يشير مصطلح ما بعد الحداثة إلى مجريات فترة أوائل السبعينات، وحتى التسعينات من القرن العشرين، “فلم تكن فترة ما بعد الحداثة امتدادًا لفترة الحداثة لكنها كانت في اتجاهًا مغايرًا تمامًا ، تناهض كل ما هو غير ثقافي وحدثي؛ احتجاجًا، ودعوة إلى الأصول كمنبع، والتراث كمثير، وإعادة لغة الشكل بعد أن اختفت، والبحث عن الذات دون الأخذ بالهوية العامة، ولترك الهوية الخاصة تتعرض لأشكال التصادم الحضاري، حيث رفعت نهائيًا الحواجز بين التعبير الفني، والحياة، والخروج عبر المساحات التعبير الفردية الحرة ، وتتجسد اتجاهات ما بعد الحداثة في اتهام الناقد جاك هنريك ” إن المتحف ما هو إلا حضانة اصطناعية وأن ثورة ما بعد الحداثة تتجه إلى الخروج من جدران العرض في المتاحف ”
واتسمت فنون ما بعد الحداثة بالتعددية؛ نتيجة الانفتاح على العالم، وتعبيرًا عن الحياة الواقعية، وما تتضمنه من ثنائيات متناقضة ، واستحدثت أبجدية تشكيلية غير نمطية بعيدة عن المتعارف عليه سواء كان على مستوى الأفكار أو الخامات أو الأسالىب، والتقنيات أو حتى طرق العرض ، وجمع الفنان في أعماله الفنية بين العناصر المتنافرة، والمتناقضة ، وتجلت سمة التناقص كمفهوم لتلك المرحلة .
واستخدام فلسفة التناقض لدراسة فنون ما بعد الحداثة هو تطبيق جديد في مجال الفن التشكيلي ، حيث أن الظواهر يفسرها منطق ثنائي ، هذا إن المنطق يعمل على تسهيل إجراء التحليل للظواهر المدروسة بنيويًا ، فالتقابل – التناقض – هو القاسم المشترك في عدد كبير من الأنشطة التي تبدو غير متجانسة فيما بينها ، بمعنى أنه يعمل على تحديد معاني الظواهر على اعتبار أنها ليست أمورًا فطرية ، وإنما يستدل عليها من ذلك الاتساق الباطني للعلاقات بين العناصر، والتي لابد أن تجئ متوافقة مع مجموعة المعطيات الملاحظة للشكل .
إن ما بعد الحداثة هي: جملة إستراتيجيات متداخلة ، قامت على الاختلاف والتناقض، وظهر التناقض في المجتمع ما بعد الحداثي الذي يحمل العديد من القيم والأفكار ، نتيجة؛ للعولمة التي أدت لأمتزاج المجتمعات، والحضارات، وأتاحت المعلومات، وتعدد مصادرها كجزء من التطور، وقد حدد (بيرجر Berger) في كتابه (العقل الشريد) سمات بعينها نراها تنطبق على مجتمع ما بعد الحداثة، تكمن في أن الهوية الذاتية متناقضة نسبيًا نتيجة للتعددية التي يكابدها الفرد في الحياة الأجتماعية، على نقيض الحياة التقليدية المتسمة بالتجانس في مجتمعات ما قبل الحداثة، ” فإذا كان ثمة تناقضات في أفكار الناس، فذلك؛ لأن الواقع الذي يعكسه فكرنا يحوي تناقضات. فجدل الأشياء ينتج جدل الأفكار، وليس العكس ” .
كما تبنت الفلسفة التأويلية كفلسفة مابعد حداثية مصطلح (التناقض) كمصطلح يساعد في التأويل ، فترى التأويلية أن (التناقض-contradiction) عنصر منطقي للبنية الأساسية للدلالة، والمصطلح التناقضي يتضمن وجود المصطلح المباين اللازم لانتاج الدلالة ” ، كما أنها تعطي صفة (المناقض-contrary) للمصطلح إذا كان وجوده يفترض نقيضه، أو بكلمات أخرى ” لكي تكون هناك متناقضات فإن مصطلحين يجب أن يمتلكا دلالة مشتركة أو قاسمُا مشتركُا، فالحرارة هي القاسم المشترك ل” ساخن” و “بارد”
“سمحت فنون ما بعد الحداثة بقبول جميع المتناقضات” فالفنان في عصر ما بعد الحداثة اعتمد على المتعارضات الشكلية مضافًا بعضها إلى بعض بغرض؛ أن تصدم المشاهد، وتقضي على فكرة الانسجام التقليدية ، فهي تقوم علي توظيف مبدأ التناقض، والتعارض، والمزج بين أسإلىب، وخامات، ووسائط مختلفة بل وألتقاء الأشياء المتنافرة معًا، وأصبحت تلك هي الجمالىة الفنية ”
وظهرت فكرة التناقض في فنون ما بعد الحداثة من خلال جمع الفنان للأضاد داخل العمل الفني، حتى أصبح الشيء، ونقيضه من مكونات العمل الفني، ” وأكد الفنان علي التجزئ، والتقسيم، والتنويع ، فيضع الشذرات بعضها إلى جانب البعض دون أن ينشئ بينها علاقة اقتران، ويعمل على إيجاد وحدة مبنية على المفارقة، حيث يتم توظيف مبدأ التناقض ”
كما ذكرت دراسات فنية متعددة ” التناقض ” كسمة من سمات فنون ما بعد الحداثة ، فيؤكد (تشارلز جنكس–Charles Jencks ) على أن ” أكثر التقنيات استخدامًا هي الغموض، والتباس المعنى بالأضافة إلى (التناقض-contradiction) “كما ذكر التناقض، والتنافر كبعض الصور المجازية التي تميز فنون هذا العصر ، بينما حدد (إيهاب حسن) مجموعة من العناصر التي اشتملت عليها فنون ما بعد الحداثة، منها ” على سبيل المثال : المذهب التكنولوجي، التناقض” ، كما أكد (محسن عطية) على أن ” فنون ما بعد الحداثة أعلنت عن لقاء العلاقات المتناقضة، فجمعت في بساطة بين معاني الصفوة، والعامة، الحديث، والقديم، المفرد، والعام، وقد تزاوجت بها المعاني المتناقضة مثل :التقدمية، والحنين للماضي ”
والتناقض مفهوم يشير إلى العناصر المتضادة، والمتآلفة التي تكوّن حقيقة الشيء أو الموضوع، وهذه العناصر تتداخل في علاقة ضمن أية واقعة، أي إنها تحتوي جانبين متضادين أو ثنائيات يتعلق أحدهما بالآخر، فبنية الشيء ما هي إلا مجموعة علاقات تشكل المتناقضات .
فعندما أراد الفنان(جوزيف بويز – Joseph Beuys) التعبير عن قلقه حيال البيئة في نهايات القرن العشرين اختار حجر البازلت الميت ليكون رمزًا للنمو، وأمكانية وجود حياة جديدة ناشئة في نهاية قرن الظلام، الفنان هنا استخدم التناقض بين الحياة، والجمود للتعبير عن فكرته، وأمله في إيجاد الحياه من جديد ، واعتبر كل حجر هو رمز لشجرة سوف تزرع، وبالرغم من تعبيره عن موضوع الطبيعه إلا أنه عبر عنه داخل جدران غرفة.
Joseph Beuys – The End of the Twentieth Century – 1983-5 – Basalt, clay and felt – 900 x 7000 x 12000 mm
جوزيف بويز – نهاية القرن العشرين- بازلت و طين – ( 1983-1985 )
و بينما يعبر الفنان المصري (عادل ثروت) في لوحته ( الزار) عن سمة من أهم سمات فنون ما بعد الحداثة، وهي إعادة قراءة الموروث ، فقد قدم الفنان الموضوع الشعبي ” الزار ” المنبثق من الموروث الشعبي المصري من خلال أشكال أدمية مصفوفة في تكوين فرعوني، وأخرى مصورة فوتوغرافيًا مع خلفيات تجريدية وشخصيات أخرى مستطالة، ومجردة ، فقدم تناقض في الأسلوب ما بين التجريد والتصوير ، الموروث والمستحدث .
عادل ثروت- تصوير- اكريلك و ألوان ذهب على توال – 100 x 100 سم – 2014
المصادر:
- Robert Atkins – abbenille : ” art speek ” – publishers – New York – 1990 – p. 131
- Brandon Taylor : p. 15
- CF. Peter Berger – Homeless mind – London house – 1973
- جورج بوليتزير, المادية والمثالية في الفلسفة، تعريب إسماعيل المهدوي، القاهرة 1957.– ص . 83
- محمد شبل الكومي – تقديم : محمد عناني – ” الواقعية الجديدة ( مدخل لدراسة ثقافة عصري الحداثة و ما بعد الحداثة ) ” – الهيئة المصرية العامة للكتاب – مصر – 2012 – ص . 146
- محمد شبل الكومي – مرجع سابق – ص . 148
- أمنية محمد علي نوار المصري – جمالية الرمز في فنون الحداثة وما بعد الحداثة – ماجستير – كلية التربية الفنية – جامعة حلوان – مصر – 2004 – ص . 143
- محسن محمد عطية – التحليل الجمالي للفن – عالم الكتب – مصر – 2003 – ص . 34 .
- Charles Jencks – post-modernism :the new classicism in art and architecutuve , London, 1987 – p. 338
- شيماء محمد السيد رحيم – القيم الجمالية في مختارات من فنون ما بعد الحداثة كمدخل لإثراء التذوق الفني لدى طلاب كلية التربية النوعية – ماجستير – كلية التربية الفنية – جامعة حلوان – مصر – 2003 – ص . 27
- محسن محمد عطية – القيم الجمالية في الفنون التشكيلية – دار الفكر العربي – الطبعة الأولى – مصر – 2000 – ص . 257
اعداد: samar y. faramawy
مراجعة لغوية :Sara Hassan
#الباحثون- المصريون