منى كريم شاعرةٌ عراقيّةٌ صدر لها ثلاثةُ دواوين شعريّة باللّغة العربيّة. هي أيضًا مُترجمةٌ وباحثةٌ في مجال الأدب تتركَّز جهودُها البحثيّة على استكشاف آفاقٍ نقديّةٍ جديدةٍ لدراسة الرواية النسوية في شبه الجزيرة العربيّة. حصلتْ منى كريم مؤخَّرًا على زمالةِ ما بعد الدكتوراه من «مركز الدراسات العابرة للمناطق» (بالألمانية: Forum Transregionale Studien) بالعاصمة الألمانيّة (برلين). أجرتْ سلوى بن عيسى مع منى كريم هذا الحوار بغرض الحديث عن بحثها الجاري تحت عنوان «أمّهات طيّبات وأخوات فاسدات: عن الكاتبات العربيّات في الوطن العربيّ» (بالإنجليزية: Good Mothers, Bad Sisters: Arab Women Writers in the Nation).
تقول منى كريم في بداية حديثها: «أحاول طرح التقاطُعيّة كمقاربة لدراسة الأدب العربيّ». «النسويّة التقاطعيّة» (بالإنجليزية: Intersectional feminism) هي مفهومٌ ذائعُ الصيت في الأوساط النقديّة والأدبيّة، صاغتْهُ الباحثة الأمريكيّة كيمبريلي كرينشو (بالإنجليزية: Kimberlé Crenshaw) في عام ١٩٨٩ لوصف وتحليل القمع والاضطهاد الذي تعاني منه المرأة في ضوء العديد من العوامل المُتقاطِعة غير عامل “الجندر”، كالعِرْق، والطبقة الاجتماعيّة، والمجموعة الإثنيّة. على الرغم من الشهرة الواسعة التي اكتسبها هذا المصطلح خلال العقد السابق، لم يتطرَّق أحدٌ إلى تطبيق هذا المفهوم على الحياة في شبه الجزيرة بشكلٍ عام، أو حتى استخدامه في تحليلات الأدب العربيّ بشكلٍ خاص، حسبما ترى منى. فتقول: «تتجذَّر النسويّة في مُناهضَة العنصريّة، وهي فكرةٌ لم تتناولْها النسويّة العربيّة بعد».
في بدايات القرن الواحد والعشرين، ضربتْ تغيُّراتٌ جيوسياسيّة بمنطقةِ شبه الجزيرة، مما أدّى إلى تحوّلاتٍ ثقافيّة جذريّة في الأوساط الأدبيّة. كان من بين هذه التحوّلات أنْ شهدت الرواية النسويّة نهضةً غير مسبوقة -وقد جاء هذا على خلفيّة أحداث الحادي عشر من سبتمبر وحرب العراق. تقول منى:
«بدأت موجةُ التحرُّر التي شهدها الخليج العربيّ والسعوديّة بعد إتاحة خدمات الإنترنت على وجه الخصوص. عندها بدأ ظهور رواياتٍ مثل “بنات الرياض”».
نُشرت رواية «بنات الرياض» للروائيّة -والمُدَوِّنة السابقة- رجاء بنت عبد الله الصانع في عام ٢٠٠٥، وقد وصفها البعض بالنسخة السعوديّة لرواية «الجنس والمدينة» لكانديس بوشنيل (بالإنجليزية: Sex and the City). أدّى نشرُ «بنات الرياض» إلى تفجر سيلٍ إبداعيٍّ في المنطقة لأعمالٍ أدبيّةٍ مُشابِهةٍ، مثل «الآخرون» لصبا الحرز، و«نساء المنكر» لسمر المقرن، اللّتين تصدَّرتا قائمة الروايات الأكثر مبيعًا.
على الرغم من تمحور بحث منى كريم حول الرواية النسويّة المُعاصِرة في الخليج العربيّ على وجه الخصوص، إلا أن المُقاربة التي تنتهجها تنظر إلى تلك الروايات كجزءٍ من سلسالٍ عريقٍ للأعمال النسويّة في الأدب العربيّ. قدَّمتْ الروايةُ كشكلٍ أدبيٍّ -طوال تاريخ النسويّة العربيّة- مساحةً للتنظير النسويّ، كما أثَّرتْ على شكلِ الخطاب العام. «إن قمتَ بدراسة الخليج العربي، ستلاحظُ رجوعَ، حتى الباحثين في علم الاجتماع والعلوم السياسية، إلى الرواية، حيث كانت كل نسويّات الموجة الأولى والموجة الثانية من الروائيّات». من روّاد النسويّة في الستينيّات والسبعينيّات من القرن العشرين فاطمة مرنيسي من المغرب، لطيفة الزيات ونوال السعداوي من مصر. لكن على العكس من كاتبات شمال أفريقيا اللاتي انصبَّتْ كتاباتهن على الطبقة الوسطى ومشكلاتها، أَوْلَتْ كاتبات الخليج العربيّ المُعاصِرات اهتمامهن إلى الجماعات المُهمَّشة.
تقول منى: «كانتْ نقطةُ انطلاقي من اللحظة التي أدركتُ فيها أن التضامنَ النسويّ ليس من المُسلَّمات عكس ما اعتقدت، كوني -شخصيًّا- امرأة بدون جنسية». منى كريم واحدةٌ من «البدون» في الكويت، وهم فئةٌ سُكّانيّةٌ في الكويت لم يتمّ منحهم الجنسيّة الكويتيّة بعد استقلال الكويت في عام ١٩٦١. لا تزال تلك الفئة غير مُعترفٍ بها كمواطنين كويتيّين من قبل الحكومة الكويتيّة حتّى يومنا هذا، مما يترتَّب عليه معاناتهم من التمييز والاضطهاد. «رأيت الكثير من النساء طوال حياتي يعارضْن فكرة منح الأبناء جنسيّة الأم، وأردْن أن تكون المساواة حكرًا على مجموعاتٍ بعينها من النساء. في هذا الضوء، عندما نتحدَّث عن «المرأة العربيّة»، عادةً ما نقصد بكلامنا نساء مُعيّنات يتمتَّعن بالمواطنة وسط طبقةٍ اجتماعيّةٍ بعينها».
من العيوب الجسيمة الأخرى التي وقع فيها الأدب النسويّ المُعاصِر في الخليج العربيّ النزوعُ إلى تصوير واقع القهر بدلًا من مُواجَهته بشكلٍ نقديّ. تُشير منى كريم في ضوء دراستها عشرات الروايات من الخليج العربيّ -من بينها روايات بدرية البشر من السعودية، غالية آل سعيد وفاطمة الشيدي من عمان، وفوزية السالم من الكويت- إلى مدى شيوع الواقعيّة الاجتماعيّة في أدب الخيال العربيّ. يميل أدبُ الخيال العربيّ إلى اختزال الأدب كوسيطٍ لإعادة إنتاج الواقع كما هو، حتى بدون أيّ إبداعٍ في كثيرٍ من الأحيان. وكثيرًا ما نجد أنفسنا -في هذا الإطار الجماليّ- أمام تيمة «الحب المستحيل» بين امرأةٍ عربيّةٍ وحبيبها الأسود كإشارةٍ إلى إشكاليّاتٍ اجتماعيّةٍ سياسيّة؛ أو تيمة استعراض ما تخوضه مجموعةٌ من الإماء السوداوات من تجاربَ صادمةٍ كمقياسٍ للعنف الجندريّ في المجتمع. في المقابل، نُلاحظ انعدامًا شبه كاملٍ للأعمال التي تتناول الفئات المُهاجِرة، على الرغم من أن الجزء الأكبر من الطبقة العاملة في المنطقة هم من المهاجرين غير المُجنَّسين القادمين من جنوب آسيا وشرق أفريقيا.
تستطرد منى قائلةً: «أُطْلِقُ على هذا الجنس الأدبيّ من أدب الخيال مُسمّى «الكولونياليّة الرومانسيّة»، حيث لاحظت انعدام قدرته على التعبير عن التجارب الحياتيّة بكل ما تتَّصف به من تعقيدات. فنجد أن هذا النوع من الأدب يكتفى، في بعض الأحيان، بوصف ما تشعر به المرأة-المُواطِنة في موقفٍ ما، لأن المرأة الحرّة هي الوحيدة القادرة على الزواج من حبيبها الأسود أو الجنوب آسيويّ إن أرادتْ على سبيل المثال. ويتمُّ تصويرُ العنصريّةِ التي يواجهها حبيبُها الأسود على أنها عنصريّةٌ ضدّها هي. من ثَمَّ تُصبح هذه التيمة شكلًا من أشكال مُقاربة موضوعِ العلاقة بين السيد والعبد». على سبيل المثال، نجد أن رواية «النواخذة» (١٩٩٨) لفوزية السالم -وهي قصة امرأةٍ أفريقيّةٍ يتمُّ اختطافُها وبيعُها كأَمَةٍ في الكويت- تأخذ مَنحًى رومانسيًّا: فتنسى الأَمَةُ وطنَها وتُنشئ أسرةً مع سيّدها، معتنقةً بذلك هويّتها الجديدة الكويتيّة. تقول منى كريم: «بذلك تقوم القصّة الرومانسيّة بالتضحية بالأَمَةِ ككبشِ فداءٍ في سبيل التصالُح مع تاريخٍ -ليس ببعيد- من العبوديّة».
تقع معظم تلك الكتب تحت جنس الواقعيّة الاجتماعيّة، أو أدب الخيال التاريخيّ كما هو الحال مع أحدث تلك الروايات. تقول منى كريم:
«أعتقد أنك يجب أن تكون على قدرٍ كبيرٍ من الوعي والطموح السياسيّ إذا ما أردتَ الكتابةَ في أيٍّ من هذين الجنسين الأدبيّين. فلا يمكنك تناول العبودية وهجرة الأيدي العاملة بمجرّد الإشارة إلى الطريقة التي صوَّر بها الأدبُ تلك الفئات، أو باختزال عمقِ تجاربهم لمجرّد بضع وقائع نضالٍ يوميٍّ لشخصيّةٍ خياليّةٍ ما دونَ الخوض في التاريخ الكامن خلف ذلك النضال، ودون مسارٍ أو هدفٍ مُحدَّد من الرواية. هذا ليس كافيًا».
تُرْجِع منى تلك الإشكاليّة -وفقًا لتقديرها- إلى أن جماهيرَ هذا النوع من الأدب لا يتوقَّع من الروائيّات النسويّات أن يخُضن في كلِّ هذه الأمور من الأساس. «ثمّة نظرة متعالية تجاه هؤلاء الكاتبات. يتسابق النقاد لدعم أيّ قصة تمرُّدٍ أنثويٍّ تكتبها امرأةٌ بغضِّ النظر عما يحتويه هذا العمل من عنصريّةٍ أو قوميّةٍ». رواية «مذكرات خادم» (١٩٩٥) لطيبة الإبراهيم خير مثال على ذلك؛ تروي «مذكرات خادم» قصةَ رجلٍ من جنوب آسيا مُصابٍ باضطراب الشخصيّة المُعادية للمجتمع يقع في حبِّ مُديرته الكويتيّة، وينتهي به المطاف بالزواج بها بعد فقدانها الذاكرة إثر صدمةِ موتِ ابنتها في حرب الخليج. «تُصوِّر الرواية شخصيّةَ المُهاجِر كخائنٍ ومُغتصِب. تقوم بذلك بشكلٍ مجازيٍّ من خلال تصوير الدولة كامرأةٍ مُستَضعفةٍ على خلفيّة حرب الخليج. على الرغم من ذلك، لم يرَ النقادُ سوى أن بطلةَ الروايةِ امرأةٌ تقوم بكسر التابوهات بزواجها من خادمها، حتى وإن كان ذلك بدون موافقةٍ منها أصلًا».
لو أردنا البحثَ عن عملٍ أدبيٍّ ما نستدلُّ به، كمثالٍ للكتابات المُناهِضة لهذه النزعة الكولونياليّة، ربَّما نجد ذلك في أعمال منى كريم نفسها: تخاطبُ قصيدة «كوماري» من ديوان «ما أنام من أجله اليوم» شخصيّةً مُتخيَّلةً لعاملةٍ مُهاجرةٍ. تأتي القصيدةُ كردٍّ على كمِّ الإساءة الهائل الذي تتلقّاه العاملات بالمنازل في الخليج، حيث يعملْن كإماء في ظروف شديدة القسوة، كما في العديد من الحالات التي نقلتْها وسائلُ الإعلام الدوليّة مُؤخَّرًا.
تقول منى كريم عن قصيدتها: «كلُّ ما قمتُ به هو أنني نقلتُ تفاصيل تجارب عاملاتِ المنازلِ كما شَهِدتُها في الكويت: كيف تهرب عاملات المنازل من البيوت التي يعملْن بها، وكيف تتمُّ الإساءةُ لهن، وكيف يتمُّ منحهن أسماءً غير أسمائهن الحقيقيّة». تنتهي القصيدة بمُناشَدة كوماري بقتل أسيادها للتخلُّص من العبوديّة، ممّا دفع النقاد إلى اتّهام منى كريم بالتحريض على العنف. تقول منى كريم:
«أحبُّ اللجوءَ إلى استخدام أسلوبٍ مُتطرِّفٍ في الكتابة في بعض الأحيان لاعتقادي أنه كفيلٌ بإشعال الحماسة في نفوس من هم على الهامش، ودفعهم للتفكير والتأمُّل. لن يكونَ بوسعك القيام بهذا إلا عن طريق إرباك القارئ».
في عام ٢٠١٣، نُشرت ترجمة إنجليزيّة لقصيدة «كوماري» في مجلّة «جدلية» جنبًا إلى جنبٍ مع «مانيفيستو ضد المرأة»، وهي قصيدةٌ أخرى مثيرةٌ للجدل من قصائد منى كريم. كتبتْ منى هذه القصيدة الأخيرة «لتفكيك التعميم الذي يُشيّئُ المرأة العربية ويختزلها في شكلٍ نمطيٍّ واحد، وإيضاح مدى الضرر الذي يحدثه هذا التشييء». وتستطرد قائلةً: «كتبتُ «مانيفستو» لدحض مفهوم «المرأة» الذي يختزلنا كلَّنا في كينونةٍ ما واحدة، كما لو كنّا نفس الشخص، متغاضيًا عن عواملَ كثيرةٍ تقاطُعيّة: كالجنسيّة، الطبقة الاجتماعيّة، والعرق». وقد تمَّ تدريسُ كلتا القصيدتين في جامعات عدّة، كما تبنّاها العديدُ من الناشطين في جنوب آسيا.
تسعى منى كريم لإبراز دور الكُتّاب الذين يحاولون تجاوزَ المجازات المُبتذَلة. من ضمن الكاتبات اللاتي لاقين إعجابَ منى؛ الروائيّة السعوديّة ليلى الجهني، والتي تتّخذ من التراث الإسلاميّ نقطةَ انطلاقٍ للحديثِ عن العنصريّة و”الجنسانيّة”، كما نرى في رواية «جاهلية» (٢٠٠٧). كذلك تُثني منى على رواية «الأرجوحة» لبدرية البشر، والتي تتبع أحداثها خُطى الجيل الأوّل من النساء السعوديّات اللاتي تركْن حياة البداوة والصحراء للعيش في المدينة. أمّا عن الكُتّاب الرجال، فتخصُّ منى كريم الروائيّ مرتضى كزار من العراق بالذكر، حيث تتناول كتاباته الثقافة الذكوريّة من منظورٍ مُختلِف.
يرجع جزءٌ كبيرٌ من الأزمة -من وجهة نظر منى كريم- إلى التفاوت الشاسع بين تمثيل المرأة والرجل في مجال النشر في الوطن العربي. فتقول: «هناك فجوةٌ؛ لا تُوجَد مِنصَّةٌ لنا على الرغم من غزارة عدد الكاتبات النساء وضخامة جمهور قُرّائنا. لم يقُلْ أحدٌ أبدًا: «حسنًا، سأقوم بتأسيس دار نشرٍ مُخصَّصٍ لأدب النساء». لم تكتفِ الرواية النسويّة بازدهارِها حديثِ العهد وتصدُّرِها قوائم الكتب الأكثر مبيعًا وحسب، بل تجاوزتْ طبيعتَها الأدبيّة مقتحمةً الساحات السياسيّة والثقافيّة والعامَّة. بذلك يُعدُّ هذا النوعُ من الأدب بمثابة فرصة جيّدة جدًّا للاستثمار الماليّ».
يعتمد الأمرُ برُمَّتِه على الدور الذي تلعبه الكتابة في مجال السياسة، حيث تختم منى كريم حديثَها بقول:
«الكثير من الناشرات والكاتبات يعتبرْن النسويّة تُهمةً. لكن أعتقد أن فوزَ جوخة الحارثي بجائزة «البوكر» العربية سوف يُحسِّن من نوعيّة الفرص المُتاحة للكاتبات العربيّات من الآن فصاعدًا، وسوف تتعدّى تلك الفرص مُجرَّد رغبةِ السلطات أو الغرب في أدبٍ نسائيٍّ خاضعٍ لما يفرضونه من صورٍ نمطيّةٍ وأحكامٍ مُسبَقةٍ على النساء الخليجيّات».