في الواقع، كنتُ ومنذُ صغري طفلًا هادئًا يعيش في عالمِ الخيال. في طبعي خجل وتردد مُبالغٌ فيهما، لدرجة أنهما يتسببان في إساءة فهم من حولي لي ويضعني في مواقف سخيفة ومُحرِجة.
صباح الدين علي: الميلاد والتعليم
وُلِد «صباح الدين علي» في 25 فبراير 1907 في ولادية «Edirne ــ أدرنة» التابعة للإمبراطورية العُثمانية قديمًا، الواقعة على حدود بلغاريا وجمهورية تُركيا حاليًا. كَثُر انتقال عائلته إلى مناطق مُختلفة بسبب ظروف عمل والده، مما أتاح له الحصول على التعليم في مدارس مُختلفة ما بين: (اسطنبول، ادرميت). بعد إتمامه المراحل التعليمية المُختلفة وتخرُجه من الجامعة، عمل بالتدريس لمدة عام في مدرسة يوزغات الابتدائية، ثم قدم على بعثة إلى ألمانيا، وتم قبوله، وسافر للدراسة هناك لمدة عامين. ثم عاد لتدريس اللغة الألمانية في الوطن. (1)
حتى أكثر الناس بساطة،وبؤسًا، بل وحمقًا، لهم أرواح غريبةٌ ومعقدةٌ تُوقِع الإنسان في الدهشة،لماذا نهرب من فهم هذا ونظن أن فِهم الإنسان والحُكم عليه من أسهل الأشياء؟!
بداية الكتابة ومسيرته الأدبية
بدأ «صباح الدين علي» مسيرته الأدبية بنظم الشعر الموزون ونُشر شعره في العديد من المجالات التُركية، جُمعَت أشعاره في كتاب شعري يحمل اسم « dağlar ve rüzgarـ الرياح والجبال» عام 1934.
ثم بعد فترة قصيرة بدأ بكتابة القصة القصيرة والرواية، أول قصة قصيرة له كانت بعنوان «حكاية غابة» ونُشرت في 1930. نالت روايتي: «Kuyucaklı Yusuf ـ يوسف» 1937 و« kürk mantolu madonna ــ مادونا صاحبة معطف الفرو» 1943، شهرة واسعة في الأدب التُركي وذاع صيتهما حول العالم. (2)
ألا تقبل بحقيقة أنَ كَوُن الشخص وحيدًا في هذه الحياة هو الطبيعي؟ كلُ التقارُبات وشتى أنواع الترابط كاذبة، فالناس يستطيعون الاندماج مع بعضهم إلى حدٍ معين فقط، وما غير هذا فهو تصنُع؛ وفي يومٍ من الأيام وعندما يدركون أخطاءهم، يتركون كل شيء ويهربون بسبب بؤسهم. لكن لو أنهم اقتنعوا بما هو ممكن فقط، وتراجعوا عما اعتقدوا في عقلهم بأنه الحقيقة لما كان لهذا أن يحصل. عندما يقبل الكل بما هو طبيعي، لن تبقى أية خيبة أمل أو انكسار.
مادونا صاحبة معطف الفرو
منذ طفولتي كنت أخاف دائمًا من الإسراف في السعادة، آملًا أن أخبئ بعضًا منها لأوقاتٍ أخرى.
الناس -لسببٍ ما- يُفضلون ما ألفوه وعرفوه مسبقًا على ما يمكن أن يكتشِفوه.
الإنسان يعتاد سريعًا ويصبر على الأشياء التي كان يظن بأنه لن يتحملها أبدًا.
كيف كان له أن يُحِب أناسًا لم يشعر في قلبه باحترام وتقدير لهم، بل وينظر إليهم من علوّ.
نبذة عن الرواية
لسببٍ ما، وجدتُ تلك الفتاة قريبة مني جدًا، شبهتها بنفسي، من ناحية عدم إخبارها أي أحدِ بما يجولُ في خاطرها، وتخبئتُها لجوانب شخصيتها بغيرة مُدهِشة وعدم الثقة بأحدٍ ما.
نحنُ أمام رواية داخل رواية أخرى، حكايتان مُختلفتان، يجمعهما بطلٌ واحد: رائف أفندي العجوز الذي تقدم به السن ويعمل مُترجمًا في البنك، مُنعزلًا عن باقي البشر، غريبًا بين زوجته وأولاده، يلتقي بشاب صغير السن، طُرد هو الآخر من عمله السابق، فأصبح زميلًا لرائف أفندي في العمل، وجد الشاب رائف أفندي قليل الحديث، يتحمل الذل والإهانة دون ردٍ أو جواب، يبدأ داخل أسواره، وتتعمق علاقتهما، مما يجعله يكشف لنا الوجه الآخر لحياة رائف أفندي الشاب.
يبدأ مسار الحكاية الثانية باكتشاف السبب وراء حزن رائف أفندي وانعزاله الدائم عن البشر ومن حوله حتى عائلته؛ لندخُل في حكاية أخرى مليئة بالحُب والحزن والجُبن وقليل من المُغامرة والاندفاع، حكاية نتعرفُ فيها أكثر عن حياة «رائف أفندي» في ألمانيا، وقصته مع لوحة «مادونا» ثم لقائه بـ «ماريا» والتي شبهها كثيرًا بفتاة اللوحة، لكن هل هي نفس الفتاة في اللوحة، أم أن شعور «رائف أفندي» هو ما صورَ له ذلك؟.
السرد في «مادونا صاحبة معطف الفرو»
لُغة الحوار بين شخصيات الرواية سلسة، سهلة الفهم، نادرًا ما تجد تعقد في الألفاظ.
الشخصيات في الرواية
«رائف أفندي»، لكي يكون تحليلًا صادقًا لشخصية رائف أفندي يجب أن يكون على مسارين:
«رائف أفندي الشاب»: نشأ منعزلًا، متكتمًا، يبتلع مشاعره دون أن يفيض بها، مُنعدم الثقة في نفسه، تَقرر له الذهاب إلى ألمانيا ليتعلم حرفة المستقبل، لكنه لم يكُن يعلم أن حياته كلها كانت على وشك التغيير.
«رائف أفندي العجوز»: ترى فيه انهزامية مُبالغ فيها، تجعلك تود أن تتوسل إليه ليُبدي أي رد فعل مهما كان لإهانات من حوله له، لكن هل كان دائمًا هكذا أم حدث ذلك بسبب ما قد عاشَه في ألمانيا؟
في هذا المساء فهمتُ بأن الإنسان قد يرتبط بإنسان آخر أكثر من ارتباطه بالحياة، ومُجددًا فهمت بأنني لو خسرتها، فإني سأتدحرج في هذه الدنيا كحبة جوز جوفاء.
«مادونا، أو ماريا»: نرى مادونا كشخصية مثالية لا شبيه لها بالواقع، كأنها آية نزلت من السماء، مُختلفة عن باقي البشر، في حين عندما تقترب منها كـ «ماريا» تنكشف الهالة من حولها وتجدها شخصًا عاديًا بالغت في تقديره.
نهاية الرواية
من خلال مسار الأحداث في الحكايتين، قد تجد النهاية مُتوقعة، مليئة بالفقد المُؤلم، والبؤس الشديد الذي أحاط بحياة «رائف أفندي» ومحبوبته ذات معطف الفرو، لكن للحظة الأخيرة تتمنى فقط أن يحدث ولو شيء واحد يُغير من حياة رائف أفندي، شيء يُعيد له نهايته السعيدة المسلوبة من غير إرادته.
كل مرارات الحياة وكل ما يخسر فيها من أشياء ثمينة وثروات يُنسى مع الزمن إلا الفرص المُفوَتة فإنها لا تُنسى أبدًا، في كل مرة يتذكرها المرء فإن شيئًا بداخله يعذبه. سبب ذلك على كل حال هو الاعتقاد بأنه كان من الممكن أن يكون الوضع مختلفًا، وإلا فالإنسان مستعد دائمًا لتقبل ما يلقيه عليه القدر.
وفاة «صباح الدين علي»
لم يبدُ له في هذه الحياة أي شيء ثمينًا، ولم تُرَاوده رغبة الركض خلفه، أو الوصول إليه أو تملُّكه. فلطالما نظر إلى ما حوله دائمًا بعيني الغريب، ولم يشعُر برغبة الارتباط بأي مكان، وفي وسط كبرياء هذه الوحدة حاول أن يكون سعيدًا. الآن، ولأول مرة، أصبح يُريد شيئًا، بل ويريده بشدة أيضًا. لكن لماذا ظهرت هذه الرغبة مع استحالتها؟ لماذا هو مضطر إلى أن يقتل أكبر رغبة لديه، رغبة كانت مستترة في أعماق أعماقه، لماذا عليه تحطيمها في مكانها وقتلها عندما ظهرت.. لماذا؟ ومن أجل من؟!
رغبة استوطنت قلبه وسكنَت جوانبه لكن القدر سبقه إليها، وأصبح من المستحيل تحقيقها أو جعلها مُتجسدة على أرض الواقع، حيثُ تُوفي «صباح الدين علي» في 2 ابريل عام 1948 وتقبل ما ألقى عليه القدر، لكن كم من فرصة أضاعها في حياته، كم من تجربة تمنى خوضها وكم من مرة تمنى أن يكون الوضع مُختلفًا!.
إعداد: هند يونس
المصادر:
1. Turkish literature – New Ottoman literature (1839–1918) [Internet]. Encyclopedia Britannica. [cited 2019 Feb 11]. Available from: https://www.britannica.com/art/Turkish-literature
2. Sabahattin Ali Kimdir ? [Internet]. Sabah. [cited 2019 Feb 11]. Available from: https://www.sabah.com.tr/sabahattin-ali-kimdir-
3. Freely M. Sabahattin Ali’s Madonna in a Fur Coat – the surprise Turkish bestseller. The Guardian [Internet]. 2016 May 21 [cited 2019 Feb 11]; Available from: https://www.theguardian.com/books/2016/may/21/sabahattin-ali-madonna-fur-coat-rereading