نشر الاقتصادي الإنجليزي (توماس روبرت مالتس-Thomas Robert Malthus) كتابه الشهير (مقال عن مبدأ السُكان-An Essay on the principle of population) عام 1798م، والذي اعتُبر لاحقًا من بين أهم ما كُتب في تلك الحُقبة، لتنبئه بمُستقبل مُعتم للبشرية، وتغييره نظرة البشرية لنفسها، ونظرة عوام الناس لعلم الاقتصاد.
القانون الحديدي للسُكان
صدر الكتاب في طبعته الأولى دون أن يحمل اسمًا لمؤلفه، ورغم ذلك حقق نجاحًا واسعًا وانتشارًا كبيرا، حمل مؤلفه على تذييله باسمه فيما تلى ذلك من طبعات، ففور صدوره أثار ضجة واسعة فانقسم الناس حوله بين مؤيدين بشدة ومُعارضين بشدة، حيث قال عالم الاقتصاد الإنجليزي (دافيد ريكاردو – David Ricardo) مثلًا: أن الكتاب يتضمن من القوانين ما يُشبه قوانين (نيوتن) في علم الفيزياء، كما تبناه بقية الاقتصاديين التقليدين كقانون لا يحتمل الشك، بل واعتمدت عليه جميع النظريات الاقتصادية الاساسية كالأجور والربح والنمو الاقتصادي[1].
يتحدث الكتاب في العموم عن تأثير النمو السُكاني على النمو الاقتصادي، لكن من بين أهم ما جاء به مالتس هو مبدأ النمو غير المُتوازن للسُكان مع الموارد الطبيعية. إذ قال (مالتس):
أن الإنسان من أجل أن يستمر في هذه الحياة يحتاج إلى استهلاك بعض الموارد الضرورية من أهمها الغذاء، وكُلما زاد حجم أي مُجتمع إنساني زادت الكمية التي يحتاجها منه، ولكن تزايد عدد الأفراد المحتاجين إلى الغذاء يحكمه قانون بيولوجي، يتزايد الناس بمُقتضاه طبقًا لمتوالية هندسية (2، 4، 6، 8،…) أي يتضاعف عددهم كُل فترة مُعينة، وهي فترة حياة الجيل التي قدرها مالتس بـ25 عامًا، في حين أنه ليس هناك قانون مماثل يحكم تزايد إنتاج المواد الغذائية الذي يرتفع وفق متوالية حسابية (1، 2، 3، 4،…)[2].
كما افترض (مالتس) أن هذه الزيادة السُكانية -من ناحية أخرى- تخلق عرض غير محدود من قوى العمل، إذ أن جميع هؤلاء السُكان في النهاية في حاجة إلى مصدر دخل، مما ينتُج عنه في النهاية: انخفاض في الأجور، يليه ارتفاع في مُعدلات الفقر، يكون مصحوبًا بارتفاع في أسعار المواد الغذائية بسبب الطلب الكبير عليها، مما سيؤدي في النهاية إلى انتشار المجاعات[3].
ونجد أن (مالتس) ذهب إلى أبعد من ذلك حيثُ قال:
إن قُدرة الإنسان على التكاثُر تفوق قُدرة الأرض على الإنتاج، وفي سبيل استخلاص حاجاته يقوم الإنسان باستغلال الأرض بُطرق غاية في السوء، مما يتسبب في رد فعل من الطبيعة، يظهر في صورة أمراض وأوبئة لتقليل تعداد السُكان بحيث يتناسب مع مُستويات الإنتاج، فإذا لم تنجح هذه الطُرق فإن الطبيعة تستعمل الجفاف والمجاعة، بمُعدلات أكبر وأضخم وبكوارث أكبر وأوسع انتشارًا، وهذه نتيجة لا فكاك منها، بل وحتمية الحدوث[4].
خلقت هذه النظرة المُتشائمة خوفًا في نفوس الناس من المُستقبل، حتى أنه أُطلق عليها لاحقًا «القانون الحديدي للسُكان» (Iron Law of Population)، أو «فخ مالتس» (Malthusian Trap)، ما جعل الاقتصاديون والسياسيون يُفكرون في طُرق غير عادية للسيطرة على النمو السُكاني من ناحية، وزيادة إنتاجية أو مساحة رُقعة الأرض التي تتحكم فيها دولهم من ناحية أُخرى، كان من بين أسوئها التوسع الخارجي، والتمدد الاستعماري.
العلم الكئيب
صيغت -على إثر صدور الكتاب- العديد من الردود على آراء (مالتس) وقانونه من بين أهمها ما كتبه الاقتصادي الانجليزي (ويليام جودوين – William Godwin) عام 1820م، الذي قال أنه لو كان قانون (مالتس) صحيحًا لشاهدنا تطبيقًا له، خصوصًا في المُجتمعات الحديثة -حينئذ- كالولايات المُتحدة الأمريكية والتي تُثبت الإحصائيات أن متوسط عدد الأطفال في كُل أسرة فيها بلغ ثمانية أطفال ولمُدد طويلة، ورغم ذلك لم تشهد البلاد مجاعات ولا عجزت الأرض عن سد احتياجاتهم للغذاء[5]، كذلك كتب الاقتصادي الأمريكي (هنري شارلز كاري – Henry Charles Carey) أن الحالة الوحيدة التي تحدد فيها الموارد الطبيعية النمو السكاني هي الحالة التي لا يُنتج فيها المجتمع تكنولوجيات جديدة ولا تعتمد فيه الحكومة سياسات مستقبلية[6].
لكن أشد المُقترحات التي حاولت تقديم حلول لمنع حدوث -أو على الأقل تأخير «فخ مالتس»- غرابة كان ما طرحه العالم الاسكُتلندي (توماس كارليل – Thomas Carlyle)، حيثُ أنها أعادت انتاج نظام العبودية كحل لما تنبئ به (مالتس)، إذ كتب (كارليل) عام 1849م مقالًا بعنوان «خطاب عرضي حول المسألة الزنجية» (Occasional Discourse on the Negro Question)، بدأه بقوله «أن ما سمعناه من علم الاقتصاد حتى الآن –قاصدًا أفكار مالتس- لا يعدو كونه: كئيب، مُفقر، بل ومدمر ومُدمر للغاية، فيما لا يُمكن وصفه بتهذيب إلا بالعلم الكئيب»[7] (Dismal Science) ومنذ كتابته لهذا الوصف أصبح لصيقًا بعلم الاقتصاد. اقترح (كارليل) خلال مقاله إعادة نظام العبودية –التي كانت قد أُلغيت في المملكة المُتحدة عام 1848م- إذ أنها وحدها قادرة على حل الأزمة -من وجهة نظره- بطريقتين: أولًا- بإجبار السود الكسالى على العمل بشكل يتناسب مع قُدراتهم الجسدية، وثانيًا- بمنع تكاثُرهم سواء بمنعم من الزواج أو بخصيهم لسلبهم القُدرة على الإنجاب، ما يُسفر عن زيادة إنتاجية الأرض دونما زيادة في عدد السُكان[8].
بالطبع واجهت هذه الأفكار انتقادات شديدة أدت إلى عُزلة (كارليل) بعد ذلك، إلا أن مجموع أفكار (مالتس) و(كارليل) وصمت علم الاقتصاد بصفة الكآبة في ذلك الوقت، بعد تنبأ العلم ذاته بكوارث شديدة ستُحيق بالبشرية، وفي ذات الوقت يكون الحل المُقترح لها في غاية الدناءة.
علم التنبؤات
لعلك لاحظت بعد العرض السابق أنه رغم تعرُض البشرية على مدار تاريخها إلى أزمات كالتي تنبأ بها (مالتس): من أمراض، أوبئة أو حتى مجاعات، إلا أنها لم تتعرض لموجات خفضت أعداد السُكان على النحو الذي قال به (مالتس)، رغم التضخُم الرهيب في أعداد السُكان والذي يفوق بأضعاف الزيادة التي كانت تحدُث في وقته، والسبب الرئيسي في ذلك يرجع حقيقةً إلى التطور الرهيب في وسائل الإنتاج، سواء الزراعي أو الصناعي، وما حدث من طفرات مُذهلة في مجالات هندسة الإنتاج والهندسة الوراثية، وهي أمور لم تُزيد فقط من رقعة الأرض الزراعية، بل ورفعت إنتاجية المزروع منها بالفعل إلى مُعدلات مُدهشة أيضًا مُقارنة بوقت مالتس.
وفي النهاية لا يبدو علم الاقتصاد علمًا كئيبًا كما أطلق عليه (كارليل) ومئات المؤلفين من بعده، بل هو علم التنبؤ بالمُستقبل في ضوء الواقع المُتاح، والخطأ الشائع الذي يقع فيه العديد من الاقتصاديين هو التنبؤ بالمُستقبل البعيد في ظل مُعطيات الواقع، دونما نظر لما يُمكن أن يحمله هذا المُستقبل ذاته من تطورات، قد تقلب المُعطيات التي استخدمت في التنبؤ به رأسًا على عقب.
المصادر
[1] أمين ج. فلسفة علم الاقتصاد: بحث في تحيزات الاقتصاديين وفي الأسس غير العلمية لعلم الاقتصاد. دار الشروق،; 2008. ص77.
[2] المرجع السابق ص78.
[3] Malthus TR. An essay on the principle of population, as it affects the future improvement of society. 1809. P44.
[4] Id. at.
[5] Godwin W. Of Population: An Enquiry Concerning the Power of Increase in the Numbers of Mankind, Being an Answer to Mr. Malthus’s Essay on that Subject. Longman, Hurst, Rees, Orme and Brown; 1820. p654.
[6] Carey HC. Principles of Social Science. J.B. Lippincott & Company; 1883. p508
[7] Thomas Carlyle (1849) “Occasional Discourse on the Negro Question” [Internet]. [cited 2018 Apr 9]. Available from: http://www.efm.bris.ac.uk/het/carlyle/occasion.htm,P672.
[8] Persky J. Retrospectives: a dismal romantic. Journal of Economic Perspectives. 1990 Dec;4(4):165-72.
إعداد: محمد شادي
مراجعة: عبدالله أمين
تحرير: زياد الشامي