إنَّه في غاية الأهميَّة -قبل بدء المقالة- التَّفرقة بين هذين المفهومين: «التَّبريد العميق (Cryogenics)»، و«تجميد الأحياء (Cryonics)» أو حفظ الخلايا الحيَّة بالتَّبريد.[1]
فيهتمُّ «التَّبريد العميق» -وهو موضوع المقال- بدراسة المواد وتفاعلها مع الحرارة شديدة الانخفاض؛ بينما يعتقد دارسو ومهتمُّو «تجميد الأحياء» بإمكانيَّة حفظ جسم الإنسان وخلاياه في أوعية خاصَّة مصنوعة بمواد كرايوجينيَّة «مواد متجمِّدة (Cryogenic)» عند الوفاة لإعادة إحيائها. الاعتقاد الذي لا يُمكن تدعيمه؛ فهو مبنيٌّ على أساس غير علميّ.[1][2]
ماهيَّة ظاهرة التَّبريد العميق
«التَّبريد العميق» أو «الكريوجينيكس» هي ظاهرة تحدث في حالات الحرارة شديدة الانخفاض، التي تختلف بطبيعتها كثيراً عن العمليَّات الفيزيائيَّة العاديَّة؛ حيث تقارب درجة حرارتها الصفر المطلق (−273 °C أو 0 K). في هذه الظّروف القاسية، تتغيَّر خصائصها الكيميائيَّة والفيزيائيَّة مثل القوَّة، ومقاومتها الكهربائيَّة، وأيضاً قابليَّتها لتوصيل الحرارة وللثَّني.[2][3]
تتغيَّر طبيعة المواد الكريوجينيَّة في هذه البيئة منخفضة الحرارة تغيُّراً مثيراً للاهتمام، يدعو الباحثين إلى فحص طبيعة انتقال المواد من حالتها الغازيَّة إلى السائلة إلى الصّلبة.[2] ومن خلال تلك الدِّراسات، ازداد فهمنا لطبيعة تلك المواد المختلفة، وتمكَّنَّا من ابتكار تكنولوجيات وصناعات جديدة.[2]
ونستطيع معرفة كميَّة الطَّاقة المخزونة من خلال معرفة درجة حرارة المواد؛ فالمواد ذات ذرَّات سريعة الحركة تكون حرارتها أعلى من المواد ذات ذرَّات بطيئة الحركة.[2] على سبيل المثال؛ تتحوَّل حالة الماء من السَّائلة إلى الصُّلبة عند درجة حرارة 32 فهرنهايت (32° F أو 0° C).
يختلف سلوك المواد ذات حرارة شديدة الانخفاض «التَّبريد العميق»؛ حيث تتغيَّر حالتها السَّائلة إلى الصّلبة بمعدَّل أقلّ بكثير بدرجات الحرارة التي تتراوح بين (-150° C) إلى (-273° C)؛ بينما ( -273° C) أو (0 K) هي أقلّ درجة حرارة ممكنة. وبتلك الحرارة شديدة الانخفاض، تتوقّف حركة الجزيئات بالإضافة إلى فقدانها لجزء كبير من طاقتها وإبقائها بأدنى حالة ممكنة من الطَّاقة.[2]
يُمكن استخدام الغازات السَّائلة عند -150 درجة مئوية (-150° C) أو أقلّ لتجميد المواد الأخرى، وذلك يُمكن حدوثه عندما تبدأ الغازات بالتَّسييل. وأهمّ الغازات التي تساهم في اختلاق تلك البيئة الكريوجينيَّة (بيئة متجمّدة) هي: الأكسجين، النيتروجين، الهيدروجين والهيليوم.[2]
نظرة إلى تاريخ فيزياء درجات الحرارة المتدنّية (التَّبريد العميق)
إنَّ كلمة الكرايوجينيكس (التَّبريد العميق) ذات أصل يونانيّ؛ حيث كلمة كرايو (Kryo) تعني البرد الشديد؛ بينما جينيكس (gen)، هي كلمة إنجليزيّة تعني إحداث (Producing)، وهي أيضاً من أصل يوناني (Genes) تعني المولد أو النَّشأة.[4]
تُقاس درجات الحرارة شديدة البرودة بالكِلفينز (Kelvins)، وليست بالفهرنهايت (Fahrenheit) أو بالدَّرجة المئويَّة (Celsius). فدرجة القياس كِلفن الصِّفرية هي -نظريَّاً- أبرد درجة حرارة ممكنة.[2]
مراحل تطور التَّبريد العميق
أول من بدأ بعمل تسييل الأكسيجين هم: راسيل بيكتيت (Rasul Pictet) ولويس كايليت (Louis Caillet)، وذلك في سنة (1877)، واستعان كلاهما بوسائل مختلفة للعمليَّة.[2]
وبعد اكتشاف الوسيلة الثَّالثة للتَّسييل، أصبح ممكناً تسييل الأكسيجين بدرجات حرارة (90 K) و(77 K)، وحينئذٍ بدأ العلماء يتنافسون من جميع أنحاء العالم لخفض درجة حرارة المادة إلى الصفر المُطلَق (Absolute zero) وذلك بطرقٍ جديدةٍ مُبتكَرة.[2]
وفي سنة (1898)، استطاع جيمس ديوار (James DeWar) تسييل الهيدروجين بدرجة حرارة (K 20)؛ مُحدِثاً بذلك طفرةً علميَّةً.[2]
وعلى الرَّغم من هذه الطَّفرة، إلَّا أنَّها أحدثت مشكلة جديدة للباحثين؛ وذلك لأنَّ (20 K) هي أيضاً درجة الغليان. وهذا يطرح مشكلة أخرى عن كيفيَّة معالجة وتخزين الغازات في مثل درجات الحرارة هذه.[2] ولهذا أُنشئت دورق (قارورة) ديوار (DeWar) التي تستخدم لتخزين الغازات اليوم.[2]
إنَّ آخر تقدُّم كبير في صناعات التَّجميد (الكرايوجينيكس) هو عندما قام الفيزيائيّ هيكي كامرلينغ أونس (Heike Kamerling Onnes) بتسييل الهيليوم عند درجات حرارة: (4.2 K)، و(3.2 K)، وذلك في سنة (1908).[2]
أصبحت أوجُه التَّطورات بعد هذه المرحلة أقلّ بكثير ممَّا كانت عليه من قبل؛ إذ يرجع ذلك لقوانين الثرموديناميك (Thermodynamic) الذي يصف حالة المادة عندما تحاول الوصول إلى الصّفر المُطلَق دون كسر درجة الحرارة الصِّفريَّة أو الوصول الفعليّ لها.[2]
وقد تقدَّمت التّكنولوجيا كثيراً منذ ذلك الاكتشاف الأخير؛ إذ نستطيع تجميد المواد بدرجات حرارة قريبة جداً من الصِّفر المُطلَق؛ فلم يتمكَّن العلماء حتّى الآن من كسر القانون الحراري (الثرموديناميك)، بأن يكون مقدار الطَّاقة لكلِّ جسيم يُساوي صفراً.[2]
أهم تطبيقاته واستخدماته
للكرايوجينيكس تطبيقاتٌ في مجالاتٍ عدة –نظراً لطبيعتها الكيميائيَّة- منها:
أوَّلاً. الجراحة البرديَّة (الجراحة باستخدام المواد الكريوجينيَّة)
الجراحة البرديَّة (Cryosurgery) هي نوع من الجراحات تُستخدم للتَّخلُّص من الأنسجة المتضرِّرة والأورام لطبيعتها الحرارية شديدة الانخفاض.[2]
فهي تعمل عن طريق تسليط درجات حرارة شديدة الانخفاض على الخلايا التي تحتاج إلى إزالة؛ فينتج عن ذلك تجميد هذه الخلايا وتأخذ شكل بلُّورات ثلجيَّة حتَّى يُمكن التَّخلُّص منها من الجسم بشكل طبيعي. ومزيّة هذه الطَّريقة أنَّ المريض لا ينزف كثيراً مقارنة بالجراحة التَّقليديَّة.[2][3]
كما أثبتت الجراحة البرديَّة فاعليَّتها في عمليَّات مثل: إزالة اللَّوزتَين، وعلاج القيء وبعض الأورام. بالإضافة إلى ذلك، علاج الآلاف من مرضى باركنسون عن طريق تجميد المناطق المتضرِّرة من الدِّماغ التي يُعتقد أنَّها سبب المشكلة.[3]
ثانياً. العلاج بالتَّبريد Cryotherapy
يمكن تطبيق العلاج بالتَّبريد بالمنتجعات العلاجيَّة أو فيما يعرف بالحمَّامات العلاجيَّة (Cryospas). ففي هذه المنتجعات، يعمل جهاز الـ(Cryosauna) على خفض حرارة الجسم لمن يرغب في العلاج؛ فالجهاز مملوء بالسَّوائل المبرِّدة يستطيع الشخص من خلاله أن يقف فيه لبضع دقائق.[2]
أظهرت الدراسات الكثير من الفوائد لهذا العلاج مثل:[2]
- الحدّ من الالتهابات.
- إمداد الجسم بالطَّاقة.
- العمل على تخفيف الآلام.
- والعمل على تحسين التَّمثيل الغذائي.
ولا تزال الأبحاث المتعلِّقة بهذا العلاج جديدة لدراسة وفهم فوائده للجسم.[2]
ثالثاً. الكرَيوبَيولوجيا (البيولوجيا البرديَّة)
تهتمّ الكرَيوبَيولوجيا (Cryobiology) بدراسة آثار درجات الحرارة شديدة الانخفاض على الكائنات الحيَّة. فتوجد (6) مجالات رئيسيَّة تهتمُّ بها الكرَيوبَيولوجيا وهي:[2]
- دراسة تكيُّف الكائنات المجهريَّة والنَّباتات والحيوانات والفقاريات مع الظروف البيئيَّة شديدة التَّجمُّد.
- يُستخدم في الإخصاب الأنبوبي (التلقيح الصناعي).
- حفظ الخلايا الحيَّة بالتَّبريد.
- حفظ المستحضرات الدوائية (العقاقير الطبية) عن طريق التَّجفيف بالتجميد (Lyophilization).
- تدخل الجراحة البرديَّة في إطار هذا التَّصنيف.
- التَّبريد الفائق للأنظمة والأنسجة البيولوجية، ويفتح هذا المجال آفاقاً واعدة للحفاظ على الخلايا وخاصَّةً حفظ الأعضاء.[2][5]
رابعاً. حفظ الأغذية
لا يخفى على أحد تأثير الحرارة في تسريع التَّفاعلات الكيميائيَّة، وهُنا يأتي دور النيتروجين السائل لامتصاص الحرارة داخل منتجات الأغذية المُعبَّأة مع تبخُّر محتويات النيتروجين المرشوش. وهذا بدوره يؤدِّي للقضاء على أيِّ تهديد مُحتمل على صحَّة الإنسان بسبب المُعالجة الكيميائيَّة عند الاستهلاك.[6]
خامساً. تخزين ونقل الغاز
يُشكِّل نقل أو تخزين الغاز كثيراً من التحديات نظراً لطبيعته الكيميائيَّة؛ حيث تبتعد ذرَّات وجزيئات الغاز عن بعضها البعض على نطاقٍ واسع.[6]
فتأتي تكنولوجيا «التَّبريد العميق» لحَلِّ هذه المشكلة عن طريق تحويل المواد الغازيَّة إلى سوائل. ومن أشهر أمثلة ذلك هو الغاز الطَّبيعيّ المُسال (Liquified natural gas – LNG)، وهو خليط من الميثان والإيثان، وغيرهما من الغازات.[2][6]
تُسال هذه الغازات عند (110 K)، -وهي قابلة للإشتعال- لتقليل المسافة بين ذرَّات الغاز على نحو كبير؛ ممَّا يوفِّر -نتيجة لذلك- قدراً كبيراً من المساحة. وبالتَّالي، تنخفض تكلفة النَّقل ويسهل نقلها، بالإضافة إلى تقليل المخاطر المحتملة لهذه المواد الكيميائيَّة في حالتها الغازيَّة.[2][6]
سادساً. الإلكترونيات المبردة Cryoelectronics
تسمح السّوائل الكريوجينيَّة (المبردة) للإلكترونيَّات -المتواجدة بالإجهزة- للتَّحرُّك بحرِّية دون مقاومة تُذكر.[2]
وهذا له إسهامات كبيرة في تقنيَّات فائقة التَّوصيل (Superconductors)، وفي تصميمات المركبات الفضائيَّة. فمثلاً، عند تخزين الأكسيجين والهيدروجين كسوائل مبرّدة (Cryogenic fluids)، يمكن استخدامهما لتزويد الصَّواريخ الفضائيَّة بالطَّاقة.[2]
ماهيَّة التَّطوُّرات المُرتَقبة مستقبليَّاً
ومع التَّطور السَّريع للتِّكنولوجيا، ستواصل مجالات التَّجميد تطوُّرها لتشمل مزيداً من التَّطبيقات في نهاية المطاف.[2]
فبينما لا يُمكننا التَّنبُّؤ بالتَّطوُّرات القادمة، تُعَدّ سلامة السَّوائل الكرايوجينية (المبرّدة) مطلباً أساسيّاً وضروريّاً بغضّ النَّظر عن اتِّجاهات الباحثين؛ فيجب أن تُؤدَّى وتُقام عمليَّات معالجة التَّطبيقات، والدِّراسة، واستخدام المواد الكريوجينية مع اتِّخاذ كافة احتياطات السلامة المناسبة، ومراقبة مستوايات الغاز لضمان الرَّصد الدَّقيق لتركيزات الغاز.[2]