثابتٌ لا يُحوَّل، تتناقلهُ الألسنةُ وتحفظهُ الصدورُ وتتسلَّمه الأسماعُ والأفهام بوصفهِ أمانةً عزيزة، وإرثًا تسري فيهِ أرواحُ الأجداد.
تقنيات الأدب الشعبي :
1- التكرار، فالفنان الشعبي (الراوي) مُقيَّدٌ بِما سمعه عبرَ التكرار، ويُكرِّرُ المادة حسبَ ذوق جيلهِ، مما يعني إمكانية الإضافة أو الحذف .
2- استخدام الصيغ التعبيرية الجاهزة، مثل: «كان يا ما كان» أو «عاشوا في تبات ونبات وخَلِّفوا صبيان وبنات»، لأنّها تُشكِّل مرتكزاتٍ للتواصلِ بين الراوي والمُتلقِّي .
3- الارتجال مع الاحتفاظ بالبُنَى العامةِ للمادةِ المنقولة، وهي نقطةُ ضعفٍ بسبب تَعرُّضها للنسيان أو الإضافات أو الاستبدالات المقصودة وغير المقصودة، مما يعني أن النص الشعبي سيبقى في تَغيُّرٍ مُستَمرٍّ وغير ثابت .
4- استخدام التفاصيل الواقعية المُستمدَّة من بيئةِ الراوي أو المتلقي، مما يُساعد خيال المتلقي على استيعاب عالم الحكاية أو الخرافة، ويُضفي على هذا العالم مصداقيةً مرغوبًا فيها. وهذا لا يُلغي بالطبع حقيقةَ كون الأدب الشعبيّ في جُلِّهِ تَخيُّل وغير واقعي .
5- الحفز، وهو ربط الحوادث المسرودة بعقدِ محكمةِ البناء، تسوغ تتابعها على نحوٍ مُعيَّن، وهو شرطٌ مهمٌ للتوحيدِ بين شخصيات الحكاية أو الخرافة .
ومن التقنياتِ الأدبيةِ السابقة نجد أنَّ الفنانَ التَشكيليّ الشعبي قد تَبنَّى تلك التقنيات في أعماله الفنية، كالفنان «مصطفى الرزاز» في معرضهِ «عنترة» أيقونة الفروسية والعلامة المُبكِّرة لمساواة العبدِ مع السيِّد، فقد استخدم الفنانُ الشخصيةَ الشعبية المعروفة في الأدب الشعبي المصري، وكذلك الفن التشكيلي الشعبي بحصانهِ القويّ، وملامِحه الذكورية الخَشِنَة، وشَنَبِهِ المهيب. وتَكرَّرت تلك الصيغة في أعمالِ الفنِ التشكيلي والفن الشعبي، حتى أصبحت علامةَ النُبلِ والعدالة. وكَرَّرَهُ الفنان في نفسِ المعرض في عِدَّةِ لوحات، كما استخدم العناصر الشعبية المعروفة مثل: الجَمل، وإناء الزهور، والحَمَام الأبيض، والعروسة الشعبية. واختار الفنان التعبير عن البطل الشعبي في الوقتِ الذي يحتاجُ فيه المجتمع لهذا المعني الأدبي؛ لما يَمرُّ بهِ من ظروفٍ سياسية واقتصادية، فالفنان كالراوي يُقدِّمُ المقارباتِ المُجتمعية ليصل بالسرد إلى المتلقين بسهولة.
image
image-2
فاستخدام الفنانِ في معرضِهِ تقنيات الأدب الشعبي بشكلٍ فطري نابعٌ من اشتراك أساليب التعبير الشعبي معًا في تلك التقنيات. فنجده قَدَّم تقنية «التكرار»، فهو مُقيَّدٌ بما سمعه عبر التكرار عن السمات الشكلية لعنترة وحصانه والمفردات الشعبية في بيئته. أيضًا تقنية «استخدام الصيغ التعبيرية الجاهزة»، مثل صيغةِ الفارسِ فوقَ حِصانه، أو الفارس حاملًا سيفه، والفتيات السمراوات بالشعرِ المُجعَّدِ الطويل، والجملِ المُزيَّن بالزخارف، وطيور الحمام الأبيض.
كما قدم تقنية «الارتجال» من خلالِ تقديم تحويراتٍ شَكلية لتلكَ العناصر وطريقة ترتيها في اللوحة، مع الاحتفاظ بالبناءِ العام الشعبي، كما في العمل التالي، فقد فَكَّك الفارس والحصان والسيف وأعاد تركيبها في شكلٍ مُتكامل دون الخلل بالعمل الشعبي المعروف، ولكنه قَدَّمَ صورةً مُطوَّرةً ومُعاصرة.
image-3

وباعتبارِ أنَّ مشاعر الفنان التشكيلي، ومشاعر المُواطن العادي كليهما نبضٌ واحد، والفرق الوحيد بينهما هو أسلوبُ التعبير، وأن الفنان التشكيلي قادرٌ على التعبيرِ بأدواتهِ الفنية التي يَصبغها بأدواتهِ الوجدانية، هكذا جَسَّد الفنان مصطفى الرزاز واقعَ احتياجِ المُجتمعِ المصري في تلك الأيام للبطل الشعبي الذي ينجو بالبلاد مما أصابها ويعبرُ بها بأمانٍ نحوَ المُستقبل. أمّا الفنان «وائل درويش» فقد عَبَّر بُلغتِه التشكيلية والتعبيرية والتجريدية مُستخدمًا الشكل واللون والرموز والمساحات اللونية في معالجةٍ فنيةٍ مُعاصرة، تتخلَّلها تكوينات بشرية مُتلاحمة وضبابية

شاحبة الملامح، وهي تعبيرٌ عن حالة الضبابية التي تسود الساحة السياسية المصرية في معرضه «الذاكرة الحية».
قَدَّمَ الفنانان سردًا لواقعٍ شعبيٍّ مُعاصرٍ رغمَ اختلافِ أساليب التعبير، وإن كان «الرزاز» قد قَدَّمَ صِيغَ الفن الشعبي المألوفة، إلّا أنَّ «درويش» قد عَبَّر بتجريديتهِ الخاصة وانفعالاتهِ اللونية مُستخدمًا تقنياتِ الأدبِ الشعبي بشكلٍ لا شعوري. فنجده قَدَّم (الارتجال) بشكلٍ أكثر تَحرُّرًا وانطلاقًا، فالأشخاص والألوان تنطلق في لوحاتهِ دون قيودٍ وكأنَّها تُعبِّر عن الإنسانِ التائهِ في هذا الوقت الحرِج. كما استخدم التفاصيل الواقعية المستمدة من بيئته مثل الراوي الشعبي، مما يُساعد خيالَ المُتلقي على استيعاب عالم الحكاية أو اللوحة، ويُضفي على هذا العالم مصداقيةً مرغوبًا فيها. فَرَسَمَ في العملِ «الكرسي الأحمر العظيم» وأصبح رمزًا مُعبِّرًا عن الصراعِ السياسي في تلك السنوات، فالكرسيّ رمزُ النزاعِ على السُلطةِ وتوريثِ المناصب.
كما عبَّر الفنان في معرضهِ «الشاهد» الذي قَدَّمَهُ في نفسِ العام لوحاتٍ أخرى حول الواقع المجتمعي المعاصر، ومنها لوحات بأسماء «28 يناير – إقالة الحكومة – بروباجندا الانتخابات – سوف نحمي الثورة بدمائنا»، جميعها تَسِرِدُ حكايةَ مصر في السنوات الأخيرة بنفس التقنيات والسمات التعبيرية، وهو بذلك يستخدم تقنية (التكرار)، فهو يُعبِّرُ عن انفعالاتٍ ومواقفَ وصلت إليهِ عبر التكرار وحكاية المجتمعِ للأحداث. هو بذلك يأخذُ دورَهُ في التكرار ليُقدِّمَ حكايته للمتلقي لتستمر الحكاية و تنتقل من جيلٍ لجيل، ومن مجتمعٍ لآخرٍ مُكوِّنًا التراثَ الشعبي للمجتمع.
image-4
Great Red chair – 120x92c.m – Acrylic on canvas-2012
image-5
Election propaganda – Acrylic on canvas-175x94c.m-2011

إعداد: samar y. faramawy
مراجعة علمية: Dina Ibrahim Fawzy
مراجعة لغوية: Mohamed Sayed Elgohary
تصميم:

#الباحثون_المصريون

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي