تمتاز تلك الخيوط العنكبوتيّة الرفيعة بقوّتها التي توازي قوّة الفولاذ ولكنّها كذلك خفيفةٌ تمامًا كالريش، وبالرغم من المحاولات العديدة، يظلّ تصنيعها تحدّيًا يواجه المهتمّين بالأمر حتى الآن.
قبل بضع سنوات، أعطتني أمّي وشاحًا حريريًّا يبثّ الدفء عند ملامسته للجسد بشكلٍ فريد: خفيفٌ كالنسيم، وعلى نحو سلس -كالماء- صافٍ وناعم.
كان من الصعب في ذلك الوقت تصديق أنّ تلك الخيوط الطويلة المكوّنة للأقمشة قد تم نسجها بواسطة ديدان بيضاء صغيرة جدًّا، تمّ استخلاصها من الحصون التي غزلتها اليرقات الأكثر رقّةً أثناء شروعها في التحوّل إلى فراشات.
من المتّفق عليه أنّ حرير دودة القز رائع ومميز، لكنّه -على مرّ القرون- لم يحظَ بنفس الاهتمام الذي كرّسه الناس في بحثهم عن نسيجٍ أكثر غرابة وتحدّيًا وهو: حرير العنكبوت.
السبب وراء الاهتمام بحرير العنكبوت
تُرى ما هو السبب الحقيقي وراء هذا الهوس باستخدام حرير خيوط العنكبوت بالتّحديد في النسيج؟ أول إجابةٍ يمكننا التفكير بها: أنّ العناكب أكثر شيوعًا بكثيرٍ من ديدان الحرير، فهي تتواجد في أيّ بقعةٍ على سطح الأرض، ومن ضمنها منزلك! وأينما تذهب تلك الماكينات الصغيرة، تقوم بحياكة شبكاتها الأنيقة والمتينة على نحوٍ مدهش. هل يمكنك أن تتخيل قطعة القماش الفريدة التي يمكن نسجها من تلك الخيوط الغليظة؟ من المؤكّد أنّ لنا القدرة على الاستفادة منها على نطاقٍ أوسع مما نتصور الآن.
نجحت العناكب في استغلال خيوطها المميّزة في حياكة الشرانق، والأعشاش، ومساراتٍ للفرمونات، والمصائد اللزجة لفرائسها، والعديد من الأغراض الحيويّة الأخرى، حتى أنّه يمكن لبعض العناكب أن تتدلّى وتتأرجح على الحرير وتبقى عائمة لأميال على أعمدة حريريّة صلبة، بل إنّ هناك نوعًا من العناكب يعيش تحت الماء، يقوم بتغليف شبكته بفقّاعة هوائيّة تسمح له باستراحةٍ لاستنشاق الهواء أثناء رحلة الصّيد.
استخدام البشر لحرير العنكبوت
في الواقع استطاع البشر أيضًا ومنذ فترةٍ طويلة أن يبتكروا استخداماتٍ متعدّدة لحرير العنكبوت، فمثلًا في جزر سليمان (Solomon islands) يستخدم السكّان الأصليون أداةً مبتكرةً مكوّنةً من طائرةٍ ورقيّة وحبلٍ وطُعمٍ من حرير العنكبوت لاصطياد السمكة الإبرية أو أسماك الفصيلة الخرميّة المراوغة التي يصعب صيدها عموما وذلك يعود لضيق فمّها الإبريّ الشكل بحيث لا يعلق باستخدام خطّاف تقليدي،
كذلك اعتمد الإغريق والرومان في العصور القديمة على استخدام حرير العنكبوت في صنع كمّادات لتضميد جروحهم في المعارك.
وعلى الرغم من فائدته، يبقى حرير العنكبوت بعيدًا عن متناولنا إذ لم ينجح أحدٌ حتى الآن في توظيف تلك الأنسجة الحريرية في صناعة النسيج على نطاق واسع وجِدّي، وليس هذا لقلّة المحاولات بل لفشلها.
محاولات صناعة أنسجة من حرير العنكبوت
في القرن الثامن عشر الميلادي، بادر عالم الطبيعة الفرنسي «بون دو سانت هيلير» بتقديم مجموعةٍ من القفّازات والجوارب المصنوعة من حرير العنكبوت إلى أكاديمية العلوم، حيث كان قادرًا على جمع الكمّ الكافي من حرير العنكبوت وذلك عن طريق مقايضة بيوض العنكبوت المتواجد في الزوايا المهجورة لمنازل جيرانه مقابل جنيهٍ للرطل، وممّا لا شكّ فيه أنّ جيرانه كانوا مسرورين من فرصة الاستفادة من حماقة جارهم الغير مفهومة، بينما كان الحائك المتحمّس راضيًا تمامًا عن عمله، فقد أعلن أنّه بات بإمكاننا نسج قطعٍ كبيرة من القماش الحريري الذي يتلوّن بشتّى الألوان فيغدو ممكنًا استخدامه لصناعة جواربٍ وقفّازاتٍ لا تقلّ جمالًا وجودةً عن تلك المصنوعة من حرير دود القز، بل إنّ الأمر قد يصل إلى استبدال العنكبوت لحرير دودة القز في هذه الصناعة.
بون كان يظن أنّه على وشك تقديم خطٍّ جديد لصناعة الحرير في باريس ومنه إلى العالم، أمّا لويس الرابع عشر فلم يكن معجبًا جدًا بثوبه الحريري المصنوع من حرير العنكبوت، وعلى ما يبدو فإنّ الثوب سرعان ما تمزّق بشكلٍ كارثيّ، وكان هذا مخزيًا جدًا ومحرجًا للملك ولخزانة ملابسه الملكيّة.
بحلول القرن التاسع عشر، قامت فرنسا بمحاولةٍ أخرى في سبيل تحويل الحرير العنكبوتيّ إلى صناعةٍ يعترف بها، في هذه المرة كان هاجس المبشر اليسوعي «بول كامبوي» هو الذي قاده إلى مدغشقر حيث فتن بعنكبوت الموز، غازل كرة الحرير الذهبيّة.
حين تبسط سيقانها، تصبح هذه المخلوقات البديعة في حجم يد الإنسان، وتشرع بخفّة في حياكة شبكاتها التي تُعتبر عملاقةً بخيوط رفيعة تبدو كأنّها خيوطٌ من الذهب الخالص عندما ينعكس عليها ضوء الشمس
أوّل اختراع لاستخراج خيوط العنكبوت
قام كبمو مدفوعًا بشغفه بتلك الخيوط البرّاقة بصناعة ماكينةٍ بسيطة تستخرج الخيوط مباشرةً من بطن العنكبوت وتقوم بلفّها على البكر. بدت الآلة -يُطلق عليها اسم «المقصلة»- وكأنّها نسخة مصغّرة من عواميد التشهير الخشبيّة المعروفة في القرون الوسطى، حيث يثبت العنكبوت باستخدام نير خشبي ويترك بطنه بارزًا من جانبٍ ورأسه ورجليه من جانبٍ آخر، ومع لمسة خفيفة على مغزال العنكبوت، تبدأ الخيوط بالتسلسل على إصبعك ببساطة شديدة، ولا يبقى بعد ذلك سوى لفّه على بكر.
على الرغم من أنّ فكرة نسيج حرير العنكبوت راودت البشر منذ زمنٍ بعيد، إلّا أنّ هذا الجهاز الغريب يعتبر أوّل محاولة حقيقيّة لتحويل هذه الفكرة إلى صناعة، وتحويل هذا الكائن الحيّ الصغير إلى جزءٍ من آلة.
أدّى عمل كامبو إلى إنشاء مزرعة صغيرة لتصنيع حرير العنكبوت في المدرسة المهنية في «تاناناريف»، تمّ توظيف الفتيات في مدغشقر لتجميع العناكب في السلال، وتثبيتهم في الآلات، واستخراج خيوطهم الذهبية على بكر.
تمّ عرض أول مظلّة منسوجة من هذه الخيوط في معرض باريس لعام 1900، حيث كان هذا بمثابة علامة صريحة على كيفية استغلال الفرنسيين لموارد المستعمرات التابعة لفرنسا آنذاك، سواءً كانت حيوانية أو بشرية.
ردّة فعل العناكب
قاومت السلالات العنكبوتيّة بطبيعتها أن تتحوّل إلى آلاتٍ صناعيّة، وبعد أن تمّ التقاطها، قامت بغزل شبكاتٍ غزيرة حول محبسها حتى تمّت تغطية الجدران بالكامل، بحيث لم يتمكن أيّ بعوضٍ أو حشراتٍ أخرى من الدخول. وهكذا حرمت أنفسها من الطعام، وعلى أساس مبدأ البقاء للأقوى، لم يبقَ سوى القليل منها في النهاية بعدما أكلت العناكب الأقوى العناكب الضعيفة، وقد وصلت إلى حجمٍ هائل بطبيعة الحال. «ولعلّ هذا هو السبب في فشل العناكب في استبدال ديدان الحرير: فهي مراوغةٌ للغاية بحيث لا يمكن تربيتها لأغراضٍ صناعية.»
ومع ذلك، فإنّ جاذبية الحرير العنكبوتي ما زالت هوسًا يستقطب العديد، فمنذ ستّة أعوامٍ فقط، تمّ كشف النقاب عن رداءٍ مصنوع من حرير العنكبوت في متحف فيكتوريا وألبرت، استغرق صنعه عمل ثمانية أعوامٍ، وثمانين شخصًا، ومليون عنكبوتٍ ذهبيًّا، يبدو الرّداء كما لو أنّه مصنوعٌ من خيوط الشمس ذاتها ومزخرفٌ بصورٍ لعناكب تغزل شبكاتها، وهي إيماءةٌ لطيفة من الحِرفيّين إلى النسّاجين الأصليّين: العناكب المذهلة.
ترجمة: زهرة المنصوري
مراجعة علمية: Areej Sakkour
مراجعة لغويّة: هاجر زكريّا
تحرير: نسمة محمود