ابتداءً من زينون الفينيقي (٣٢٢ – ٢٦٢ ق.م.)، وصولًا إلى ماركوس أوريليوس (١٢١ – ١٨٠ ق.م.)، مرورًا بكليانتيس وسينيكا وإبيكتوس، قَدَّمت الرواقية -المشتقة من كلمة رواق stoa- نموذجًا لموقفٍ فلسفيٍّ ذي طابعٍ خاص. فأنْ تكون فيلسوفًا معناه أن تحسم خيارك نهائيًا حول المَسلك الذي تريد أن تسلكه في حياتك. وعند هذه النقطة بالتحديد، تتكامل فروعُ الفلسفةِ التي تغدو أشبه ببيضةٍ قِشرتُها المنطق، وبياضها الأخلاق، وصفارها الفيزياء.
نستطيع أن نوجز الفكرة الرئيسية للرواقية على النحو التالي: الطبيعة هي الحقيقة الوحيدة التي يعود فيها كلُّ شيء إلى ذاته باستمرار، وسْط تناغُمٍ كونيٍّ يَصنعُ إيقاعًا نُسمِّيه الحياة. وكما أنّ النتائج تَحكمها الأسباب، فإنّ العالم يحكمه القدَر.
والحال أنَّ الرواقية قد تتبدَّى لبعضٍ -عن غير حق- وكأنها نظريةٌ لاهوتية، بحيث تُشْبه عودة كلِّ شيءٍ إلى الطبيعة عند الرواقيين، عودةَ كلِّ شيءٍ إلى الآلهة عند اللاهوتيين. لكن لا يجوز أن نخلط ما بين كبير آلهة الإغريق الذي كانه زيوس والذي له وحده ابتهل كليانتيس بأدعيةٍ رائعة، وما بين إلهِ التوحيد الإبراهيمي. فالله ذو الألوهية المطلقة يتجسّد طبقًا للنظرية الرواقية في الكون بأسره، وليس في جسدِ نبيٍّ من الأنبياء كما في العقيدة المسيحية. وسواء كان هذا الإله عقلًا يَهِبنا التعقُّل، أو نفسًا تَهِبنا الحياة، فإنَّ ما من شيءٍ إلا ويتحرَّك وفق قوانين الطبيعة التي تقوم مقام القدَر الإلهي المحتوم.
صحيحٌ أنَّ الإنسان لا يعدو كونه كائنًا ضمن مجموعة كائناتٍ أخرى، لكنه وحده من يمتلك عقلًا، لأنه وحده مَن تُشكِّل روحه جزءًا من العقل الكلّي للكون. والحال أنَّ هذه الميزة التي يتمتَّع بها الإنسان هي التي دفعت الرواقيين إلى تطويرِ قانونٍ جديدٍ عن التناغم والتواصل، والذي سيَلقى اهتمامًا لافتًا من بعض الفلاسفة الحديثين.
إنّ حالة الإنسان بوصفه جزءًا من الكل تُحتِّم عليه العيش طبقًا لقوانين الطبيعة، وبِتناغُم تامٍّ معها. ومحكومًا بالعقل، على الإنسان أن يَحكم العالم الذي يُسيِّره القدَر. هذا ما يصنع التناغم.
لكن، لماذا نستسلم للعالم كما هو بدل التفكير في تغييره؟ ببساطة لأنه إلهي. وكيف السبيل للتحرُّر من الألم؟ إنه في أن تكون هادئًا كما أنَّ الله هادئ.
إنّ التناغم مع الطبيعة يقود إذًا نحو السعادة لأنَّه يُوَحِّد الإنسان مع الحياة تحت لواءِ العقل الذي يتناغم بِدَوره مع الطبيعة. وبهذا المعنى تحديدًا، تكون الطبيعة قد اكتملَت على يد الإنسان وبِفَضله.
وعلى الرغم من ذلك، فإنَّ الرواقية ليست فلسفة جبرية. وإذا كنَّا لا نملك خيارَ أنْ نصنع القدَر، فإنّ لنا بالمقابل خيار أن نَقبل أو نرفض. ليس لنا خيار أن نموت، ولا أن نولَد عبيدًا كما كان إبكتيتوس، أو أباطرةً كما كان ماركوس أوريليوس. ولكن لنا خيار كيفية التصرُّف أمام كل ما ليس لنا خيار فيه. فعلى سبيل المثال لا الحصر: ليس لنا أنْ نجعل الهواء يعصف، لكن لنا أن نستفيد منه في أشرعة السفن. لنا أيضًا ألَّا نَقلق من الموت وأن نتجنَّب أولئك الذين يُعذِّبوننا. يستطيع الحكيم أن يختار الموت بدون ألم، ويختار أن يُسلِّم نفسه بملء إرادته لِنَيرون الذي حُكِمَ عليه بالإعدام، كما يستطيع أن يختار تسليم رأسه لسيَّافٍ قد يُخطئ ضرْبته. إذ ليس ثمة قوة في العالم تُجبره على الانخراط في قضية زائفة إنْ لم يكن يريد ذلك. هكذا تُقدِّم لنا الرواقية مفهومًا للحرية المطْلقة وغير المشروطة.
الرواقية هي رياضة للفضيلة. والفضيلة خيرٌ لأنها قوَّة. هذا ما يجعل كل الفضائل تتبدَّى وكأنَّها فضيلةٌ واحدة. أنْ تكون طيّبًا، صادقًا، جميلًا، حُرًّا، محبوبًا، عالِمًا، كاهنًا، نبيًّا، إلهًا، هذا كله واحد. بالمقابل، إنَّ الرذيلةَ ضعفٌ، والأخطاء جميعها متساوية، فليس ثمة خطأ أفدَح من خطأ. إذ كما يَغرق الإنسان في بحرٍ، يَغرق في شِبْر ماء.
الإرادة الضعيفة شرّ.
أيُّ ثَوابٍ آخر، عدا الفضيلة، يمْكن للحكيم أن ينتظر؟ لا شيء. فليس ثمة مدينة في العُلا، ولا حتى حياة بعد الموت. الحكيم هو من يكتفي بذاته. وبِقَدر ما يتحصَّل على التناغم الكامل، يكون سعيدًا. وإذ يبدو المشروع الرواقي بالِغ الصعوبة، فإنَّه يكفي على الأقل أن تتخذ من الحكيمِ مثالًا، ومن الفضيلةِ واجبًا، وعندها تتمكَّن من محاكاة الحكمة.
ترجمة: مايكل عطالله
المصدر:
Dominique Folscheid, Les grandes philosophies. éditions Point Delta, 2009. p.23-24-25