لقد أقرّ العاملون بقطاعِ الصحة -في الصفوفِ الأمامية المواجِهة لجائحةِ فيروس كورونا العالميّ- أنّه مع هذا العددِ الهائل للحالات، يُرغمُ الطاقمُ الطبّيّ على اتخاذِ قراراتٍ مؤلمة؛ لضمانِ نجاة المرضى. فعلى سبيل المثال، حينما تصبحُ المواردُ الطبيّة كأجهزةِ التنفس الصناعيّ محدودةً؛ يُمثلُ اختيارُ واحدةً من حالتين حرجتين؛ليتم انقاذها بواسطةِ جهازِ التنفس معضلة أخلاقية.
تُعد المعضلة الأخلاقية موقفًا ما، حيث يكون الشخصُ أمام خيارين يستحيلُ تحققْ كليهما معًا، وتوجدُ أسبابٌ مُلحّة لاختيارِ كُلٍ منهما. وفي حالةِ كوفيد-19، يواجهُ الطاقمُ الطبيّ تلكَ المعضلة الأخلاقية لتقريرِ أيِّ المريضَين يموتُ وأيهما يعيش؛ وغالبًا سيؤدي عدمُ اتخاذِ القرار إلى موتِ كليهما. ولا بد لقرارٍ كهذا أن يُشعر ضميرَ الطاقمِ الطبّيّ بتأنيبٍ يصلُ إلى حدِ الرعب.
«مفتوحٌ للعمل» مقابلِ إنقاذِ الأرواح
وعلى نقيضِ ذلك، فإنّ الاختيارَ بين إنقاذِ أرواح البشر، وإنقاذِ المشاريع التجاريّة لا يمثّلُ معضلة أخلاقية؛ فلا يمكنُ أن تتساوى -بأيّ حالٍ من الأحوال- الأرواحُ بالأموال. ومع ذلك، لم يكن هذا التفكيرُ البديهيّ عائقًا أبدًا أمام الأشخاصِ المُهتَمين بطموحاتِهم السياسيّة، والماليّة بغضِ النظر عن الخسائرِ البشريّة.
وفي بدايةِ شهر مارس من العام الماضي، طلبَ رئيسُ الوزراء البريطانيّ بوريس جونسون -والذي كانت نتيجةَ اختبار إصابته بفيروسِ كورونا إيجابيّة- من الشعب البريطانيّ أن «يواجهوا الأمر بشجاعةٍ وصبر» ويستعدوا لفقدِ أحبّائهم. لم تكن هذه الكلماتُ مُجردَ تحذيرٍ لتوخّي الحذر؛ فقد كان يَقِْرُ بعواقبِ استراتيجيّته بالسماحِ للفيروسِ بالتفشّي دون أيّ رادعٍ، وذلك على أملِ إكساب بريطانيا ما يُعرفُ بـ«مناعةِ القطيع». فهل تكونُ الخسائرُ البشريّة ثمنًا لهذهِ المساواةِ المشؤومة؟ مما يعني إباحةِ موتِ الأقليّة حتى يُمكنَ للغالبيّة أن تعيش. غير أنّ جونسون قد أُرغمَ على تغييرِ هذا المسار، عندما بيَّنَ نموذجٌ -قدّمته الجامعة المَلكيّة- أن 260,000 شخصًا سيتعيّن عليهم أن يموتوا حتى يمكن لبقيّةِ إنجلترا أن تعيش.
وفي وقت آخر، دعا رئيسُ الولايات المتحدة السابق دونالد ترامب، ومؤيدوه إلى نسخةٍ شديدةِ البشاعة من نفسِ المساواة، قائلين أنّه لا يمكنُ السماحُ بانهيارِ الاقتصاد الأمريكيّ حتى لو عنى ذلك التضحيةَ بالأرواح. وتحديدًا في يوم الاثنين، وقبل ثلاثة أيام من تصدرِ الولايات المتحدة مكانتها المريبة كأكثرِ دولةٍ في عددِ الحالات المؤكدة المصابة بكوفيد-19، طالَبَ ترامب أثناء المؤتمرِ الصحفيّ عن فيروس كورونا المُنعَقِد في البيت الأبيض بـ «إعادةِ فتحِ الأعمال في أمريكا قريبًا –مُناقضًا بذلك توصيّات خبراءِ الصحة الشديدة -.»
عصرٌ جديد للتضحياتِ البشريّة
ولكنّه ليس عودةً لعصرِ الطاعون فقط؛ وإنما هو -وقد يَصعُب تصديقُ ذلك- القرن الواحد والعشرون، حيث يبدو أن المجتمعاتَ الغربيّة تعودُ لعصرِ التضحياتِ البشريّة.
فقد استهلّ ستيف هيلتون – المستشارُ السابق لرئيسِ وزراء بريطانيا السابق دايفيد كاميرون- حوارَه على فوكس نيوز قائلًا: «أتعرفون ذلك التعبير الشهير بأن (العلاجَ أسوءُ من المرضِ)؟ أتعتقدون أن فيروس كورونا وحده من يقتلُ الناسَ؟ إنّ هذا الانهيار الاقتصاديّ الشامل سيقتلُ الناس.»
واقترح دان باتريك -نائبُ محافظِ تكساس-، على فوكس نيوز أيضًا، أن كبارَ السنِ على استعداد أن يموتوا في سبيلِ إنقاذ الاقتصاد للشباب. وقد صرّح أنّه هو نفسه -كونه مواطنًا مُسنًّا- على أتمِ الاستعداد لذلك. وقام معلِّقون آخرون على فوكس، ووسائل إعلام مُحافظة أخرى بتكرارِ رسالةِ باتريك وتضخيمها، مُحوّلين بذلك ما كان مفترضًا أن يكون صوتًا وحيدًا لسياسيٍّ مشوَّهٍ، وحاقد إلى موضوعِ حوارٍ جمهوريّ. وكان التلميح واضحًا: يتطلّبُ الفيروس دمًا بشريًّا، وسيكون المسنّون قُربانًا مُناسبًا.
لا داعيَ للقلق، فالمعرَّضون للخطر أقل من 1% فقط
وقد قالَ ترامب مسبقًا إنْ «فكرةُ الموتِ وإن كانت عمومًا رهيبةً… فهناك فرقًا شاسعًا بين شيءٍ أقل من 1%، و4 أو 5 أو 3% حتى.»
وتتناقضُ الصورةُ التي أوحى بها الرئيسُ مع الصورِ التي قدمها علماءُ المجتمع -ولكنّ ذلك خارجَ نطاقِ موضوعنا تمامًا. فإنّ هذه الـ«واحد بالمائة» مجردَ استعارةٍ واحدةٍ في قائمةِ التعبيرات التجريديّة الطويلة التي تستخدمُها أخبثُ القوى السياسيّة في التاريخِ الحديث؛ لنزعِ الصفة البشريّة ممن حَكمتْ عليهِم سياسةُ الوحشيّة بالموت.
أنحتاج حقًا إلى القولِ بأنّ وراء هذه الإحصائيات، والمفاهيم المجرّدة يِكمُنُ بشرًا؟ هذه الـ«واحد بالمائة» ما هم إلا أبو صديقٍ يموتُ وحيدًا في مكانٍ ما بتوسكانا، والجدةُ التي تجلسُ وحيدةً في شقتِها بطهران فاقدةَ الأمل في رؤيةِ أحفادها مجددًا، منتظرةً أنْ يزورها الموتُ.هذه الـ«واحد بالمائة» هي الشابّةُ التي تعيشُ في نيو جيرسي، وتعاني من الربو، وسيكبُر طفلُها الدارِج بدونِ أمٍ. فهل ما زال ضروريًا في عام 2020 أن نقولَ هذه الأشياء؟ ألم نتعلّم أثناء كوابيسِ السياسةِ الجحيميّة أن أيَّ موتٍ دائمًا ما يكونُ موتَ أبٍ أو أمٍ، أو ابنٍ أو ابنةٍ، يكون موتََ إنسانٍ؟
إنسانيّةٌ مُستهلَكة
تشتركُ هذه النقاشات كلها في تأكيدِها على أن جزءٌ من البشريةِ مُستهلَكًا؛ أيّ أننّا نستطيعُ أن نتخلصَ من المسنين، والعجزةِ، وغير المنتجين، وغير المؤهلين اقتصاديًا واجتماعيًا. وهذا التعريفُ ليس مُبالغًا فيه. وقد عبّر جيرمي وارنر -مساعدُ المحرر، والكاتب الاقتصاديّ بجريدةِ ذا تيليجراف The Telegraph – عن الخطةِ بالطريقةِ المُثلى -وليس بصيغةٍ أقل من موظفِ رئيسِ الوزراء السابق جونسون- قائلًا إنّه: «من منظورٍ اقتصاديٍّ نزيه تمامًا؛ ربما يحققُ الكوفيد-19 فائدةً طفيفةً على المدى البعيد، وذلك عن طريقِ الإنتقاء غير المتناسبِ للمسنين المُعالين.»
ثمة طرقٌ عديدةٌ توضّحُ المدى الذي وصلت إليه أنظمةٌ سياسيّةٌ مُعينَة، ومؤيدوها من الإعلامِ من انحطاطٍ بدعوتِهم إلى قتلِ أقاربنا، أو آبائِنا، أو أجدادِنا، أو أطفالِنا، أو أصدقائِنا. ولكن في هذهِ اللحظةِ الحاسمة من تاريخِ الإنسانيّة، هناك أسئلةٌ أخلاقيةٌ جوهريّة أهمُ من هذهِ التوضيحات: ما هي العِظاتُ البديهيّة التي علّمنا إياها الماضي، وعلى أيٍّ منها نريدُ أنْ نبني سياساتَنا المستقبليّة؟ هل نريدُ أن يموتَ آباؤنا حقًا لتأمينِ ربحٍ ما؟ لأنّه -وفي نهايةِ المطاف- ما هو على المحك بحقٍ أنّ ماهيّتنا بعد زوالِ الجائحة ستعتمدُ بشكلٍ كبيرٍ على القراراتِ التى أتّخذناها بصفتِنا مجتمعًا أثناء هذهِ الأزمة.