هل لاحظت عزيزى القارئ الرائحة التي تشمها في يديك عند الانتهاء من عَدّ النقود المعدنية؟ ربما تكون قد لاحظت رائحة مماثلة في المرَّات الأخرى التي تعاملت فيها مع أشياء معدنية، فما هو السبب وراء ذلك؟
على الرغم من أنه لكي تكون الجزيئات الكيميائية مسببة للرائحة لابد أن تكون جزيئات متطايرة (Volatile Molecules)، لكن لحُسنِ الحظّ المعادن لا تتطاير ولا تتبخر. وبالتالي فإن الجزيئات المُسببة لرائحةِ العملات المعدنية يجب أن يكون لها مصدرُ آخر غير المعادن نفسها!(1)
وهم الرائحة المعدنية
اكتشف العلماء أن الرائحة المعدنية (Metallic Odour) المنبعثة من الحديد الملامس للجلد هي نوع من أنواع روائح الجسم. حيث وجدوا أن هذه الرائحة الكريهة تأتي من المركبات الكيميائية الموجودة في الجلد، والتي تتحول بلحظة عند لمس المعادن. يقول ديتمار جليندمان (Dietmar Glindemann) من جامعة لايبزيج (University of Leipzig) بألمانيا:
«عندما يناولك صاحب المتجر عملة معدنية، فاعلم أن الرائحة التي تشمها منها هي رائحة جسد صاحب المتجر.»
المادة الرئيسية المسؤولة عن ثُلثِ تركيز هذه الرائحة هي 1-octen-3-one، والتي يصف بعض الناس رائحتها بأنها تشبه رائحة المشروم أو المعادن. وهذا وهم أيضًا، لأن هذه المادة لا تشبه في رائحتها المعادن، بل المعادن المتفاعلة هي التي تشبهها في الرائحة. لقد اشتممنا رائحة 1-octen-3-one تنبعث من المعادن لفترةٍ طويلة، لدرجة أننا اعتقدنا خطئًا أن رائحةَ هذا الجزيء هي رائحة المعادنِ نفسها. ويمكن للبشر مُلاحظة رائحة هذه المادة عند تركيزات منخفضة جدًا، تصل إلى 0.005 جزء في البليون (ppb).(1)(2)(3)
أبحاث جليندمان وفريقه البحثي
بدأ جليندمان دراسة هذا الأمر منذ سنوات، عندما انتابه الفضول بشأن الرائحة المعدنية المُشبعة بالثومِ المُنبعثة من الحديد بعد أن يتم لمسه بواسطة كَفِّ مُتعرقٍ. وجد جليندمان أن الأحماضَ الموجودة بشكلٍ طبيعي في العرق تُحفِزُ التفاعلاتِ بين شوائبِ الكربون والفوسفور الموجودة عادةً في الحديد، وتُنتِجُ جزيئاتِ كريهةٍ الرائحة متطايرة تُسمى مُرَكبَات الفوسفين العضوية (Organophosphines). لكن الرائحة المعدنية التي تَظلُ على يديك بعد لمس الحديد أو النحاس مُختَلِفة عن رائحةٍ المعادن التي يُلامسها الحمضُ في المعمل. يقول جليندمان:
«لقد عذبتني هذه المشكلة لمدة خمسِ أو ستِ سنوات.»
وظَهرَ الحلُ عندما تعاون مع الكيميائيةٍ البيئية أندريا ديتريش (Andrea Dietrich) من الجامعةٍ والمعهد التقني لولاية فيرجينيا (Virginia Polytechnic Institute and State University) في مدينة بلاكسبرج (Blacksburg). فهي كانت تحاولُ فَهْم السبب وراء شكوى الناس، في أغلب الأحيان، من الطعم المعدني للمياه. فقادها استكشاف الطَعم المعدنيّ إلى التفكيرِ في الرائحة المعدنية. حيثُ قام الفريقُ البحثيّ بالتقاطِ الأًبخِرةِ المنبعثٍة من جِلدِ الأشخاصِ الذين أمسكوا أشياءً مصنوعةً من الحديد، ودرسوا التركيبَ الكيميائيّ لهذه الأبخرة. فوجدوا أن الغازاتِ المنبعثةِ تحتوى على عِدةٍ مُركبات، تُسمى الألدهيدات (Aldehydes) والكيتونات (Ketones)، والتي غالبًا ما يكون لها روائح قوية ومميزة.(3)
آلية تكون (رائحة الجلد – الحديد)
لم يعلم العلماء إلا مؤخرًا أن الرائحةً المميزةً للمعادنِ تأتي من المُركباتِ المُتطايرةِ التي يُنتِجها تفاعلُ كيميائيّ بين المعدنِ والزيوتِ الموجودةٍ على الجِلدِ. حيثُ يَصنعُ الجُزيء المتطايرُ النَاتج عن التفاعلِ وهمًا حِسيًا بأن المعدنَ ينتج رائحةً، على الرغمِ من أن المعادنَ ليس لها رائحةُ طبيعيةُ لأنها غير متطايرةٍ. على سبيلِ المِثال، عندما يتلامسُ الحديدُ مع الجلدِ، يُسبب العرقُ تآكلَ بعضِ أجزاءِ الحديد بسرعة، وتُنْتَجُ أيونات Fe+2 التي تتأكسد خلال ثواني إلى أيونات Fe+3. وفي نفسِ الوقتِ تقوم هذه الأيونات مع الأكسجين الموجود في الهواءِ باختزال وتَفْكيك بيروكسيدات الدهون (Lipid Peroxides) الموجودة في الجلدِ إلى جزيئاتٍ جديدةٍ تُسمى الألدهيدات والكيتونات. هذه الجزيئات متطايرة، وهي المسؤولة عن إنتاجِ الرائحةٍ التي يُطْلَقُ عليها الرائحة المعدنية.(1)(2)
تختلف الرائحة من معدن إلى آخر
لأن تكوين هذه المُركّبات ينطوي على عمليةٍ كهروكيميائيّةٍ (Electrochemical Process) – أيّ تَعتمدُ على حركةٍ الإلكترونات – فمِنْ المنطقيّ أن يكون للمعادنِ المختلفةِ قُدراتِ متفاوتة على إنتاجِ الجزيئاتِ المسؤولةٍ عن الرائحةِ. في حالة معدن الحديد (Fe)، يفقد إلكترونين ليُصبِح Fe+2 ومن ثم تبدأ التفاعلاتُ الكيميائيّةُ. فنجِدُ أن القدرةً على فَقْدِ الإلكترونات تختلفُ من معدنٍ إلى آخر، فبعض المعادنِ تتخلى عن الإلكتروناتِ بسهولةٍ أكثر من غيرها. حيثُ ينتج النحاس والنحاس الأصفر (Brass) مركباتٍ ذات روائحٍ تُشبِهُ تلك المنبعثة من الحديد. وينتج الزِنْك والفُولاذُ المُقاومُ للصَدأ (Stainless Steel) روائحَ معدنيةً ضعيفةً فقط، في حين أن الذهبَ، والمغنيسيوم، والنِيكل، والألمونيوم لا تنتج أيّ رائحة على الإطلاق.(1)
لماذا تشبه رائحة الدم رائحة المعادن؟
تفسَّر هذه التفاعلات الكيميائيّة أيضًا سببَ إنتاجِ الدمِ للرائحةٍ المعدنيّةٍ عند مُلامستِه للجلد. حيثُ يحتوي الدمُ على الهِيموجلوبين (Hemoglobin) الذي ينقلُ الأكسجين، ويتواجدُ الحديدُ في الهيموجلوبين إما بصيغة Fe+2 أو Fe+3. ونظرًا لوجودِ أيونات الحديد في الدّمِ، فنجدُ أن نفسَ التفاعلِ الكيميائيّ السابقِ يحدثُ وتُنتجُ مُركباتٌ ذات الرائحة، عندما يلمِسُ الدمُ الجلدَ. كما وجدت دراساتُ أن الحديدَ الموجودَ في الدمِ يمكنه تفكيكَ بيروكسيدات الدهونِ الموجودةٍ في الدم. وتؤكد هذه النتيجة أن الحديدَ الموجود في الدم يمكنه إطلاقَ الرائحة المعدنية على سطحِ الجلد أو في الدمِ نفسِه. ويفسر علماءُ الأحياءِ حاسّة الشمِّ الحساسة والمميزةٍ لدى الإنسان تجاه رائحة (الدم – الحديد – الجلد) كميزةٍ تطوريةٍ أقدم بكثير من استخدام الإنسان للأدواتِ المعدنيّةٍ. فربما كان البشرُ الأوائلُ يستخدمون رائحةً الدمِ المعدنيّةٍ لتتبعِ وتحديدِ مكان الفريسة الجريحةٍ أو رفاقهم من القبيلةِ المصابين.(1)(2)
استخدام الرائحة المعدنية في اكتشاف الأمراض
يعتقدُ الباحثون أن كلَّ شخصٍ يُنتجُ مزيجًا مختلفًا من الجزيئاتِ ذَاتِ الرائحةٍ عندما يُلامس المعدنَ جِلده، وأن هذا المزيج قد يتغير إذَا كان الشخصُ مُصابًا بمرضٍ ما، مثل السرطان. لذا فإنْ تحليلَ الموادِ الكيميائيّةٍ الموجودَةٍ في رائحةٍ الحديدِ، على سبيل المِثَال، قد يُوفِرُ نوعًا جديدًا من طرقِ التشخيص. يقولُ جليندمان:
«نحنُ نعملُ الآن لمعرفةٍ ما إذا كانت الرائحةُ التي يسببها الحديد على الجِلدِ يمكن أن تُمثِلَ بصمة للتعرفِ على الأمراض.»
بناءً على هذه النتائج، يجب على المُجتمعِ الطبيّ التفكير في تطويرِ اختبار الحديد على الجلد، والدم، وأنسجةِ الجسم، لتحديد بصمات معينة لمُركبات الكربونيل المتطايرة واستخدامها كمؤشراتٍ لرائحةِ الجسم، والإجهاد التأكسدي (Oxidative Stress)، والإصابة بالأمراضِ عند كلّ فرد.(2)(3)