هل تعرف ذلك الشعور الخانق في فصل مادة الكيمياء؟ تلك اللحظة عندما ترى العديدَ من الطلاسم المكتوبة على السبورة أمامك وتسمع غريب الكلام من مُدرِّس المادة؛ مما يجعلك تنظر إلى السقف، تلك النظرة العميقة المتبوعة بالسؤال الوجودي المتعلق بما يحدث في الفصل: من الذي ابتكر هذا العلم؟!، حسنًا؛ أستطيع أن أخبرك أن هذا المقال سيأخذك في رحلة إلى بدايات ذلك العلم لتتعرف قليلًا على أهم رواده، من يدري؟! لعلك تغير رأيك.
1- جوزيف لوساك:
وُلِدَ ذلك العالِم في مدينة سان ليونارد دي نوبلات (Saint-Léonard-de-Noblat) عام (1778م)، إنه الكيميائي والفيزيائي الفرنسي (جوزيف لويس جاي لوساك Joseph-Louis Gay-Lussac)؛ الابن الأول لمحامي المقاطعة والمسؤول الملكي والذي فقد منصبه بعد الثورة الفرنسية عام 1789م. لوساك أحد أهم رواد دراسة سلوك الغازات، والذي ابتكر تقنيات جديدة للتحليل، وأحرز تقدمًا ملحوظًا في مجال الكيمياء التطبيقية.
أ- حياته:
في البداية أرسله والده إلى مدرسة داخلية لدراسة القانون في باريس. ولكن في وقتٍ مبكر جدًا، أظهر لوساك ميلًا لدراسة العلوم. وبمساعدة مهاراته الرياضية، استطاع اجتياز امتحان القبول في كلية الهندسة المؤسَّسة حديثًا في ذلك الوقت (إيكول بوليتيكنيك École Polytechnique)، حيث تكفَّلت الدولة بمصاريف الدراسة للطلاب بتلك الكلية، وبالرغم من أن الكلية أُنشِئت في الأساس لتدريب المهندسين، إلَّا أن الكيمياء شكَّلت جزءًا كبيرًا من المناهج الدراسية المقررة بها. وخلال الفترة ما بين (1797م) إلى (1800م)، أثبت لوساك نفسه كطالبٍ مثالي في تلك الكلية.
قبل تخرجه من الكلية، التحق لوساك بالكلية الوطنية للجسور والطرق (École Nationale des Ponts et Chaussées)، ولكنه تركها عام (1801م)، ليصبح مساعدًا للكيميائي الفرنسي (كلود لوي بورتليه Claude-Louis Berthollet) الذي أنشأ في تلك الفترة معملًا داخل منزله الريفي في مدينة أركيويل (Arcuei) خارج باريس، حيث أصبح بورتليه بعد ذلك محطَّ اهتمام المجتمع العلمي، وقد ذكر في المجلد الأول من مذكراته المنشورة عام (1807م) العديد من إسهامات لوساك.
ب- إسهاماته:
«إذا لم يمتلك الشخص مِنَّا الشغفَ والرغبة في اكتشاف القوانين، فإن أكثر الملاحظات العبقرية تُفلت بعيدًا عنه في كثيرٍ من الأحيان»، بهذه الكلمات التي نطق بها لوساك يومًا ما، أضاف إلى مجال العلوم العديد والعديد من الإسهامات الهامة، على سبيل المثال لا الحصر؛ كان أول نشرٍ علمي له عام (1802م) في دراسة التمدد الحراري للغازات، حيث استخدم الغازات الجافة والزئبق النقي في تجاربه لضمان دقة نتائجها، واستنتج من تلك التجارب أن ما بين 0-100 درجة مئوية (32-212 فهرنهايت) فإن حجم الغاز يزداد بزيادة درجة الحرارة، وهو ما اشتهر بعد ذلك (عن طريق الخطأ) بـ «قانون شارل».
في عام (1805م) نشر نتائجًا لبعض تجاربه التي أثبت فيها أنه عند تفاعل غازي الهيدروجين والأكسجين بنسبة (2:1) فإن الماء يتكوَّن. وتجربة أخرى لتفاعل ثلاثي فلوريد البورون (boron trifluorid) مع الأمونيا أدَّت إلى إنتاج أبخرة كثيفة بشكلٍ رائع، مما شجَّعه على المضي قدمًا في دراسة تفاعلات كيميائية مشابهة، مثل تفاعل كلوريد الهيدروجين (hydrogen chloride) مع الأمونيا بأحجامٍ متساوية لتكوين كلوريد الأمونيوم (ammonium chloride)، ولعل أبرز ما تميزت به تجاربه اعتمادها على تحليل المادة ودراستها حجميًا لا وزنيًا، مخالفًا بذلك الزميل المهني الإنجليزي -والذي سيأتي الحديث عنه لاحقًا- العالم جون دالتون (John Dalton).
تُوفِّي جاي لوساك في باريس عام (1850م).
2- جون دالتون:
وُلِد في مدينة ايجلزفيلد بالقرب من كمبرلاند (Eaglesfield Cumberland) عام (1766م)، عالم الأرصاد الجوية والكيميائي الإنجليزي (جون دالتون John Dalto)، أحد رواد تطوير النظرية الذرية الحديثة.
أ- حياته:
ولد دالتون ضمن طائفة (الصاحبيون-Quaker). كان جده جوناثان دالتون يعمل كصانعِ أحذية، وكان والده يعمل حائِكًا. تزوَّج والده أحد بنات طائفته عام (1755م)، حيث كان جون دالتون هو أصغر أبنائهم الذين استطاعوا النجاة بعد البلوغ، التحق دالتون بمدرسة (Fletcher’s Quaker grammar school) أحد المدارس التابعة لطائفته، وعندما بلغ دالتون عامه الثاني عشر؛ انتقلت ملكية المدرسة لأخوه الأكبر (جوناثان) والذي قرر الاستعانة بدالتون الصغير كمدرس في تلك المدرسة، وبعد سنتين؛ اشترى الأخوين مدرسة في مدينة كندال (Kendal) حيث قاموا بالتدريس هناك لأكثر من (60) طالبًا.
وبصفته مدرسًا؛ استطاع دالتون اكتساب بعض الخبرات من بعض المعلمين الموجودين في المدرسة، أهمهم: (الهيو روبينسون Elihu Robinson) أحد نبلاء طائفة كويكر في مدينة إيجلز فيلد، والذي يمتلك مكانةً عالية في الوسط العلمي، و(جون جوغ John Gough) عالم الرياضيات والمثقف الكلاسيكي في كندال، حيث استطاع دالتون تعلم اليونانية واللاتينية منهم، بالإضافة إلى تحصيل الأساسيات الرياضية، وبما أن كلًا من روبينسون وجوغ لديهما خبرة في الأرصاد الجوية والتي مارسوها كهواة، استطاع دالتون اكتساب المعرفة العلمية لتصميم واستخدام أدوات الرصد الجوي، بالإضافة إلى حفظ سجلات الطقس اليومية، وحافظ دالتون على شغفه الدائم بالرصد الجوي مدى حياته.
ب- إسهاماته:
لعل أبرز ما قدمه دالتون للكيمياء هو وضع نظريته الذرية الشهيرة، وإن كانت كل محاولات التتبع والفهم لكيفية تكوين دالتون لهذه النظرية بائت بالفشل؛ إلا أنها تظل من أهم الإسهامات التي قام بها.
وتنص تلك النظرية على:
- تتكون كل مادة من أجزاء صغيرة ومحددة تسمى بالذرات ( atoms).
- الذرات لا تتجزأ ولا تفنى.
- جميع ذرات المادة الواحدة تتشارك في خصائص معينة من بينها الوزن.
- ذرات المواد المختلفة تملك أوزانًا مختلفة.
- تتحد ذرات العناصر المختلفة بنسب عددية ثابتة عند تكوين مركبات كيميائية.
توفي جون دالتون في مانشستر عام (1844م).
3- لافوازييه:
ولد في مدينة باريس الكيميائي الفرنسي الأبرز في القرن الثامن عشر (أنطوان لوران لافوازييه Antoine-Laurent Lavoisie) عام (1743م)، أحد أهم المشاركين في وضع نظام التسمية الحديثة للمواد الكيميائية، كما طور نظريات تعتمد تجريبيًا على تفاعل المواد الكيميائية مع الأكسجين.
أ- حياته:
كان لافوازييه الابن الأول والوحيد لإحدى العائلات البرجوازية الثرية بباريس، وعندما أصبح شابًا وبطبيعة الحال؛ أظهر اهتمامًا وجهدًا غير عادي تجاه الصالح العام، بعدها تقدم لجامعة العلوم الطبيعية والإنسانية (مازارين Collège Mazarin) ودرس بها القانون، وبما أن الدراسة بكلية القانون بباريس لا تتطلب الكثير من الواجبات؛ فقد ساعده ذلك على حضور العديد من محاضرات الكيمياء والفيزياء على مدار ثلاث سنوات.
وعلى عكس ما كان متوقعًا من لافوازيية الذي شغل منصبَ محامي في أحد محاكم فرنسا العليا سائرًا على نهج ابيه وجده لأمه؛ ولكنه فضَّل سَلْك طريقِ الأبحاث العلمية، ونجح عام (1768م) في القبول بالجمعية الفرنسية للفلسفة الطبيعية ( France’s foremost natural philosophy societ) التابعة لأكادمية العلوم بباريس ( Academy of Sciences).
ب- إسهاماته:
بالرغم من أن الكتابات المتعلقة بدراسة المواد الكيميائية أثناء دراسة لافوازييه كانت غنية جدًا بالمعلومات، إلا إنها كانت أقرب للفلسفة منها للعلم؛ وخالية تمامًا من الدقة النظرية المتعارف عليها الآن، فعلى سبيل المثال لم يكن هناك اتفاق واضح على ماهية المواد الكيميائية وتركيبيها الدقيق؛ أو حتى تفسيرات مقبولة للتغير في تركيب المواد، فكانت النقلة على يد الكيميائين أمثال لافوازييه؛ هؤلاء من اهتموا بتحليل المواد المركبات والتفاعلات الكيميائية (مثل الأملاح الناتجة عن تفاعل الأحماض مع القلويات).
ولعل أشهر ما تصدى له لافوازييه هي نظرية الفلوجستون (Phlogiston theory)، حيث كانت تنص على أن كل مادة قابلة للاحتراق تحتوي على مُكوِّنٍ ما يُدعى الفلوجستون (Phlogiston) يتطاير من المادة عند حرقها مُخلفًا رماد، في البداية كان يرى لافوازييه أن تلك النظرية جيدة جدًا ولكن ينقص إثباتها تجريبيًا؛ ومن أجل ذلك كرس لافوازييه أبحاثه على دراسة التغير في وزن المواد قبل وبعد عملية الاحتراق أو التكلس ( عملية حرق بعض المواد الصلبة لإزالة الشوائب العالقة بها).
لاحظ أثناء تجاربه أن وزن الرماد الناتج من الاحتراق يزيد عن وزن المواد نفسها قبل الاحتراق، وكذلك عملية صدأ الحديد، فوزن المعدن قبل أن يصدأ أقل من وزنه بعض الصدأ، وهو مالم تستطع نظرية الفلوجستون تفسيره، ولاحظ أيضًا أن عملية صناعة الأحماض الكبريتية يتم فيها حرق معدن الكبريت ثم خلط رماده بالماء؛ فما نوع الهواء الذي حول حول معدن الكبريت إلى كبريت معدني؟
في نفس وقت ظهور أبحاث العالم البريطاني (جوزيف بريستلي-Joseph Priestley) (أحد أهم مناصري نظرية الفلوجستون) والتي اكتشف فيها الأكسجين (والذي لم يكن أطلق عليه هذا الاسم حينها) واستطاع فصله عام (1774م)؛ كان لافولازيه وزملاؤه يقومون بتجارب مماثلة لتلك التي كان يجريها برستلي، ولكن فشلوا في تحديد خصائص الهواء الذي قاموا بتجميعه، وفي نفس السنة وأثناء عشاء أُقيم في أكاديمية العلوم بباريس لتكريم بريستلي، عرض عليهم بريستلي خصائص ذلك الهواء الذي اكتشفه، وعندها لاحظ لافوازييه أن الهواء الذي يتحدث عنه بريستلي في أبحاثه هو نفسه الهواء الذي يحتاجه لإكمال نظريته، حيث أطلق عليه اسم «الأكسجين» أو «مولد الحمض»، وبفضل إمكانية فصل الأكسجين؛ استطاع لافوازييه تفسير التغير في وزن المادة قبل وبعد الاحتراق.
«لعل قطع رأسه لم يستغرق أكثر من لحظة، ولكن قد لاتكفي مئة عام لإنتاج رأسٍ مشابه»، كان هذا تعليق الرياضي الفرنسي ( جوزيف لوي لاغرانج-Joseph-Louis Lagrange) عام (1794م) بعد إعدام لافوازيه أثناء الثورة الفرنسية على يد بعض إرهابييها.
4- جوزيف بروست:
استقبلت مدينة أنجيه (Angers) الفرنسية عام (1754م) الكيميائي الفرنسي صاحب قانون النسب الثابتة؛ أحد أهم مطوري طرق التحليل الكيميائي وصاحب الابتكارات التطبيقية في مجال الكيمياء والمتفجرات (جوزيف لويس بروست-Joseph Louis Proust)
أ- حياته:
سائرًا على نهج أبيه، اهتم بروست بدراسة الكيمياء على يد والده أولًا في أنجيه ثم في باريس على يد (هلير مارين رويل-Hilaire Marin Rouelle)، وبعدها تم تعيينه كصيدلي في مستشفى سالبيلاتير (Salpêtrière Hospita)، ولكن سرعان ماترك تلك الوظيفة ليعمل كأستاذ لمادة الكيمياء عام (1778م) في الكلية المنشأة لتوها في أسبانيا (سيمليناريو باتربوتيكو فاسكونجادو-Seminario Patriótico Vascongado) في فيرجارا.
عاد بروست مرة أخرى إلى باريس عام (1780م) ليعمل كمدرس للكيمياء في المعرض الذي أنشأه أحد الرواد في مجال العلوم ( جان فرانسوا بيلاتير دي روزيير Jean-François Pilâtre de Rozier)، وكان أحد أهم المشاركات التي قام بها بروست في ذلك المعرض هي دراسة المناطيد وصناعتها؛ والتي بلغت ذروتها في صعود المنطاد حاملًا بيلاتير في فرساي عام (1784م).
ب- إسهاماته:
من المعروف أن بروست أولى اهتمامًا لتحليل المواد الكيميائية ودراستها، حيث صاغ لنا قانون النسب الثابتة ( Definite proportion) «والمعروف باسمه»؛ حيث ينص على أن كل مركب كيميائي يتكون دائمًا من نفس العناصر متحدة مع بعضها بعضًا بنسبٍ وزنيةٍ ثابتة، وقد صاغ بروست هذا القانون عام (1793م)، ولكنه لم يُنشر إلا عام (1795م) في أسبانيا، ثم عام (1797م) في فرنسا.
وبالرغم من أن بروست قد صاغ هذا القانون بنفسه؛ إلا إن الأفكار الموجودة بالقانون كانت شبيهة بالأفكار الموجودة بعلم المعادن الفرنسي (French mineralogy)؛ والذي اهتم بوصف المواد الكيميائية من حيث شكلها البلوري وتكوينها الكيميائي بشكلٍ دقيق.
توفي بروست في أنجيه عام (1862م).
الخاتمة:
ربما لم تستطع المقالة الإلمام بالإنجازات التي قام بها هؤلاء العظماء، ولن يستطيع أي كاتب أن يختزل ذلك المجهود الجبار في مقالٍ واحد، ولكن يبقى الهدف الأهم من المقال: هل ستمل مرةً أخرى من فصل الكيمياء؟
إعداد وتصميم: Ahmed Fahmy
مراجعة علمية: Amira Esmail
تدقيق لغوي: Mohamed Sayed Elgohary
المصادر:
http://sc.egyres.com/fwGGA
http://sc.egyres.com/Oqspt
http://sc.egyres.com/rE90O
http://sc.egyres.com/vMCgp
http://sc.egyres.com/r9Wla