الأصل
ماذا لو وضعت عزيزي القارئ قطعًا صغيرةً من الخضروات في طنجرة مليئة بالماء، ثم أضفت إليها القليل من الملح والبهارات وتركتها لعدة ساعات دون أن تُشعل الموقد؟ هل تعتقد أنك ستجد ذلك الحساء الساخن الذي تستعين به على ليالي البرد القارس؟ لا أظن، لكن ما أظنه أنك ستجد في هذا المقال المكونات والظروف التي يُعتقد أنها شكلت الحساء الأول الذي منه تكونت الخلية الأولى، فهل تحمست للمزيد؟
التوالد التلقائي.. ما هو؟
التوالد التلقائي فكرة مفادها أن الكائنات الحية نشأت في البداية من مكونات بدائية غير حية منذ ما يقارب 3.5 مليار سنة، وتقترح أن أشكال الحياة الأولى كانت بسيطة التركيب، ثم عبر عملية تدريجية طويلة تراكمت العديد من التغيرات وأصبحت أكثر تعقيدًا.
فرضية أوبارين-هاليدين
في عشرينيات القرن الماضي، وفي بلدين مختلفين، قدَّم كلًّا من العالم الإنجليزي (جون بوردون ساندرسون هولدين۔ J.B.S. Haldane) والكيميائي الحيوي الروسي (ألكساندر أوبارين۔ Aleksandr Oparin) بصورة مستقلة فروض مماثلة عن أصل الحياة على كوكب الأرض، حيث اعتقد كلاهما أن بإمكان بعض المركبات العضوية عند وجود مصدر طاقة خارجي ۔كالأشعة فوق البنفسجية۔ وغلاف جوي بدائي يحتوي على كميات منخفضة من الأكسجين، وكميات مرتفعة من الأمونيا، وبخار الماء وسط العديد من الغازات الأخرى، أن تُكوِّنَ الأشكال الأولى للحياة، كما اعتقدا أيضًا أن تلك الظروف كانت متوفرة في المحيطات الأوَّلِيَّة الدافئة حيث توجد أشكال الغذاء البسيطة والجاهزة التي لا تحتاج إلى عمليات معقدة لتكوينها ۔كالبناء الضوئي على سبيل المثال۔.
ميلر ويوري وأرض الواقع
ما هي التجربة؟
من الناحية العلمية تُعدُّ التجارب التي يمكن مقارنتها بالواقع هي الطريقة الأمثل للتأكد من أي فرضية، لذلك؛ ٱجری كلًّا من (ستانلي ميلر۔Stanley Miller) وهو طالب الدراسات العليا بجامعة شيكاغو حينها، و(هاورلد يوري۔ Harold Urey) الحاصل على جائزة نوبل عام 1935م، تجربة لمحاكاة الظروف التي من المفترض توفرت في تلك الحقبة التي يظنَّا أنها كانت مهد الحياة على سطح الأرض، حيث ملأ يوري وميلر قنينة زجاجية جزئيًّا بالماء، ثم غطَّا تلك الكمية من الماء بمزيج من غازات الأمونيا والهيدروجين والميثان وبخار الماء، وسخنا أسفل تلك القنينة ليتبخر جزء من المحتويات الداخلية عبر أنبوب زجاجي طويل إلى قنينة أخرى مرورًا بشحنات كهربية، محاكيًا تأثير البرق حينها لتعود مرة أخرى إلى تلك القنينة الأصلية.
وبعد دورة متكررة لبضعة أيام، عوضًا عن آلاف السنين؛ وجد يوري وميلر أن قنينة الماء تحتوي على مواد عضوية لزجة تتكون من مركبات عديدة منها: أنواع من السكريات، واثنين من أبسط الأحماض الأمينية هما (الجوانين۔ Guanine) و(الألانين۔ Alanine)، بالإضافة إلى تكوُّن بعض الجزيئات المعقدة نسبيًا المسماة بـ(النيوكليوتيدات۔ Nucleotides) التي تعد العنصر الأساسي المكوِّن لجزيء الحمض النووي.
ولكنَّ…!
بعد نشر يوري وميلر نتائج تجربتهما؛ ظهرت عدة مشاكل في أسس التجربة وهي: هل العناصر المُستخدمة في التجربة تمثل ما كانت عليه الأرض بالفعل؟، فيما بعد اكتشف العُلماء أن العناصر المُستخدمة لم تكن موجودة بكميات كبيرة على الأرض في سنها المُبكرة، فقد كان يتكوَّن الغلاف الجوي في ذلك الوقت من مزيج خامل من «ثاني أكسيد الكربون» و«النيتروجين»، وأضافت نتائج تحليل الصخور أن الغلاف الجوي للأرض لم يكن غنيًا بـ«الهيدروجين» على الأرجح، ومن أجل ذلك؛ أعاد ميلر التجربة مرة أخرى عام 1983م مستخدمًا العناصر الصحيحة، وكانت المفاجأة؛ لم تتكون تلك المادة اللزجة التي تكونت في التجربة الأولى، ولكن تكون محلول عديم اللون يحتوي على كمية ضئيلة من الأحماض الأمينية.
يوجد أمل
«ربما كنَّا أكثر تفاؤلًا، ولكن التجربة كانت نقلة نوعية»
هذا ما صرح به الكيميائي (جيفري بادا- Jeffrey Bada)، الذي أعاد فريقه تجربة «ميلر» مرة أخرى بمعهد «سكريبس لعلوم المحيطات» في كاليفورنيا، بهدف كشف النقص الموجود في التجربة الأولى، وقد كان؛ فعندما أعاد «بادا» التجربة من جديد اكتشف مجموعة من المواد الكميائية تسمى «النيتريت» تدمر أي حمض أميني بمجرد تكونه، بالإضافة إلى زيادة حمضية الماء المُستخدم في التجربة التي ستمنع تكون الأحماض الأمينية من الأساس، فما الحل؟ لاحظ فريق «بادا» أن الأرض المبكرة كانت تحتوي على كميات من «الحديد» و«الكربونات»، التي بدورها تعادل مجموعات النيتريت وحامضية الماء، ولذلك؛ أضاف بادا تلك المواد إلى التجربة. أنتجت التجربة نفس لون المحلول الناتج من التجربة المنفذة عام 1983م، ولكن المحلول هذه المرة كان مليئًا بالأحماض الأمينية، منها 22 حمضًا أمينيًّا اكتُشفَ وجودهم في الأحياء فيما بعد «للمزيد اضغط هنا».
وأخيرًا اختتم المقال بنص (تشارلز داروين۔ Charles Darwin) إلى صديقه عالم النبات (جوزيف هوكر۔ Joseph Hooker):
«يُقال كثيرًا إن جميع الظروف المطلوبة للإنتاج الأوَّلِيِّ للكائن الحي متوفرة الآن، وظلَّت كذلك على الدوام؛ لكن لو أمكننا تصور وجود بركة صغيرة دافئة تتوفر فيها كافة أنواع النشادر وأملاح الفسفور والضوء والحرارة والكهرباء.. إلخ، لتكوِّن مُركَّبًا بروتينيًّا كيميائيًّا مستعدًّا للمرور بالمزيد من التغيرات الأكثر تعقيدًا، ففي يومنا هذا سيُمتَصُّ مثل هذا المركب على الفور، وهو ما لم يكن ليحدث قبل وجود الكائنات الحية».
لقراءة جميع مقالات سلسلة #الأصل:
مغامرة الفلسفة الأولى.. بدايات التفلسف حول ظواهر الحياة وأصلها
أصل الحياة في الفلسفة اليونانية.. أمبادوقليس نموذجًا
فرضيات نشأة الحياة من وجهة نظر علم الأحياء.. البيضة أولًا أم الدجاجة؟