الاقتصاد العالميّ ما بعد جائحة كوفيد-19: تضخم اقتصاديّ أم انكماش؟

الاقتصاد العالميّ ما بعد جائحة كوفيد-19: تضخم اقتصاديّ أم انكماش؟

مع استمرار معاناة الاقتصاد العالميّ من تبعات جائحة كوفيد-19، وما نتج عنها من أزماتٍ اقتصاديّةٍ عانت منها جميع دول العالم، نتجت عن السّياسات والإجراءات الحمائيّة والإغلاقات الكلّيّة أو الجزئيّة للقطاعات الاقتصاديّة المختلفة، الّتي أصبحت موضوع تحليل الاقتصاديّين العالميّين لتحديد ملامحها واتّجاهاتها المستقبليّة؛ نستعرض في هذا المقال تحليلًا مستقبليًّا قدّمه الباحث الاقتصاديّ أوليفييه بلانشارد (Olivier Blanchard) الباحث من معهد بيترسون للاقتصاد الدّوليّ (Peterson Institute for International Economics PIIE)، قد قدّمه في منتصف عام 2020، يعرض فيه فرص التّضخّم أو الانكماش في الاقتصاد العالميّ في فترة ما بعد كوفيد-19. ونقارن توقّعاته مع الواقع الاقتصاديّ العالميّ بعد مرور أكثر من عامٍ ونصفٍ على هذه الجائحة.

الاتجاهات الاقتصاديّة العالميّة ما بعد كوفيد 19

يرى أوليفييه بلانشارد أنّ هناك عدّة سيناريوهاتٍ يمكن أن تصف مستقبل الاقتصاد العالميّ بعد انتهاء جائحة كوفيد-19. فحسب المقاييس الاقتصاديّة التّقليديّة يتوقّع أن يعاني الاقتصاد العالميّ من أحد احتمالين، هما:

  • الاحتمال الأوّل: حدوث انكماشٍ اقتصاديٍّ (Economic Deflation) مع انخفاضٍ في مستويات التّضخّم، بحيث تنخفض أسعار السّلع والخدمات نتيجة انخفاض مستويات الطّلب، فمع ارتفاع معدّلات البطالة استثنائيًّا بسبب الإغلاقات وتغيّر طريقة تأدية الأعمال والإجراءات الوقائيّة والّتي ستنعكس بالضّرورة على عرض النّقود والائتمان في القطاعات الاقتصاديّة الّتي ينتج عنها انخفاض الطّلب على السّلع والخدمات، مسبّبةً لانكماشٍ اقتصاديٍّ. ممّا يتطلّب اتّخاذ اجراءاتٍ تواجه هذا الوضع الاستثنائيّ عن طريق انتاج سياسة توظيفٍ استثنائيّةٍ تساهم في زيادة الدّخول لمنع الانخفاض.
  • الاحتمال الثّاني: حدوث تضخّمٍ اقتصاديٍّ (Economic Inflation)، بحيث ترتفع المستويات العامّة للأسعار بشكلٍ كبيرٍ نتيجة ارتفاع الطّلب على السّلع والخدمات أكثر من قدرة العرض المتاح على تلبيتها، إذ تسبّب الإغلاقات ارتفاع تكاليف النّقل بشكلٍ عامٍّ، خصوصًا في مجال التّجارة الدّوليّة، وتضاعفت أسعار النّقل الدّوليّ، ممّا تسبّب في ارتفاعٍ كبيرٍ في أسعار السّلع والخدمات. وقد يصاحب هذا الاحتمال مزيجٌ من ثلاثة عناصر هي: ارتفاع نسبة الدّين إلى النّاتج المحلّيّ الإجماليّ بنسبةٍ كبيرةٍ، وارتفاعٌ في معدّلات الفائدة المحايدة، والتّركيز على السّياسات الماليّة على حساب السّياسة النّقديّة.(1)

ولذلك على الحكومات الحذر أشدّ الحذر عند اتّخاذ القرارات الخاصّة بالدّيون وتحديد معدّلات الفائدة بحيث تراعي الإبقاء عليها منخفضةً، وذلك لتقليل عبء الدّيون، حتّى تحافظ على استقرار الاقتصاد، وإلّا فإنّ العكس سيؤدّي إلى ارتفاع درجة حرارة الاقتصاد وارتفاع مستويات التّضخّم ممّا سيؤدّي إلى خفض القيمة الحقيقية للدّين، محمّلًا الاقتصاد تكاليف كبيرةً.

التضخم أم الانكماش

هل هناك انكماشٌ أو تضخّمٌ في مستقبلنا الاقتصاديّ؟

تشير تقارير بعض المراقبين إلى انخفاض أسعار السّلع الأساسيّة، وتعثّر أسعار النّفط الّتي حدثت في بداية الجائحة، وركود سوق العمل في نفس الفترة، الّتي تعتبر دلائل أوّليّةً لتوقّعات حدوث تضخّمٍ اقتصاديٍّ، وربّما قد تؤدّي نفس هذه التّوقّعات إلى انكماشٍ اقتصاديٍّ، فالتّوقّعات مجرّد احتمالاتٍ لا يمكن تحديد نتيجةٍ واحدةٍ يجزم بها.

الفريق الّذي يدعم فكرة التّضخّم يمعن النّظر إلى حالة سوق العمل، ويرى أنّ ارتفاع معدّلات البطالة بشكلٍ استثنائيٍّ والاعتماد على العمالة الجزئيّة ستخفّض الدّخل، وفي نفس الوقت فإنّ الصّدمات الّتي تتعرّض لها أسعار السّلع الأساسيّة والأغذية نتيجة ارتفاع تكاليف النّقل العالميّة، ستتسبّب في ارتفاع الأسعار مسبّبةً للتّضخّم. ولذلك يجب العمل على مواجهة هذا الوضع من خلال توفير وظائف استثنائيّةٍ، تساعد في توفير دخولٍ تتناسب مع مستويات الأسعار المرتفعة للتّخفيض من الضّغوطات التّضخّميّة.

وعلى حكومات الدّول الاتّجاه نحو برامج ماليّةٍ تساعد الأسر والشّركات الّتي تعاني من نقص السّيولة حتّى تستطيع التّغلّب على هذه الأزمة.

ولكن في بعض الدّول حدث العكس تمامًا، وبدلًا من ذلك، حدثت زيادةٌ كبيرةٌ في الادّخار، بسبب القيود المفروضة على التّسوّق من التّباعد الاجتماعيّ واتّجاه الأفراد إلى الادّخار الاحترازيّ. فبينما ارتفعت أسعار بعض المنتجات، انخفضت معدّلات التّضخّم، منذ بدء الإغلاق، مسبّبةً لحدوث انكماشٍ اقتصاديٍّ. ففي الولايات المتّحدة على سبيل المثال، انخفض مؤشّر أسعار المستهلك بنسبة 1.2٪ بمعدّلٍ سنويٍّ من فبراير إلى مارس 2021. وهناك شعورٌ بالقلق من أنّ عمليّة تخفيف إجراءات التّباعد الاجتماعيّ، ستؤدّي إلى انفجارٍ في الإنفاق نتيجة انتهاء الطّلب المكبوت في المستقبل مسبّبةً قوًى تضخّميّةً شديدةً. ولكنّ من غير المرجّح أن تكون كبيرةً وطويلةً بما يكفي لزعزعة توقّعات التّضخّم، ومن المرجّح أن تختفي بسرعةٍ.

ولكن على المدى الطّويل بالنّظر إلى ما هو أبعد من ذلك، فإنّ من الصّعب رؤية طلبٍ قويٍّ يؤدّي إلى التّضخّم. ومن المرجّح أن يلعب الادّخار الوقائيّ دورًا كبيرًا في تخفيض الاستهلاك، الّذي سيؤدّي بالضّرورة إلى انخفاضٍ في معدّلات الاستثمار وبالتّالي سيترتّب على هذا التّحدّي حدوث انكماشٍ اقتصاديٍّ، إلّا إذا تمّت مواجهته باستخدام سياساتٍ نقديّةٍ وماليّةٍ تحافظ على مستويات الطّلب وتجنّب الانكماش.

لهذا السّبب تتركّز الاحتمالات على توقّع حدوث معدّلات تضخّمٍ منخفضٍ في السّنوات القادمة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّنا نعمل على أرض الواقع في بيئةٍ غير قياسيّّةٍ يصعب التّنبّؤ بكافّة متغيّراتها بدقّةٍ، فقد تكون الطّريقة المعياريّة في التّفكير بشأن التّضخّم خاطئةً. وقد تكون صحيحةً، وكذلك الحال بالنّسبة لتوقّعات الانكماش.

توقعات التضخم

لتوقّع حدوث تضخّمٍ مرتفعٍ لا بدّ من توفّر ثلاثة عناصر أساسيّةٍ تدعم مثل هذه النّتيجة.

  • العنصر الأوّل: حدوث زيادةٍ كبيرةٍ للغاية في نسبة الدّين المحلّيّ إلى النّاتج المحلّيّ الإجماليّ، بحيث تكون النّسبة أكبر من 20 إلى 30 في المائة في ظلّ التّوقّعات الحاليّة. وذلك لأنّها ستؤدّي إلى عجزٍ كبيرٍ في الدَّيْن العامّ.
  • العنصر الثّاني: ارتفاعٌ في معدّل الفائدة المحايدة، أي ارتفاع السّعر الحقيقيّ الآمن اللّازم للحفاظ على الاقتصاد. فقد يؤدّي انحدار الطّلب على السّندات الحكوميّة، إلى اتّجاه الحكومات إلى رفع معدّلات الفائدة عليه لتحفيز الطّلب عليه. كما أنّ زيادة عرض السّندات الحكوميّة يمكن أن يتسبّب في زيادةٍ في معدّل شراء المستثمرين لها.
  • العنصر الثّالث: وربّما هو العنصر الأهمّ وهو هيمنة السّياسة الماليّة على السّياسة النّقديّة.

للتّغلّب على الآثار السلبيّة للعناصر السّابقة قد تلجأ الدّول إلى سياساتٍ أخرى، منها لجوء البنوك المركزيّة إلى زيادة الاحتياطيّ الإجباريّ، لتجنّب ارتفاع درجة حرارة الاقتصاد وتجنّب الاتّجاهات التّضخّميّة. لكنّ هذا من شأنه أن يزيد من خدمة الدّين، ممّا يتطلّب تعديلًا ماليًّا كبيرًا محتملًا لتجنّب انفجار الدّيون. وقد تميل الحكومة إلى مطالبة البنك المركزيّ بالإبقاء على سعر الفائدة منخفضًا في نفس وقت زيادة الاحتياط الإجباريّ، وذلك لتقليل عبء الدّيون. وفي حالة رفض البنك المركزيّ اتّباع هذا النّهج فإنّ ذلك سيؤدّي في المستقبل إلى الحفاظ على معدّلات تضخّمٍ منخفضةٍ لفترةٍ طويلةٍ جدًّا.(2)

خلاصة الأمر أنّ حدوث التّضخّم يتطلّب توافر مزيجٍ من هذه العناصر الثّلاث معًا. لكلٍّ منها احتمالٌ ضئيلٌ في الحدوث في الاقتصاد يختلف باختلاف درجة تقدّم الاقتصاد.

وفي حالة اختلاف نسبة حدوث هذه العناصر وانعكاس آثارها قد يحدث العكس، الّذي هو انكماشٌ اقتصاديٌّ، يرتفع فيه عرض السّلع والخدمات يصاحبه انخفاضٌ في القوى الشّرائيّة وفي مستويات الطّلب.

واقع الاقتصاد العالميّ

تشير الدّراسات الحاليّة لواقع الدّول أنّ هناك اتّجاهاتٍ تصاعديّةً نحو التّضخّم، وهناك ارتفاعٌ مستمرٌّ في المستوى العامّ للأسعار، فقد ارتفعت أسعار السّلع الأساسيّة نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج بشكلٍ عامٍّ، ومع ارتفاع تكاليف النّقل والتّجارة الدّوليّة الّتي تضاعفت بشكلٍ كبيرٍ في مدّةٍ زمنيّةٍ بسيطةٍ نتيجة الجائحة، على الدّول اتّخاذ تدابير اقتصاديّةٍ تعمل على الحدّ منها، حتّى لا تصل إلى ذروة تضخّمٍ مفرطٍ كتابعٍ لتضخّمٍ مستوردٍ. إذ أنّ هناك طلبًا متزايدًا على السّلع والخدمات مع عدم قدرة العرض على مواءمته بالوقت المناسب، ممّا أدّى إلى ظهور قوًى تدفع الأسعار للارتفاع.(3)

خاتمة

أيًّا كانت اتّجاهات الاقتصاد العالميّ ما بعد جائحة كوفيد-19، فإنّ المستقبل ما زال مجهولًا، يرتبط في الأساس بمستوى نضوج الاقتصاد ومدى التّقدّم الاقتصاديّ للدّول، ويتمحور حول السّياسات الاقتصاديّة الّتي تنتجها وانتجتها الدّول خلال فترة الجائحة. إلّا إنّ الحقيقة الواقعيّة الّتي تشير إلى أنّ هناك قوًى تضخّميّةً نتيجة ارتفاع الأسعار العالميّة قد بدأت بالفعل في الظّهور، صاحبها انخفاضٌ في الاستثمار نتيجة انخفاض الاستهلاك والاتّجاه نحو الادّخار الحقيقيّ واللّجوء للاستثمار الحقيقيّ في شراء الذّهب والعقارات لمواجهة المستقبل المجهول.

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي