في العصور الوسطى، استمدَّ الأوروبِّيِّين أفكارهم حول آسيا خارج حدود الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة من عدَّة مصادر مختلفة، كان أغلبها مليئًا بالأساطير التي تعود إلى زمن الإسكندر الأكبر وورَثته، بالإضافة إلى مصادر (الرادونيت)؛ وهي قصص التُّجَّار اليهود الذين تبادلوا تجاراتهم بين الحضارات الأوروبِّية والإسلاميَّة زمن الحروب الصَّليبيَّة.
السَّفر بين أوروبا وأفريقيا
وفي عام 1145م، دوَّن الجغرافيُّ العربيُّ المشهور (الشَّريف الإدريسيّ) -والذي عمل في بلاط ملك صقلِّية (روجر الثَّاني)- تعليقاته حول الخريطة المعروفة للعالم آنذاك. لكن حدود أفريقيا في هذه الخريطة لم تكن كاملة التَّحديد، وينقص معرفتها الكثير. وعلى الرَّغم من أنَّه كانت هناك معرفة سابقة لدى الأوروبِّيِّين بالدُّول الأفريقيَّة الكبيرة؛ إلَّا أنَّ هذه الدِّراية كانت مُقتصِرة على دول شمال أفريقيا فقط (أو دول ساحل البحر المتوسِّط). وبعد أن قام العرب بالسَّيطرة على شمال أفريقيا، أصبح طريق معرفة الأوروبِّيِّين بباقي أجزاء قارَّة أفريقيا يكاد يكون مستحيلًا.
كانت معرفة الأوروبِّيِّين بساحل المحيط الأطلسي ناقصة ومحدودة، اعتمدت -رغم قلَّتها- على مصادر قديمة؛ مثل الخرائط اليونانيَّة والرُّومانيَّة، التي دُوِّنت بمعرفة القرطاجانيِّين، وأيضًا الكتابات التي صاحبت التَّوغُّل الرُّوماني في منطقة موريتانيا.
وبالمثل، لم يكن لأوروبا العصور الوسطى الكثير من الدِّراية بالبحر الأحمر، سوى بعض العلاقات التِّجاريَّة لبعض الجمهوريَّات البحريَّة، ولاسيَّما البندقيَّة؛ حيث كان لها دورٌ بارزٌ خلال عملها البحريِّ بهذه المعرفة الجغرافيَّة.
وبحلول القرن الـ15، نما عدد سكان الحَضَر في أوروبا بشكل ملحوظ؛ ممَّا أدَّى إلى تطوُّر بعض الحِرف اليدويَّة، والتي نتج عنها تطوُّر تجاري ملحوظ، وهو ما زاد حركة التِّجارة الدُّوليَّة زخمًا آنذاك. ونتيجة الحروب الصَّليبيَّة؛ ظهرت علاقات قويَّة بين أوروبا ودول الشَّرق، عن طريق جلب تجارة التَّوابل والسِّلع الكماليَّة من الشَّرق إلى أوروبا. وفي هذا الوقت بالتَّحديد، تمَّ استهلاك كمِّيَّات كبيرة من الذَّهب والفضَّة لضرب النُّقود اللازمة لهذه التِّجارة؛ ممَّا أدَّى إلى افتقار الدُّول الأوروبِّية للكمِّيات اللازمة لسكّ العملات من هذه المعادن. أضف إلى ذلك، أنَّ منطقة البحر الأبيض المتوسط بشقَّيها كانت منطقة مُكتظَّة بالسُّكَّان للغاية.
النَّهضة الصِّناعيَّة والسَّفر
أدَّى اختراع الطِّباعة في القرن الـ15 إلى انتشار الأدب التِّقنيّ والفلسفيّ، وبدأ استخدام المزيد والمزيد من الآليَّات البسيطة، ومصادر الطَّاقة الجديدة؛ ومنها كان ظهور البنادق والأسلحة النَّاريَّة، التي ساعدت أيضًا في حماية السَّفر والتِّجارة لمسافات طويلة أطول ممَّا سبق. ونتيجةً لذلك؛ ظهرت أنواع جديدة من السُّفن الشِّراعيَّة التي كانت مناسبة لهذه الرِّحلات الطَّويلة، ورغم صغر حجمها وقلَّة طاقمها؛ إلَّا أنَّها كانت تمتلك القدرة على المناورات لاستكشاف سواحل غير مألوفة.
وفي نفس القرن، تمَّ تحقيق إنجازات جديدة في رسم الخرائط؛ بحيث أصبحت أكثر دقَّة مع الالتزام بخطوط الطُّول ودوائر العرض، ومعرفة الموانئ بدقَّة، امتدادًا إلى استخدام البوصلة والإسطرلاب في الملاحة، وظلَّ هذا التَّطوُّر حتى حلول القرن الـ 16م.
كان من أبرز نتائج التُّوغُّل العثمانيّ في منطقة البلقان وإقليم آسيا الصغرى؛ هو صعوبة استخدام الأوروبِّيِّين لطرق التِّجارة مع الشَّرق-سواء برًّا أو بحرًا- كما كان بالسَّابق. ورغم هذه الصُّعوبات إلَّا أن موارد التِّجارة مع الشَّرق أدرَّت أرباحًا ضخمة (700-800% من الدَّخل)؛وبالتَّالي زادت الرَّغبة لدى الأوروبِّيِّين في إيجاد طريق بحري -شرقًا أو غربًا- يؤدِّي للوصول إلى الهند والصِّين، بشكلٍ أفضل وأكثر أمانًا.
الرحلات الأوروبية في العصور الوسطى
سبقت حقبة الاكتشافات الجغرافيَّة الكبرى عددٌ من الحملات الأوروبِّيَّة، التي عبرت منطقة أوراسيا -منطقة التقاء قارَّتَيّ أوروبا وآسيا- في أواخر العصور الوسطى. وعلى الرَّغم من حقيقة تعرُّض أوروبا إلى تحدٍّ شديد، تمثَّل في الغزو المغولي الذي هدَّد بتدمير الأراضي؛ فقد كانت الدَّولة المغوليَّة أيضًا مهتمَّة بالرَّوابط التِّجاريَّة عبر القارَّة الآسيويَّة. ومنذ عام 1206م، وفَّرت ما عُرف باسم (باكس مونغوليكا) -وهو مصطلح تاريخيّ وُضِع على غرار باكس رومانا، يصف آثار استقرار فتوحات المغول لسكَّان أوراسيا- الأمن على طُرُق التِّجارة من الشَّرق الأوسط إلى الصِّين.
ومع توفُّر هذا الأمان، استغلَّ الأوروبِّيِّين هذه الحالة للسَّفر إلى الشَّرق، وكان معظمهم من الإيطاليِّين؛ باعتبار أنَّ أغلب التِّجارة بين أوروبا والشَّرق كان يسيطر عليها بشكل أساسي الجمهوريَّات الإيطاليَّة البحريَّة. وقد ساهمت الرَّوابط الوثيقة بين هذه الجمهوريَّات مع بلاد الشَّام في زيادة الاهتمام التِّجاري بدول الشَّرق الأقصى.
السَّفارات بين أوروبا وبلاد المغول
وهناك حركة ظهرت خلال هذه الفترة زادت من رحلات السَّفر بين أوروبا وبلاد المغول، وهي السَّفارات المسيحيَّة المُرسَلة إلى (قراقورم) -وهي مدينة تقع في منغوليا الحاليَّة، وكانت عاصمة إمبراطوريَّة المغول- أثناء الغزو المغولي لسوريا، وقد أدَّت هذه السَّفارات إلى زيادة معرفة الأوروبِّيِّين وتوسيع نظرتهم نحو العالم الشرقي. وكان أوَّل مسافر في هذا السَّبيل هو (جيوفاني بلانو كاربيني -Giovanni Plano Carpini) الذي أرسله البابا (أنوسنت الرابع) إلى منطقة خاجان في منغوليا في عام 1241م، وظلَّ جيوفاني هناك حتى عودته في عام 1247م.
وفي الوقت نفسه، ظهرت بعض السَّفارات الرَّسميَّة الدّبلوماسيَّة بين أوروبا وبلاد المغول، وذلك عندما زار الأمير الرُّوسي (ياروسلاف فسيفولودوفيتش -Yaroslav Vsevolodovich) العاصمة المغوليَّة، وتبعه من بعده أولاده (ألكسندر نيفسكي -Alexander Nevsky) و(أندريه ياروسلافيتش -Andrei Yaroslavich). ورغم أهمِّيَّة هذه السَّفارات السِّياسيَّة؛ إلَّا أنَّه لا يوجد سجلّ تفصيليّ لها في كتب التَّاريخ.
الرحلات الأوروبية الفرديَّة
تبِع هذه السَّفارات بعض المسافرين الأوروبِّيِّين الآخرين؛ بمن فيهم الفرنسي (أندريه دوي لونجومو Andre de Longjumeau) والفلمنكي (غيوم دي روبروك Guillaume de Rubruck)، اللذان وصلا إلى الصين عبر آسيا الوسطى. ولكن أشهرهم هو (ماركو بولو -Marco Polo)، وهو تاجر فينيسي احتفظ بسجلَّات أسفاره في آسيا بين عامي 1271- 1295م، ووصف زيارته إلى فناء الـ(يوان) حاكم (قوبيلاي) في كتاب بعنوان «عجائب العالم»، والذي قرأته أوروبا بأكملها.
وفي عام 1291م، قام الأخوان التَّاجران (فيفالدي the Vivaldi brothers-merchants) بأوَّل محاولة لاستكشاف المحيط الأطلسي؛ إذ أبحروا من (جنوى) بوساطة زوج من القوادس -نوع من السُّفن ذات المجاديف- حتى وصلوا إلى السَّاحل المغربي واختفَوا هناك. أدَّى ذلك إلى تعزيز المخاوف الأوروبِّيَّة من الرِّحلات البحريَّة إلى تلك المنطقة.
ولكن قام بعدها الرَّحَّالة المغربيّ المشهور (ابن بطُّوطة) برحلته الشَّهيرة بين عامي 1325- 1354م، والتي كان مسارها: شمال أفريقيا، وجنوب أوروبا، والشَّرق الأوسط، وآسيا، حتى وصل إلى الصِّين. وبعد عودته، أملى تقريرًا عن مغامراته على عالِمٍ التقى به في تونس. وبين عامي 1357- 1371م، اكتسب كتاب (جون ماندفيل -John Mandeville) عن رحلاته في الشَّرق شعبيَّة هائلة في أوروبا.
وعلى الرُّغم من عدم الثِّقة الكاملة، ووجود بعض الأوصاف الخياليَّة في هذه الكتابات؛ إلَّا أنَّها كانت المُعِين الأكبر لمعرفة الأوروبِّيِّين بالأفكار العامَّة حول بلاد الشَّام، ومصر، وبلاد الشَّرق، وظهور معتقدهم السَّائد بأنَّ القدس هي مركز العالم في هذا الوقت.
العلاقات الأوروبِّيَّة التَّيموريَّة
في عام 1400م، تمَّت التَّرجمة اللاتينيَّة لجغرافيا (بطليموس) من القسطنطينيَّة إلى إيطاليا، وكان ذلك بمثابة إحياء للمعرفة الجغرافيَّة الرُّومانيَّة، وكشفًا حقيقيًّا للأوروبِّيِّين. أعقب ذلك فترة من العلاقات الدُّبلوماسيَّة بين التَّيموريِّين (سلالة تيمورلنك) وبين أوروبا. وفي عام 1439م نشر (فيكولو كونتي) تقريرًا عن رحلته كتاجر مُسلِم في الهند وجنوب شرق آسيا.
وبين عامي 1466-1472م، سافر التَّاجر الرُّوسيّ (أفاناسي نيكيتين -Afanasy Nikitin) من مدينة تيفير إلى الهند، ودوَّن رحلته هذه في كتابه «رحلة إلى ما وراء البحار الثَّلاثة». ولم يكن لهذه الرِّحلات البحريَّة سوى قيمة صغيرة على المدى المتوسِّط؛ فقد انهارت الإمبراطوريَّة المغوليَّة بنفس السُّرعة التي ظهرت بها، وأصبحت طُرُق التِّجارة إلى الشَّرق أكثر صعوبة وخطورة. بالإضافة إلى ذلك، شكَّل انتشار وباء الموت الأسود في القرن الـ14 عقبة شديدة أمام السَّفر والتِّجارة، وكذلك سيطرة الإمبراطوريَّة العثمانيَّة وصعودها، وما شكَّلته كحاجز للفُرَص الأوروبِّيَّة للوصول إلى الشَّرق.