التفكير الاجتماعي: لماذا يرتكب الناس أفعالًا مؤذية؟

التفكير الإجتماعي: لماذا يرتكب الناس أفعالًا مؤذية؟

إليكم سؤالًا: لماذا يرتكب الناس أفعالًا مؤذية؟ لماذا حدثت كل هذه الأفعال الوحشية من القتل والتعذيب على مدار التاريخ؟ كيف يمكن لشخص أن يؤذي زميله في العمل أو أن يكون من المتنمرين ثم يعود إلى بيته يتحدث مع زوجته ويلعب مع أطفاله ويتصل بوالدته ويتمنى لها عيدًا سعيدًا؟ 

علم النفس الاجتماعي  

يهتم علم النفس الاجتماعي بفهم تصرفات الشخص في السياق الاجتماعي، حيث يُركز على قوة الموقف، ويدرس وجهة نظرنا وتأثرنا وعلاقتنا ببعضنا البعض في ظل ظروف معينة. يقوم علم النفس الاجتماعي بدراسة العوامل التي تقودنا إلى التصرف بشكل معين في وجود الآخرين، ودراسة الظروف التي في ظلها تظهر العديد من الأفعال والمشاعر، لذلك فإن علم النفس الاجتماعي هو المجال الأفضل لتفسير إقدام الناس على القيام بأفعال مؤذية.(1)

ليس علم النفس الاجتماعي قادرًا فقط على مدّنا بالأدوات اللازمة لفهم أسباب سلوكيات الناس الوحشية، بل وأيضًا لفهم أسباب تصرفاتهم البطولية. مثلًا: لماذا يقوم شخص بالدفاع عن أحدهم عند تعرضه للسرقة برغم معرفته أن ذلك قد يتسبب بالاذى له؟ لماذا يقوم شخص بقضاء حياته مدافعا عن حقوق الآخرين معرضًا نفسه للعقاب في كثير من الأحيان؟ لا يمكن القول إن هناك أجوبة سهلة تفسر عظمة أو وحشية البشرية، لكن يمكننا أن نسلك الطريق الذي سيأخذنا إليها، وهو طريق التفكير الاجتماعي. لمحاولة فهم تصرفات الناس الشريرة أو البطولية فإن السؤال الحقيقي هو: “هل تصرفات الأشخاص نابعة من شخصياتهم أم من الموقف؟”

بدأ عالِم النفس النمساوي فريتز هايدر بالخوض في غمار هذا السؤال في العشرينيات، حينما طور ما يُعرف اليوم بنظرية العزو.

نظرية العزو (attribution theory)

تهتم نظرية العزو بدراسة كيفية تفسير الأشخاص لأسباب تصرف أو حدث معين. مثلًا، هل هذا الشخص غاضب لأنه شخص عصبي سئ المزاج أم لأن شيئا سيئا قد حدث؟ فنظرية العزو يمكن تعريفها على أنها نظرية توضح كيف يستخدم المتلقي الاجتماعي المعلومات للوصل إلى تفسير معين للاحداث، حيث تفحص المعلومات التي تم جمعها وكيف شكلت مع بعضها البعض حكمًا على حدث معين. (2)

اعتقد عالم النفس فريتز هايدر أن الناس هم علماء نفس ساذجين يحاولون وضع تفسير منطقي للعالم الاجتماعي، فالناس يسعون لإيجاد علاقة سببية بين الأحداث حتى إذا لم توجد أي علاقة بينهم! لم يقم فريتز هايدر نفسه بالكثير لتطوير النظرية، فقد أكد على نقاط محددة والتي قد تناولها الآخرون. لقد وضح فكرتين رئيسيتين أصبحتا ملهمتين بعد ذلك وهما: العزو الطبعي (Dispositional attribution) والعزو الموقفي (situational attributions). حيث أنه يعزي تصرفات الأشخاص إما لسجيتهم وطبعهم الشخصي وإما لتأثير الموقف. ونحن نعزو عادة سلوكيات الناس لإحداهما. تبدو نظرية بسيطة، لكن ستفاجؤون أحيانًا بصعوبة معرفة ما إذا كان سلوك شخص ما يُعزى للسجية أم للموقف. (3)

خطأ العزو الأساسي (Fundamental attribution error)

لنفترض أنكم رأيتم شخصًا في حفلة وظل منطويًا على نفسه طيلة الحفلة، قد تَفترضون أن شخصيته خجولة، لكن ربما هذا ليس صحيحًا، ربما هو في العادة أبرع الراقصين لكن في هذه الليلة بالذات كان كاحله ملتويًا أو لديه صداع، جميع هذه تفسيرات موقفية وليست بسبب شخصيته.

إن المبالغة في تقدير أثر الشخصية على حساب قوة الموقف يسمى بخطأ العزو الأساسي (Fundamental attribution error). وكما ترون، فإن ارتكاب خطأ كهذا قد يشوه آراءكم في الناس ويؤدي لإطلاقكم أحكامًا ليست بمحلها.

إننا نختار تفسيراتنا لتصرفات الناس كل يوم، وما نختار تصديقه له عواقب. مثلًا، تتأثر آراؤنا السياسية إذا ما أعزينا الفقر أو التشرد لسجية شخصية كالكسل، أو أعزيناه لظروف اجتماعية كنقص التعليم والفرص، هذه الاتجهات بدورها يمكنها أن تؤثر في تصرفاتنا.

هذا ما يدركه النشطاء والسياسيون، وهم يستخدمونه لصالحهم في إقناع الناس بشتى الطرق.

نموذج تطوير الاحتمالات (Elaboration likelihood model)

في أواخر السبعينيات والثمانينيات، أتى عالما النفس ريتشارد بيتي وجون كاتشيوبو بنظرية عملية مزدوجة لفهم آلية عملية الإقناع. تتضمن نظرية تطوير الاحتمالات طريقين أساسيين لكنها تتضمن العديد من العمليات. الطريقان هما الطريق المركزي والطريق الفرعي. حيث يشير كلٌّ منهما إلى تغير اتجاهاتنا وآرائنا بناء على درجة الانتباه أثناء عملية تكويننا لهذه الاتجاهات. يحدث تغير الاتجاهات في الطريق المركزي عندما نبذل مجهودًا مكثفًا للوصول إلى المعلومات التي تساهم في تغير اتجاهاتنا، أما الطريق الفرعي فهو عندما يتطلب تغيير اتجاهاتنا القليل من الإدراك. (4)

يُستخدم كلا الطريقين في عملية الإقناع، فالإقناع عبر الطريق المركزي هو الإقناع الذي يتم عبر التفكير والمنطق، وهنا يركز الأشخاص المهتمون على الأدلة والحجج التي أمامهم، كما هو الحال فيما لو كنتم تشاهدون مناظرة سياسية، واقتنعتم بسياسات مرشح أو مواقفه أو سجله في التصويت على القوانين.

لكننا جميعًا نعرف أن الإقناع لا يتوقف على هذا فقط، فهناك أيضًا الإقناع عبر الطريق الطرفي، وهو الإقناع عبر إشارات عرضية، مثل وسامة متحدث أو وجود صفة يشترك بها مع المستمع، هنا لا يعتمد الأمر على التفكير؛ بل على الفطرة، فقد تقرر مثلًا أن تصوت لمرشح ما لأنه من بلدتك. يحدث الإقناع عبر الطريق الطرفي عندما يكون انتباهكم منخفضًا، وهذا سبب الفاعلية المخيفة للوحات الإعلانات وإعلانات التلفاز، فهكذا يتم تغيير تصرفاتنا عن طريق تغيير اتجاهاتنا وآرائنا.

لكن العكس صحيح أيضا فاتجاهاتنا وآراؤنا قد تتأثر بسلوكياتنا أيضا، ربما سمعت بالعبارة “تصَنّع الشئ حتى تفعله”، وهذه الطريقة تنجح أكثر إذا ما تمت على دفعات، وهو ما يسميه علماء النفس “ظاهرة موطئ القدم”.

نظرية موطئ القدم (Foot in door phenomenon)

هي أن الناس مستعدون أكثر للاستجابة لطلب كبير بعد أن يكونوا قد استجابوا لطلبات صغيرة غير مؤذية أولًا. (5) أغلبنا قد شاهد إحدى هذه الأفلام التي يتحول فيها البطل من شخص مسالم إلى قاتل محترف، حيث يبدأ بأفعال صغيرة تتحول تدريجيا إلى أفعال كبيرة، ثم تتغير معتقدات هذا الشخص عن نفسه وعن الآخرين.

هناك أدلة تجريبية كثيرة على أن السلوكيات الأخلاقية حقًا تقوّي القناعات الأخلاقية، أما الأفعال اللاأخلاقية فتقوي المواقف اللاأخلاقية. ربما أفضل مثال على هذا تجربة سجن ستانفورد.

تجربة سجن ستانفورد

عام 1971، وضع بروفيسور علم النفس في ستانفورد فيليب زمباردو وفريقه إعلانًا في الصحيفة المحلية يطلب فيه متطوعين في تجربة مدتها 14 يومًا، وبعد تصفية 70 متقدمًا تم اختيار 24 طالبًا جامعيًّا من الذكور لأهليتهم الجسدية والعقلية للدراسة، وأعطي كلًا منهم 15 دولارًا لكل يوم كأجر. لم يعرف المشاركون شيئا عن طبيعة التجربة سوى أنها تتضمن سجنًا كاذبًا، ثم أجريت قرعة بعملة نقدية واختير على أساسها نصفهم ليكونوا سجناءً ونصفهم الآخر ليكونوا حراسًا. قيل للحراس أن الدراسة ستُجرى على سلوكيات السجناء، أما السجناء فلم يقولوا لهم سوى أنه سيتم اعتقالهم وسجنهم، فيما عدا ذلك لم تتلق أي مجموعة تعليمات محددة. أراد زمباردو مراقبة تكيف المجموعتين مع دوريهما، لذا، في صباح يوم أحدٍ صيفي في بالو ألتو، حضر رجال شرطة حقيقيين واعتقلوا المساجين في بيوتهم بتهمة السرقة. تم تفتيشهم وتقييدهم بالأصفاد وقُرئت عليهم حقوقهم.

بعد ذلك تم تسجيل التهم بشكل رسمي وعُصبت أعينهم في زنازين مؤقتة، وكانوا يرتدون لباس المستشفيات فقط. حرص الباحثون أشد الحرص على أن يكون الموقف واقعيًا تمامًا، لهذا استخدموا رجال شرطة حقيقيين لأجل الاعتقال، والذين بدورهم سلموا السجناء فيما بعد للحراس غير الحقيقيين. وسرعان ما انقلبت التمثيلية إلى حقيقة لا مزاح فيها، صدمة السجناء النفسية من إهانة الاعتقال والتسجيل والتفتيش سببت لبعضهم فقدانًا للهوية بشكل فوري. لم يصمد بعض السجناء إلا في الليلة الأولى ولكنهم بعدها تأثروا نفسيًا بالحادثة واضطروا لمغادرة التجربة.

ازدادت الأمور سوءًا بعدها، فمع أن الحرس كان يُسمح لهم بالتصرف كما يشاؤون طالما أنهم لن يؤذوا السجناء جسديًا، إلا أنه سرعان ما أصبح تعاملهم مع السجناء قاسيًا وعدائيًا ولاإنسانيًا. أهان الحرس السجناء وفرضوا عليهم سلطتهم ونادوهم بأرقامهم لا بأسمائهم، بل ووضعوا بعضهم في السجن الانفرادي. أما السجناء فأخذوا ينهارون ويتمردون، ولكن أذعن البعض كما لو أنه يستحق أن يُعامل بهذه الطريقة. ساء مجرى الأحداث بشكل استدعى إيقاف التجربة بعد ستة أيام فحسب، ما سبّب ارتياح السجناء وغضب بعض الحرس بشكل مثير للاهتمام.(6)

لحسن الحظ، عاد جميع المشاركين لحياتهم الطبيعية بمجرد مغادرتهم التجربة. كل الأمزجة السلبية والسلوكيات العنيفة كانت متعلقة بذلك الموقف، وقد عزز ذلك فكرة مهمة ألا وهي أن الموقف قد يكون أقوى من الاختلاف في شخصيات الأفراد. مع أن تجربة زمباردو مخالفة للمعايير الأخلاقية في يومنا هذا، إلا أنها سلطت الضوء على طبيعة السلطة والفساد الصادمة.

ومع ذلك، تختلف شخصيات الناس. يذعن أناس كثر ويستسلمون للمواقف العصيبة، لكن ليس الجميع. خاطر كثير من الناس بحياتهم لإنقاذ الآخرين ولمساعدة الناس، أو رفضوا بشكل عام الخضوع أو المشاركة في أفعال لم يؤمنوا بها.

يستطيع بعض الناس مقاومة الانضمام لجانب الشر فعلًا، حتى عندما يبدو أن الجميع من حولهم أصابهم الجنون. ومع ذلك فإنهم أقلية. لماذا؟ لمَ يسهل جدًا تبرير المواقف أو الأفعال السلبية بينما يصعب الإقدام على الإيجابي منها؟ يمكن الإجابة عن ذلك جزئيًا بنظرية عالم النفس الاجتماعي الأمريكي ليون فيستينغر المسماة ب”التنافر المعرفي”، وهي إحدى أهم المفاهيم في علم النفس.

نظرية التنافر المعرفي (theory of cognitive dissonance)

تبدأ نظرية فيستينغر بفكرة أن وجود تنافر بين أفكارنا وأفعالنا يجعلنا نشعر بالضيق وعدم الراحة، بمعنى أننا لا نحب تشويش أنفسنا. فعندما يقوم الشخص بفعل منافٍ لما هو عليه فإنه يمكن أن يتعامل مع ذلك بإحدى طريقتين: إما أن يقوم ببساطة بتغيير قناعته عن أفعاله ويبدأ بتغيير سلوكه بناء على ذلك وإما أن يحاول زيادة معرفته عن الفعل الذي قام به. حيث أن هذا التنافر يحفز الشخص لعمل على تقليله والوصول إلى التوافق. يشبه هذا عندما يشعر أحد بالجوع فيسعى لتقليل هذا الإحساس المزعج.(7)

على سبيل المثال، لو كان الشخص (أ) يُعتبر شخصًا مسالمًا، ووجد نفسه فجأة يلكم صديقه بسبب اصطدام سيارتيهما، فهو على الأرجح يمر بتنافر معرفي. إذن -وتبعًا لنظرية فيستينغر- فإن برونو سيخفف من هذا النشاز بتعديل معتقداته بما يتناسب مع الأفعال التي ارتكبها، بأن يقول لنفسه مثلًا: “يبدو أنني لست شخصًا طيبًا كما ظننت، ربما أنا متنمر” ومن ناحية أخرى، قد يحل هذا النشاز الداخلي بتغيير وجهة نظره في الموقف، فقد يظل يرى نفسه إنسانًا مسالمًا ولكنه يدرك أن هذا السلوك غير الاعتيادي قد سببه موقف غير اعتيادي. مثل أن يومه كان سيئًا أو أنها سيارة أمه الجديدة، أو أن صديقه قد استفزه. وهكذا يظل شخصًا مسالمًا كما عهد نفسه. هذا نوع من أخطاء العزو الأساسية المعكوسة إذا ما فكرتم في الأمر، حيث تُعزى تصرفات الشخص للموقف بدلًا من الشخصية.

ملخص القول أن هذا التضارب بين أفعالنا ونظرتنا لأنفسنا يسبب نشازًا أو تنافرًا معرفيًا، ونحن نميل للرغبة في التخلص منه.

 

المصادر

(1) Social Psychology | Simply Psychology [Internet]. [cited 2020 Jan 3]. Available from: https://www.simplypsychology.org/social-psychology.html

(2) Attribution Theory – Situational vs Dispositional| Simply Psychology [Internet]. [cited 2020 Jan 3]. Available from: https://www.simplypsychology.org/attribution-theory.html

(3) A formal definition is provided by Fiske and Taylor (1991, p. 23)

(4) Dual-process Theories in Social Psychology – Google Books [Internet]. [cited 2020 Jan 3]. Available from: https://books.google.com.eg/books?hl=en&lr=&id=5X_auIBx99EC&oi=fnd&pg=PR1&dq=Dual+process+theory+psychology&ots=OJTX-R2jue&sig=kQrGNyn6c3wlI4iU2pUkf7ktT94&redir_esc=y#v=onepage&q=Dual%20process%20theory%20psychology&f=false

(5) Waude A. Foot-in-the-Door As A Persuasive Technique [Internet]. 2017 [cited 2020 Jan 3]. Available from: https://www.psychologistworld.com/behavior/compliance/strategies/foot-in-door-technique

(6) https://web.stanford.edu/dept/spec_coll/uarch/exhibits/spe/Narration.pdf

(7) Festinger L. A Theory of Cognitive Dissonance. Stanford University Press; 1962. 308 p.

 

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي