يعزل الناس أنفسهم في العالم كله في محاولة للحدِّ من انتشار فيروس كورونا. لكن، تقول المؤرخة هيلين كار (Helen Carr):
«أنَّ تطبيق الحجر الصحي ليس حديثًا»
فسنستكشف معها كيف كان يُطبّق بجانب الإجراءات الأخرى في القرن الرابع عشر لحصر المرض الذي أصبح يُعرف بالموت الأسود.
في خريف 1348 دخلت سفينة لميناء ساوثامبتون (Southampton) بإنجلترا، مُحمّلة بمرض قادم من الشرق استطاع بعدها أن يُخرّب العالم الغربي، فقتل الآلاف من الرجال، والنساء، والأطفال بسرعة وبلا رحمة. كان هذا الطاعون الدبلي، تُشخص أعراضه بظهور تورم أسود في منطقة المفصل عند الشخص المُصاب، ويكون على الأغلب في الإبط (تحت الذراع) أو الأربية (المنطقة في الجانب أو الخلف بين الأضلاع وعظمة الورك) ويُصاحبه أوجاع في الجسم، وبرد، وخمول، وحمَّى شديدة. وعندما تصل العدوى لمجرى الدم تُسمّمه مما يؤدي للموت المحتوم. استطاع أن يفلت البعض من العدوى، لكن الأغلبية ماتوا في بضعة أيام، وأحيانًا بضع ساعات. أصبحت موجة الوباء الدبلي معروفة بالطاعون أو لاحقًا الموت الأسود.
بحلول نوفمبر 1348 كان الوباء قد وصل إلى لندن، وبحلول يوم رأس السنة 1349 كان يُجمع حوالي 200 شخص في اليوم في قبور جماعية خارج المدينة. شهد راهب أغسطيني يدعى هنري نايتون (Henry Knighton) الدمار الذي سبّبه الموت الأسود في إنجلترا قائلًا:
«كان يوجد وفيات حول العالم أجمع، شُردت الأغنام والثيران في الحقول ووسط المحاصيل ولم يوجد أحد ليقودهم أو ليجمعهم، لكنهم كانوا يموتون ويضيعون بأعداد لا تُحصى؛ بسبب نقص الرُعاة، بعد الطاعون؛ الكثير من المباني تدمّرت بالكامل بسبب نقص السكان، وبالمثل العديد من القرى الصغيرة اصبحت مهجورة وبلا منازل لأنَّ جميع سكانها ماتوا»
تدمّر الريف بالمحاصيل، والماشية، وماتت الثمار بسبب عدم وجود من يعتني بها. هُجرت المدن، حيث شغلها الأموات فقط، وعُلِّقت الحرب مع فرنسا -تلك الحرب التي سُميت بحرب المائة عام- وأُجبرت إنجلترا وبقية أوروبا على التوصل لحل للوباء ذى الطبيعة الغامضة والذي غيّر شكل المجتمع. وأثناء انتظار السيطرة على الجائح؛ اضطّر ملك إنجلترا في ذلك الوقت إدوارد الثالث تحويل اهتمامه للشؤون الداخلية. قبل تفشي الوباء في إنجلترا، أصاب الطاعون ابنته الأميرة جوان (Joan) بعدما أرست السفينة التي كانت على متنها في بوردو (Bordeux)(مدينة في فرنسا) حيث كانت في طريقها إلى الزواج من بيتر ملك قشتالة (Peter of Castile) كجزء من التحالف الدبلوماسي بين المملكتين، لم تصل الأميرة إلى قشتالة أبدًا، ونتيجة اكتشاف وصول الوباء لبوردو، لجأت لقرية صغيرة اسمها لوريمو (loremo) حيث ماتت بجانب جزء كبير من حاشيتها.
تصرّف الملك المنكوب بسرعة وحسم بعد معرفته بالأخبار ليحد من تفشي الوباء في إنجلترا. تأجّل البرلمان الذي كان سيُعقد في يناير 1349 لعيد الفصح (مع ذلك، ظل البرلمان فارغًا حتى الربيع) وهرب المسؤولون لمنازلهم ورفض مُدراء الشرطة استكمال أعمالهم خوفًا على حياتهم. أُغلقت البلد وتطلّع الشعب للملك ليدعمهم في تلك الأزمة.
جاءت استجابة إدوارد عقلانية: فقد شكَّ في أنَّ قلة النظافة العامة هي السبب وراء ظهور الوباء. وفي سبيل مُعالجة انتشار العدوى، عارض أن يتم حفر المقابر لضحايا الطاعون في شرق سميثفيلد (Smithfield) التي تقع نسبيًا بالقرب من برج لندن والمناطق السكنية المحيطة به. وحُفرت المقابر في مكان أبعد، و في 1349 كتب إدوارد الثالث لعمدة لندن يأمره بتنظيف الشوارع بالكامل، لأنهم كانوا “ملوثين بقذارة الناس، وهواء المدينة مُسمّم مما يُشكّل خطرًا كبيرًا على المارّة في المدينة خاصة في وقت المرض المُعدي”.
اتُخِذت إجراءات أكثر في دول ما وراء البحار، في إيطاليا عام 1347 -حوالي سنة قبل وصول الوباء لإنجلترا- بدأت المواني بصرف المراكب خوفًا من أن تكون حاملة للوباء المميت. وبحلول مارس 1348؛ اتخذت تلك الإجراءات الوقائية طابعًا رسميًا وأصبحت فينيسيا أول مدينة تقفل موانيها في وجه السفن القادمة، وعُزلت تلك السفن لمدة ثلاثين يومًا امتدت لأربعين، أدَّى هذا لظهور مصطلح “الحجر/العزل الصحي” لأنَّ السفن اضطّرت للانتظار في منتصف بحيرة فينيسيا قبل أن يُسمح للركاب النزول منها. حُفرت المقابر في أماكن معزولة، ولاحقًا عند انتشار الوباء، بنى الفينيسيون جزيرة كاملة للحجر الصحي اسمها (Lazzaretto vecchio) وهي جزيرة صغيرة في بحيرة فينيسيا. وكشفت أعمال التنقيب التي أُجريت في عام 2007 عن وجود أكثر من 1500 هيكل عظمي، يُفترض أنَّ جميعهم لضحايا الطاعون الدبلي. ويُعتقد بوجود الآلاف تحت أرض الجزيرة.
لكن للأسف، اتُخِذت تلك الإجراءات بعد فوات الآوان، انتشر الوباء في فينيسيا -كما انتشر في العالم كله- مُتسبّبًا في وفاة ما يُقدر ب100000 شخص، وهي نسبة مُفجعة من الكثافة السكانية لفينيسيا.
أي الأجزاء في إنجلترا التي تأثرت بالطاعون؟
شاركت إنجلترا في نفس المصير. ففي عام 1300 وصل تعداد السكان لخمسة مليون، وبحلول عام 1377 تقلص العدد ل2.5 مليون. حصد الطاعون نصف عدد السكان، وقضى بالكامل على أسر، وقرى، وحتى مدن كبرى كمدينة بريستول (Bristol). لم تكن الإجراءات التي اتُخذت لكبح انتشار الوباء ذا فائدة تذكر، لكن كان يوجد خطط للطوارئ لمقاومة تفشي الأمراض لاحقًا في التاريخ.
عندما ضرب الطاعون البلاد مجددًا في 1563 (كما فعل في أغلب السنوات، بالرغم من أنَّ بعض حالات التفشي كانت أكثر حدة من غيرها)، بدأت خطة الحجر الصحي تسير وفق نظام شديد، فقد أمر عمدة لندن بتعليق صلبان زرقاء على أبواب المنازل التي بداخلها شخص مريض خلال الأسبوع الماضي، وكان السكان يبقون داخل منازلهم لمدة شهر بعد وفاة أي فرد في المبنى أو إصابته بالمرض. كان مسموح لفرد واحد فقط غير مُصاب أن يخرج لشراء المؤن للمرضى أو للمُعافين. ولكي يُثبت الشخص خلوه من المرض كان يحمل عصا بيضاء، وإذا نسيها يتعرض لدفع غرامة أو للحبس.
ضرب الطاعون لندن مرة أخرى في 1539 وأغلقت المنازل على سكانها مدة 40 يومًا -تحددت الفترة الزمنية المثالية للحجر الصحي بفينيسيا في القرن الرابع عشر- بحلول عام 1580 كانت حركة الملاحة تخضع لمراقبة شديدة، وكان يتم عزل الركاب وطاقم العمل بالسفينة أو الميناء بعد نزولهم. حُبس التجار في ميناء راى (Rye) ومُنعوا من دخول المدينة، تعرضت البضائع للتهوية خوفًا من أن تنقل العدوى. تحددت التنقلات داخل البلاد، ومُنع المسافرون للندن من الدخول إذا كانوا قادمين من بلاد بها وباء.
استمرت حالات انتشار الوباء للقرن السابع عشر آلاف المرات وأشهرها كانت في 1656-1665. وفي 1630؛ طُبق الحجر الصحي في لندن، وأمر مجلس الملكة بغلق المنازل مجددًا على المصابين بالداخل. ومع ذلك وقف حرس خارج تلك المنازل للتأكد من تنفيذ القرار، ثم استُبدل ذلك القرار بقرار آخر ألا وهو أن يتم ارسال هؤلاء المرضى لمنزل الآفات (مشفى مُغلق لمرضى الطاعون) وإغلاق منازلهم. ولعل أكثر الحالات شهرة في تطبيق الحجر الصحي هي حالة قرية إيام (Eyam) بمقاطعة ديبريشاير (Derbyshire) التي وضعت نفسها في حجر صحي لمنع انتشار العدوى للقرى الأخري، مات حينها 260 قروي.
دمر الطاعون لأكثر من أربعة قرون حياة ملايين الأفراد، وبالرغم من جهود المسؤولين، لم يكن يوجد حل للسيطرة على انتشار ذلك الوباء الفتّاك. لام الناس أنفسهم، لاعتقادهم أن ذلك كان عقابًا من الله بسبب خطاياهم، حتى ظنَّ البعض أن ذلك الوباء هو نهاية العالم.
بالرغم من عدم وجود طاعون الآن، لكنه ظهر مجددًا في الولايات المتحدة عام 1924، وفي الهند عام 1994 مُتسبّبًا في وفاة 52 شخص وذعر عام حيث خاف الناس من حدوث عدوى. في حين أننا لا نميل لمعايشة معدلات الوفيات التي حدثت في القرون الرابع عشر، والخامس عشر، والسادس عشر، والسابع عشر. نأمل أنَّ بتطور الطب الحديث والإحتياطات العملية تظل تلك الكارثة الطبية-البيولوجية كتاريخ.