منذ أكثر من ثلاثمائة عامٍ تقريبًا ظهرت أولى الكتابات الاقتصادية عن علم الاقتصاد، على يد الاقتصادي الكبير آدم سميت (Adam Smith)، تكلم فيها عن يد خفيّة تتحكم في عمل السوق وتحرك الاقتصاد دون أي وعي منا، فنشتري ما يُلبي رغبتا وندفع ثمنه ونعود إلى بيوتنا دون أن نعلم أن هناك قوانين للعرض والطلب تتحكم في السوق.
ومنذ ذلك التاريخ تعددت الكتابات الاقتصادية وتطورت الأنظمة الاقتصادية، وتغيرت القوى الاقتصادية التي تحكم السوق. فهناك من اعتبر الزراعة مصدر الدخل الاقتصاديّ الوحيد، وهناك من أصرّ أنّ التجارة هي المصدر الدخل الاقتصاديّ الأكثر أهمية. حتى جاءت الثورة الصناعية التي اعتبرت التّصنيع مصدر الدخل والثروة. ولكن ما أن وصلنا لعصر الثورة التكنولوجية وعصر المعلوماتيّة الذي تتركز فيه عمليات التبادل الاقتصاديّ عبر شبكة المعلومات الدوليّة (الإنترنت)؛ حتى أصبحت القيود الجغرافية بين الدول شِبه غير موجودة، وأصبحت قوى الأسواق تتفاعل بطريقة أكثر تدفقًا وسلاسة، حتى أصبحنا نمارس كافة أنشطتنا التجارية، والخدمية، والترفيه عبرها. واستمرت التطورات حتى وصلنا إلى عصر المعرفة الذي يعتمد على استخدام المعرفة في كافة مناحي الحياة، وتحوّل الاقتصاد التقليديّ الذي كنا نعيش فيه إلى اقتصاد المعرفة، اقتصاد جديد يقود عمليات الإنتاج بطريقة مختلفة عن غيره من الأنظمة الاقتصادية السابقة.
فما هو اقتصاد المعرفة، وما هي خصائصه، وكيف نستطيع التحول إليه؟
نشأة اقتصاد المعرفة
يعود الظهور الأول لمصطلح اقتصاد المَعرِفة إلى خمسينيّات القرن العشرين، عندما استخدم مصطلح اقتصاد المعرفة ومجتمع المعرفة لأول مرة في الفصل الثاني عشر من كتاب (The Age of Discontinuity) لبيتر دراكر (Peter Drucker)، وبدء بالانتشار عندما شهد قطاع الصناعة تطوّرًا كبيرًا على حساب قطاع الزراعة، ممّا أدّى إلى ظهور قطاعٍ اقتصاديّ جديد في الدول المتطورة، حتى يكون نواةً لنظام اقتصاد جديد، وأُطلق عليه اسم مرحلة ما بعد الصناعة. تمّ بناء القطاعات الاقتصاديّة الحديثة على فكرة المعرفة، والاتصالات، وتكنولوجيا المعلومات التي ساهمت بحدوث تطور كبير بالنشاط، والفكر الإنسانيّ، في كافة المجالات، فلم يعد كل من النفط والذهب يسيطران على الصناعة التقليديّة، بل أصبحت هناك إمكانيّة لإنتاج برامج معلوماتيّة كإحدى أولويّات القطاعات الاقتصاديّة الحديثة، ويعتمد الإنتاج والاستهلاك فيه على استخدام رأس المال الفكريّ بدلًا من رأس المال الماديّ.(1)
مفهوم اقتصاد المعرفة
يعرّف الاقتصاد المعرفي أو اقتصاد المَعرِفة (knowledge economy) بأنه نظام الإنتاج والاستهلاك القائم على استخدام رأس المال الفكري. ويعتمد هذا النظام الاقتصادي على تحويل الاكتشافات العلمية والأبحاث التطبيقية إلى رأس مال فكري يمكن استخدامه كمورد اقتصادي. حيث أصبح رأس المال الفكري في وقتنا الحالي يمثل المكون الأساسي لجميع الأنشطة الاقتصادية في الدول المتقدمة. كما أصبحت الأصول غير الملموسة في اقتصاد المعرفة المكوّن الأساسي للقيمة، كاستخدام معارف العاملين الفكرية والملكية الفكرية الخاصة بهم في الإنتاج.
كما أنّ هناك العديد من المصطلحات المستخدمة لوصف جوانب اقتصاد المعرفة منها: مجتمع المعلومات، والاقتصاد الرقمي، وشبكة الاقتصاد الجديد أو اقتصاد المعرفة، وثورة المعلومات.
يركز الاقتصاد المعرفي على المعرفة (Knowledge) كمورد اقتصاديّ أساسي يستخدم في الإنتاج وتوليد الدخل والثروة. حيث يلعب رأس المال الفكري في اقتصاد المعرفة دورًا هامًا، فهو المكوّن الأساسي لجميع الأنشطة الاقتصادية في الدول المتقدّمة. كما أن الأصول غير الملموسة في اقتصاد المعرفة هي الأساس الذي يحدد قيمة المنتجات سلعًا كانت أم خدمات.
وتعتبر الموارد البشرية المؤهلة وذات المهارات العالية، أو رأس المال البشري، أو التي قد تسمى أحيانًا بعمالة المعرفة، هي أكثر الأصول قيمة في الاقتصاد الجديد المبني على المعرفة. كما وصاحبَ ظهور اقتصاد المعرفة تغيرًا هيكليًا في بنية السوق، إذ أصبحت منظمات الأعمال تُعرف بمنظمات المعرفة (Knowledge Organization)، أو المنظمات المتعلمة (Educated Organization)، بتركيزها على استخدام المعرفة في إنتاج معارف جديدة تدرّ عليها دخلًا اقتصاديًا، مع استخدامها المكثّف لمعارف عمالتها المعرفيّة كأصل إنتاجي ملموس أكثر أهمية من بقية الأصول المادية الملموسة. كما وترتفع المساهمة النسبية للصناعات المبنية على المعرفة أو التي تعتمد على تمكين المعرفة، وتتمثل في الغالب في الصناعات ذات التكنولوجيا المتوسطة والرفيعة، مثل الخدمات المالية وخدمات الأعمال. إنّه نوع من أنواع الاقتصاد الذي يعتمد نموّه على نوعيّة وكميّة المعلومات المتاحة، والقدرة على الوصول إليها. (2)
خصائص اقتصاد المعرفة
يختلف اقتصاد المعرفة عن الاقتصاد التقليدي أقدم أشكال الأنظمة الاقتصادية في عدة مجالات، منها:
أولًا: يربط اقتصاد المَعرِفة بين التعليم والمعرفة، بمعنى أنه يتعامل مع رأس المال البشري كأصلٍ إنتاجي، أو كمنتج تجاري، يمكن بيعه وتصديره لتحقيق أرباح للأفراد، والشركات، والاقتصاد، بحيث يستبدل الموارد الطبيعية المادية بالقدرات الفكرية لرأس المال البشري. كما أن المنتجات والخدمات في اقتصاد المعرفة تعتمد على تشجيع الابتكار في مختلف المجالات العلمية، وعلى الخبرة التقنية الفكرية المتقدمة في مختلف جوانب الاقتصاد. وعلى العكس من ذلك يعتمد الاقتصاد التقليدي على إنتاج السلع والخدمات، بحيث يكون النمو الاقتصادي مدفوعًا بعوامل الإنتاج التقليدية الأربعة من أرض، وعمالة، ورأس مال، وتنظيم.
ثانيًا: الاقتصاد التقليدي يعترف بندرة الموارد مقابل الحاجات الإنسانية المتعددة والمتجددة باستمرار، إذ يعتبر الموارد والثروات الطبيعية نابضة أو قابلة للنضوب مع استخدامها المستمر والمكثف لإنتاج السلع المادية. كما أنه يتميز بصغر حجم الإنتاج وانخفاض حجمه مقارنة بزيادة الاستهلاك، يعتمد بالأساس والمواد المادية بحيث يركز على استخدام مكثّف للعاملة أكثر من اعتماده على المعرفة. وعلى العكس من ذلك فإن اقتصاد المَعرِفة هو اقتصاد الوفرة لا يعترف بندرة الموارد، فمع التطورات المستمرة في المعرفة، تجدد المعارف ولا تستهلك أي أنها لا تستنفد، بل تتوالد ذاتيًا بالاستهلاك، وقد ساعدت التكنولوجيا الحديثة في ذلك، كما أنها تتميز بسرعة انتشارها عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة.(3)
ثالثًا: السوق في اقتصاد المعرفة أكثر اتساعًا من ذي قبل، يشمل أسواق ديناميكية تعمل في ظروف تنافسية في نطاق شبكة دولية ذات إمكانيات عالية للتسويق وتبادل السلع والخدمات. فالمعرفة متصلة بالعولمة في التعامل والتكيّف مع رغبات العملاء، والتركيز على تقديم الخدمات للمستهلكين. والاتجاه نحو التكامل الاقتصادي العالمي. بينما يتمحور الاقتصاد التقليدي حول السوق على أساس أنه مكان تبادل السلع والخدمات، ومصدر المعلومات اللازم للحصول على معلومات عن حاجات ورغبات المستهلكين، كما أنه مكان الحصول على المواد الأولية الخام اللازمة للإنتاج.
رابعًا: يربط اقتصاد المعرفة بين التعليم والمعرفة، بمعنى أنه يتعامل مع رأس المال البشري كأصل إنتاجي، أو كمنتج تجاري، يمكن بيعه وتصديره لتحقيق أرباح للأفراد والشركات والاقتصاد، بحيثُ يستبدل الموارد الطبيعية المادية بالقدرات الفكرية لرأس المال البشري. كما أن المنتجات والخدمات في اقتصاد المعرفة تعتمد على تشجيع الابتكار في مختلف المجالات العلمية، وعلى الخبرة التقنية الفكرية المتقدمة في مختلف جوانب الاقتصاد، على عكس الاقتصاد التقليدي الذي لا ينظر للتعليم أو المعرفة على أنها عناصر إنتاجية يمكن الاستفادة منها. (4)
التحولات نحو اقتصاد المعرفة
في الواقع العملي هناك العديد من الأمثلة على أنشطة الاقتصاد المعرفي، إذ تعتبر المؤسسات الأكاديمية والشركات المشاركة في البحث والتطوير (R&D)، والمبرمجون الذين يطوّرون برامج جديدة ومحركات البحث، والموظفين الصحيين الذين يستخدمون البيانات الرقمية في تحسين العلاجات، من أهم مكونات اقتصاد المعرفة. فهناك دول قطعت أشوطًا كبيرة لتصل إلى اقتصاد المَعرِفة، كما هو حال الدول المتقدّمة، وهناك دول أخرى في مرحلة التحوّل إلى اقتصاد المعرفة.(5)
يضع البنك الدولي ثلاثة ركائز أساسية تساعد على بناء اقتصاد المَعرِفة، وهي:
- إيجاد الهياكل المؤسسية توفر حوافز متعددة لريادي الأعمال تركز على استخدام مكثف للمعرفة في مختلف نواحي الحياة.
- التركيز على جودة النظام التعليمي وجودة مخرجاته بما يضمن توفير عمالة معرفية ماهرة.
- تمكين الوصول الاقتصادي إلى البنية الأساسية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICT).
- إيجاد واقع ابتكاري حيوي يشمل القطاعات الأكاديمية، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني.
المآخذ الرئيسية على اقتصاد المعرفة
بالإضافة إلى ما سبق، هناك بعض المآخذ الرئيسية على اقتصاد المعرفة، ومنها أن الاقتصاد المعرفي:
- يقوم على فكرة تحويل العلوم والأبحاث الأكاديمية المعاصرة إلى سلعة تجارية، وهو أمر يمكن اعتباره غير أخلاقي.
- في اقتصاد المَعرِفة يتم تحويل الابتكارات الناتجة عن الدراسات إلى أصول غير ملموسة، مثل: براءات الاختراع، وأشكال الملكية الفكرية الأخرى، أي يُنوّع في أشكال الأصول، وهو أمر مازالت ترفضه الهيئات المحاسبية الدولية.
- هرولة الاقتصاد العالمي في عصر المعلومات بسرعة نحو اقتصاد المَعرِفة، قد تتسبب في آثار سلبية غير مدروسة في بعض الأحيان.(6)
وبالرغم من هذه المآخذ على اقتصاد المَعرِفة، إلا أن الاقتصاد المعرفي حقيقة واقعية معاصرة تعيشها غالبية الدول، تعود عليها بالنفع، كما أنه الحلم المنشود لكثير من الدول النامية، التي تمر في مرحلة الانتقالي نحو الاقتصاد المعرفي، وهناك اتجاهات حثيثة نحو اقتصاد المعرفة فهو اقتصاد الحاضر والمستقبل.