عوّدنا العلماء دائمًا أنهم يضعون أنوفهم في كلِّ شيء، ومن حينٍ إلى آخر يثيرون الجدل حول موضوع ما قد يصيب البعض بآلام في الرأس وهذا ما حدث في خمسينيّات القرن الماضي، فتعالوا نعرف ماذا فعل العلم هذه المرة.
شهد المجتمع العلمي أوّلًا على نظريّة الحساء البدائي (Primordial soup) التي اقترحها العالمان أوبارين وهالدين، وقد نصّت على أن أوّل أشكال الحياة نشأت في المحيط عندما تكوّنت الأحماض الأمينيّة بفعل الظروف المحيطة كالحرارة والحامضيّة والشرار الكهربيّ الناتج عن البرق، وقد تصادمت تلك الجزيئات بفعل الصدفة واتّحدت بطريقةٍ ما لتكوّن أوّل أشكال الحياة على سطح الأرض.
حتى جاء العام 1953، فمنذ ذلك الحين لم يهدأ بال المجتمع العلميّ وذلك بفعل ما أثاره العالمان يوري وميلر من جدل بتجربتهم لمحاكاة الظروف الكيميائيّة التي أدّت لنشأة الحياة على سطح الأرض ومحاولتهم لإنتاج الجزيئات العضوية كالأحماض الأمينيّة من مواد غير عضوية كما تقترح نظريّة الحساء البدائيّ، فمنذ ذلك الحين سعى العلماء للإجابة على سؤال واحد قد ازداد صداه بشكل ملحوظ، وهو: «كيف وُجدت أوّل خليّة حيّة على سطح الأرض؟» الذي نسأله نحن بصيغة «كيف نشأت الحياة؟».
كان ذلك كله من وجهة نظرٍ كيميائيةٍ بحتة.
ماذا عن وجهة نظر علم الأحياء؟
في الستينيّات، تقدّم المجتمع العلميّ بأساسٍ لفرضيّة نعرفها نحن اليوم بفرضيّة عالم الـ RNA أو (RNA World hypothesis) التي تقترح أن جزيّء الـ RNA (الحمض النووي الريبوزي) وحده هو الجزيّء المسئول عن نشأة الحياة من الكيمياء وتدرّجها التطوريّ إلى أن وصلت لشكلها المعقّد الذي نعرفه الآن وذلك من خلال عملية نسخٍ ذاتيّة وتحفيز العمليّات البيوكيميائية.
إن أي خليّة حيّة تحتاج لنوعين من الجزيئات لإتمام عملياتها الحيويّة واستمرار حياتها وهما البروتينات التي تمثّل العوامل المحفّزة للتفاعلات البيوكيميائيّة في شكل إنزيمات، والحمض النوويّ الريبوزي منقوص الأكسجين أو الـ DNA الذي يعمل كمخزن للمعلومات الوراثيّة لصناعة تلك الإنزيمات. لنسخ الحمض النوويّ وفك شيفرة المعلومات الوراثية وترجمتها إلى جزيئات عضوية بمساعدة الإنزيمات؛ نحتاج إلى مركّب وسيط بين الـ DNA والبروتينات، وهذا المركب هو الحمض النووي الريبوزي، فتلك العمليات معقدة تحتاج إلى كل هؤلاء ولا غِنى عن أي منهم.
ولكن ما الذي جاء أوّلًا؟ الـ DNA أم البروتين؟
هذا السؤال أشبه بسؤال الدجاجة أوّلًا أم البيض؟ إذا افترضنا أن الـ DNA هو ما جاء أوّلًا وكان يعمل كمخزن للمعلومات الوراثية فإنه لا يمتلك أي وظيفة تحفيزية، وإذا افترضنا أن البروتين هو ما بدأ الحياة أوّلًا فإن هذا الافتراض غير مقبول، هذا لأن البروتينات لم تلعب يومًا دورًا في نقل ومعالجة المعلومات الوراثية.
ماذا عن فرضية عالم الـ RNA؟
جاءت هذه الفرضية لحل تلك المعضلة، حيث افترضت أن الـ RNA هو ما كان موجودٌ فقط عند نشأة الحياة وكان يقوم بكل الأدوار فيعمل كعامل حفّاز للتفاعلات البيوكيميائية ويعمل كمَخزن للمعلومات الوراثية، وهذا بسبب تكوّنه من شريط واحد من النوكليوتيدات يمكّنه من اتخاذ أشكال مختلفة من بينها تلك التي تلعب دور الإنزيمات، كذلك وحدات بناءه التي تماثل وحدات بناء الـ DNA التي تمكّنه من الاحتفاظ بالمعلومات الوراثية. لكن قوبل هذا الاقتراح بالرفض وذلك كان حتى ثمانينيّات القرن الماضي، حين تم اكتشاف ما يُعرف بالريبوزيمات (Ribozymes) وهي جزيئات من الـ RNA تمثّل دور العوامل الحفّازة في بعض التفاعلات الكيميائية، كان هذا الاكتشاف من أكبر الأدلّة الداعمة لفرضية عالم الـ RNA.
توالت الأدلة التي تدعم الفرضية السابقة، أن أصل الحياة كان الحمض النووي الريبوزي RNA، فنجد مثلًا وقد استشهد الباحثون بالبنية الكيميائية الخاصّة بمركّب يسمّى (Acetyl-co-A) الذي يعمل كمرافق أو مساعد إنزيم في بعض العمليات البيوكيميائية، وقد احتوى على نوكليوتيدة، وهي وحدة بناء الأحماض النووية، نجد أيضًا مركب فيتامين ب-12 الذي يعتبر من أهم مساعِدات الإنزيمات وقد احتوى على نوكليوتيدة في تركيبه الكيميائي، فماذا يعني هذا؟
هذا يعني أن الـ RNA هو سلف لمساعدات الإنزيمات الريبونوكليوتيدية تلك التي تمتلك آثارًا باقية منه، وأنه كان بالفعل المسؤول عن وظيفة تحفيز العمليات البيوكيميائية التي تطوّرت وأصبحت على شكلها الحالي.
من ضمن الأدلة التي استخدمها العلماء في دعم فرضيّتهم هو أن الخلية الحديثة تستخدم الريبونوكليوتيدات (Ribonucleotides) -وهي وحدات بناء الـ RNA-وتحوّلها إلى DNA بمساعدة إنزيم ريبونوكليوتيدي اختزاليّ (Ribonucleotide reductase) وتعتبر تلك إحدى الطريقتين اللتان يُصنع بهما الـ DNA في الخلية، وتشير هذه الأدلة إلى أن الـ RNA كان سلفًا أيضًا للـ DNA وكان يقوم بدور الاحتفاظ بالمعلومات الوراثية، وأن الأيض –وهو مجموع العمليات البيوكيميائية التي تتمّ في الخلية– وتصنيع الـ RNA يقومان على استخدام الريبونوكليوتيدات، وعندما تطور الـ DNA لم يكن هناك إلا أقرب مركّب شبيه به لينبثق منه.
من أهم الدلائل وأقواهم التي دعمت فرضية عالم الـ RNA هي تركيب الريبوسومات (Ribosomes) التي هي نوع من الـ RNA وتلعب دورًا أساسيًا في صناعة البروتين، حيث وجد العلماء أن الريبوسوم يحتوي على ما يُعرف بموقع الارتباط أو (binding site) وهو مكان منكشف يوجد في الإنزيم وترتبط به المادة المتفاعلة (Substrate) لكي يتم التفاعل البيوكيميائي، وتوفّر الريبوسومات هذه الأماكن لتسرّع من عملية ارتباط الأحماض الأمينية ببعضها البعض وبالريبوسوم نفسه لتكوين البروتين في النهاية، مما يثبت فرضية أن الـ RNA كان الجزيّء الحفزيَّ الوحيد عند نشأة الحياة.
توالت الأدلة التي تؤكد على ازدواج وظيفة الـ RNA ومن بينها اكتشاف أنه يمكن لجزيّء الـ RNA أن يتطوّر على طريقة داروين في غياب الخلية كردّ فعل لعملية الانتقاء. ومثال على ذلك اكتشاف ما يُسمى بـ(Riboswitches) وهى جزيئات RNA تتأثّر بالظروف المحيطة وتقوم بتغيير شكلها وتطوير وظائف حفزية.
بعد أن تأكّدنا من فرضية أن الـ RNA هو من تسبّب في وجود الحياة على سطح الأرض، أصبح السؤال الآن كيف حدث ذلك؟ وما المراحل التي أدّت إلى وجود الـ RNA بالأساس؟
ماقبل الـ RNA
من الصعب من وجهة نظر الكيمياء تكوّن شريط طويل من الـ RNA يحتوى على أنواع عديدة من الروابط بين جزيئاته بدون وجود أي إنزيمات تحفّز تفاعلات التكوين والربط هذه، وكانت هذه إحدى العقبات التي تواجه فرضية أن الحياة نشأت من الـ RNA، هذا ما دعى العلماء إلى افتراض وجود مركّبات شبيهة ولكن أبسط من ناحية التركيب الكيميائي من الـ RNA تمتلك وظيفة حفزية وتخزن المعلومات الوراثية، وعلى الرغم من أنه لا توجد أي بقايا أو سجلّات حفرية تؤكّد وجود تلك المركبات البسيطة قديمًا إلا أن بساطة تركيبها الكيميائي تجعلها مرشّح أفضل من الـ RNA نفسه لنشأة الحياة.
يوجد اثنان من المركّبات البسيطة التي تسبق الـ RNA وهما: الـ PNA أو (peptide nucleic acid) والـ P-RNA أو (pyranosyl-RNA)، ويُعتبر الأخير مرحلةً انتقاليةً بين الـ PNA والـ RNA.
نجحت التجارب في إثبات أنه يمكن لمركب الـ PNA أن يعمل كقالب لصناعة جزيّء مكمّل له من الـ RNA بمساعدة الجزيئات البسيطة التي تسبق الـ RNA التي تعمل كعوامل حفّازة لعمليات البناء. بعد أن تمّت صناعة جزئيات الـ RNA بدأت في التطوّر والتنوّع حتى أصبحت هي القائمة بأعمال الجزيئات التي سبقتها في النشوء وبدأت في نسخ نفسها والقيام بالعمليات الحيوية اللازمة حتى نشأت أولى أشكال الحياة.
ماهي التطوّرات التي أدّت إلى نشأة الحياة من جزيّء الـ RNA؟
وهل عالم الـ RNA هي الفرضية الوحيدة لنشأة الحياة؟ هل ظهر ما يعارض تلك النظرية؟ كيف يمكننا تطبيق ماتوصّلنا إليه لاستنتاج ما إذا كانت الحياة ستنشأ على الكواكب المجاورة أم لا؟
هذا ما سنعرفه في المقال القادم من سلسلة الأصل، فتابعونا.
لقراءة جميع مقالات سلسلة #الأصل:
مغامرة الفلسفة الأولى.. بدايات التفلسف حول ظواهر الحياة وأصلها