التنقيب هو الأداة الأكثر فعاليةً لفهم حياة الماضي البشريّ وعملياته، ويُنسب مباشرةً إلى علم الآثار، ولتعريفه فهو مجرد استكشاف كل ما تحت سطح الأرض وعادةً ما تتم هذه العملية وفق خطةٍ ممنهجة ومُعدة سلفًا (1)، وبمعنًى من المعاني؛ فإن التنقيب هو الوجه الجراحيّ لعلم الآثار، فهو في طبيعته عمليةٌ جراحية للنشاط البشريّ المدفون تحت سطح الأرض، تُنفذ بكلّ مهارةٍ وحرفيّةٍ لإعادة ما هو موجودٌ حسب حالته التي نشأ عليها في العصر الذي بُني فيه (3)، وعادةً ما تكون هذه العمليات بطيئةً للغاية لأن العمل فيها أحيانًا يتم في بضع سنتيمترات قليلةٍ حسب مستوى الطبقة الأرضية، ولكن الباحثون يعتبرون هذا البطء المملّ أحد أهمِّ وأسمى الأعمال للكشف عن أنواع الأنشطة البشرية التي حدثت في الموقع المُكتشف على مرّ قرونِ عديدة، ومن خلال عمليات التنقيب تلك، يحاول القائمون عليها استقصاء الزمن ومحاولة فحص الموقع الأثريّ على نطاقِ فتراتٍ زمنية مختلفة، فقد يعكس حفر بضع سنتيمتراتٍ من سطح الأرض تاريخ هذا المكان في القرن الـ19 بينما تكشف عمليات الحفر في عدة أمتارٍ عن قطعٍ أثريةٍ ربما يعود تاريخها إلى عصورٍ قديمة. وكل هذه العمليات تهدف في المقام الأول إلى وضع سجلٍّ زمنيٍّ للمواد المكتشفة في محاولةٍ من الباحثين لإعادة بناء تاريخ المنطقة خلال هذه الفترات المتباينة.(1) ويُعتبر كلٌّ من هاينرش شيلمان، مُكتشف بلاد اليونان القديم، وفلندر بيتري، واضع منهجية تأريخ المكان، هما واصِفَا ومؤسِسَا علم التنقيب الأثريّ لإعادة بناء التاريخ القديم من بقايا الأدوات المكتشفة (3).
المنهجية القديمة لتحديد الموقع الأثريّ
باستثناء معالم البارثيون في أثينا والأهرامات في مصر كمعالمٍ أثرية فوق سطح الأرض؛ فإن القاعدة التي يعتمد عليها علم التنقيب أو الحفريات هي اكتشاف ما هو تحت سطح الأرض، قد تكون هذه المعالم غير مرئيةٍ جزئيًا أو كليًّا. فكيف إذن يقوم علماء الآثار بتحديد المواقع التي تحتاج إلى التنقيب أو الدلالات الأثرية بداخلها؟
في الفترات الأولى لظهور علم التنقيب استعمل المستكشفون أو القائمون على التنقيب المصادرَ والمراجعَ التاريخيّة والأدبيّة والجغرافيّة لمعرفة الأماكن التي تحتاج إلى كشف، فعلى سبيل المثال؛ قد اعتمد هاينرش شيلمان على كتابات المؤرخ اليونانيّ هوميروس مع بعض حدْسه الخاص وحظه الجيد للعثور على مدينتي طروادة وميسينيا القديمتين، بينما هناك بعض المدن التي ساعد الاحتفاظ بنفس أسماءها القديمة على اكتشاف أنقاضها وحفرياتها التاريخية والعمل في حيزها ونطاقها (1).
دور الصدفة في الاكتشافات الأثريّة
ولا يُستبعد بأي حالٍ دورُ الصدفة في الاكتشافات الأثريّة، فكثير من الأحيان أدت تلك الصدفة إلى اكتشافاتٍ كبيرة، فعن طريق الصدفة اكتشف أحدُ المشاةِ على ساحل إنجلترا مدافنًا تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، وعن طريق الصدفة اكتشف عمال بناءٍ في مدينة نيويورك رفات أكثر من 400 أفريقي يعود تاريخ وجودهم إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، وأصبحت تلك المقبرة الآن نُصبًا تذكاريًا في الولايات المتحدة(2). وعن طريق الصدفة أيضًا يكتشف المزارعون مواقعًا أثريةً مهمة أثناء حرث حقولهم، فقد اكتُشف (كهف Lascaux) الشهير، الذي تعود نقوشه إلى العصر الحجريّ القديم في جنوب فرنسا، عن طريق الصدفة في عام 1904م عندما قرر أربعة طلابٍ فرنسيين التحقيقَ في حفرةٍ خلفتها شجرةٌ اقتُلعت من جذورها، فقاموا بإدخال عمودٍ حديدي في موضع الشجرة مع توسيع صغير ما أدى بهم في النهاية أن يجدوا أنفسهم وسط ملاذٍ أثريٍّ رائع، وبالمثل، فقط اكتُشف ما عُرف باسم «مخطوطات البحر الميت» عام 1947م عن طريق الصدفة على يد بدويّ كان يبحث عن حيوانه الضال، وكثيرٌ من هذه الاكتشافات جاءت على نفس سياق الصدفة (3)، وهناك ما يُعرف بـ «النموذج التنبؤيّ الأثريّ» وهو نموذجٌ يشير إلى احتمالية وجود موقعٍ أثريّ في منطقة معينة بناءً على بعض العوامل التي تساعد في هذا التحديد مثل المسافة من الماء وانحدار الأرض ونوع التربة وعواملٍ أخرى تؤثر في مكانة واستقرار البشر (2)، ولكن هل تُغني كل تلك الاكتشافات التي جاءت بمحض الصدفة عن وجود آليّةٍ علمية لتحديد موقع الأماكن الأثرية؟
بالطبع لا، وبصرف النظر عن هذه الطرق التقليدية القديمة في البحث عن الموقع الأثريّ؛ فإن علماء التنقيب والآثار يستخدمون حاليًا أدواتٍ أكثر تطورًا لتحديد الموقع المراد كشفه، منها عملية «المسح السطحيّ المنهجيّ»، ويتم فيها تحديد أماكن بعض الموادِ المدفونة القريبة من السطح، التي توجّه مباشرةً إلى عمليات التنقيب الأكثرِ عمقًا، ومن الأدوات الحديثة أيضًا منطاد التصوير الذي يعمل بتقنية الاستشعار من بُعد ويتم خلاله عملية التصوير الجوي وصور الأقمار الصناعية لمنطقةٍ ما، مما يعطي دلالاتٍ واضحةً حول ما يحتويه باطن الموقع المراد العمل فيه، فقد تشير بقعةٌ داكنةٌ داخل الصورة الجوية إلى وجود مادةٍ عضوية غنية تدل على مَكبّ نفاياتٍ قديم لأحد الحضارات السابقة، وقد تشير بعض العلامات إلى وجود جدران وخنادق وطرق في باطن الأرض وقد تشير بعض علامات الظل في الصورة الجوية إلى اختلافات في الارتفاع والانخفاض لبعض الهياكل القديمة (1).
أدوات عملية التنقيب
تعتبر المجرفة هي أكثرُ أدواتِ عملية التنقيب استعمالًا أثناء العمل، فهي تساعد على كشفِ وإزالة الطبقة الرقيقة من سطح الأرض أو اكتشاف ثقوبٍ صغيرة في السطح تؤدي إلى معبرٍ أو نفق، وهناك بعض الأدوات الأخرى مثل معداتِ الحفر والغربلة ومعدات القياس ومجاهر المسح الإلكترونيّ وشريط القياس وفرشاة الأسنان وأحواض الغبار، وجميع هذه الأدوات يتم استخدامها تقريبًا بشكل يوميّ (2)، وتسير خطوات العمل في الموقع حسب الآلية التالية:
مراحل عمليات التنقيب والحفر(4)
- تطهير الأرض:
بعد الانتهاء من المسح الجويّ والجيولوجيّ، يقوم القائمون على موقع التنقيب بعملية تطهير الأرض من الحشائش وأوراق الشجر وأيةِ عوائقٍ على سطح الأرض، وعادةً ما يتم ذلك بواسائلٍ ميكانيكية، ولكن يُفضِل بعض القائمين على الموقع أن تتم هذه العملية بشكلٍ يدويّ.
- جولة عامة:
جزءٌ مهم قبل البدء في الحفر أن يقوم رئيس الموقع أو المشرفون الميدانيّون بتعريف عمال الحفر بتاريخ الموقع وتضاريسه، وإرشادهم بمنهجيةِ الحفر ونظرياته وأدواته، وبواسطة خرائط المسح يتم تحديد موضع الخنادق التي ستُحفر، ثم يتم تحديد زوايا الخنادق وتحديد حوافها، وعادةً ما تكون هذه الخنادق على هيئةِ مربعات كبيرة بمساحة 5 أمتارٍ مربعة، يفصل بينهم مترٌ واحد، وتُغطى أعمال الحفر في هذه الخنادق بقطعٍ من القماش مثبتةٍ في عمودٍ من الخشب أو الحديد لحماية العاملين من أشعة الشمس والمطر.
- عملية الحفر:
تتم عملية الحفر بعدة طرقٍ اعتمادًا على طبيعة الرواسب المراد إزالتها، وبالنسبة للجزء الأكبر من الرواسب، فإنه يُرفع من الموقع بواسطة المِجرفة وعربةٍ يدوية صغيرة أو دَلو.
- تحليل وغربلة المُستخرَج :
يتم تحليل وغربلة كل حفنةٍ من الأوساخِ والأتربةِ التي يتم رفعها من الموقع، فتلك العيّنات قد تحمل دلالاتٍ كبيرةٍ من خلال عملية الغربلة.
- التسجيل:
إن كل ما يُعثر عليه في الموقع يُسجَّل في كشفٍ يوميّ في دفتر الملاحظات الميدانيّ، فيقوم المشرفون الميدانيّون بتدوين وتسجيل الرسوماتِ والمخططات وأوصاف تطور الخنادق من أحجارٍ وطبقات واكتشافات.
- الحفظ:
يتم الاحتفاظ بكل ما يُعثر عليه _قد يكون أوانٍ أو أعمالٌ خزفيّة أو حجريّة أو غيرهم، في دلايات صغيرة، بينما تُحفظ المكتشَفات الصغيرة في أكياسٍ مناسبة مع وضع علامات على كل كيس ثم تُنقل إلى مكان آخر للتنظيفِ والحفظ والفهرسة والتخزين.
- السجلات الفوتوغرافية:
وهي خطوةٌ مهمة يتم فيها تصوير الاكتشافات المهمة في الموقع قبل نقلها وحفظها كما سبق ذكره.
- نهاية اليوم الأول من العمل:
تشهد نهاية يوم الحفر ترتيبًا عامًا وشاملًا للمكان، وعند الانتهاء من حفر كل مستوًى أو طبقةٍ أرضية في الموقع يتم تظليل الخندق والتقاط الصور .
- مرحلة الاستماع إلى الخبراء:
بعد أن تُنقل الأشياء التي تم اكتشافها إلى معمل الحفظ يعمَد العاملون إلى تنظيفها ومن ثم يقوم الخبراء بالتعليق على ما اكتُشف، والإجابةِ على بعض التساؤلات الأثرية التي من المؤكد أن تفيد في أيام الحفر التالية.
ومن الجدير بالذكر أن جميع هذه الأعمال في عمليات الحفر والتنقيب من بدء التخطيط حتى التنفيذ تتطلب مهارةً كبيرةً وإعدادًا دقيقًا وسنواتٍ من التدريب في هذا المجال، والتدرج في العمل فيه بدايةً من محفر عادي ثم مشرفٍ على موقع ثم مسجلٍ ومساحٍ ومصورٍ حتى يكون لديك الخبرة الكافية للعمل في هذا المجال (3).