إنّ السعي من أجل العظمة والتميز لأمرٌ عظيمٌ وهدفٌ يستحق الكثير من العطاء والجهد، ولكن قد تكون الرغبة للعظمة بمثابة منحدر زلق، فبينما نمتلك جميعًا الحق في أن نعيش حياتنا سعيًا وراء أحلامنا؛ فإن الضغط والعبأَ الذي نضعه على أنفسنا وصولًا للعظمة والتميز قد يؤدي إلى انعدام الأمان والاستقرار، النرجسية ونقصٍ ملحوظٍ في أدائنا وقدراتنا.
كشفت دراسة جديدة حول الكمالية – سمة شخصية فى علم النفس تتسم بكفاح الفرد لبلوغ الكمال ووضع معايير عالية جدًا للأداء، يصحبها تقييمات نقدية مبالغة للذات ومخاوف من تقييمات الغير. وعندما لا يستطيع الكماليون بلوغ أهدافهم؛ فكثيرًا ما تصيبهم الكآبة- الجانب المظلم لهذه السمة، حيث أن الأناس الكماليون هم عُرضَة للموت في سنٍ مبكرة بنسبة تتجاوز الـ(52%) نظرًا للمستويات العالية من التوتر والقلق، وكشفت دراسة أخرى أن بعض الحالات قد تكون عرضةً لخطر الانتحار.
تؤثر الكمالية سلبًا على حياتنا بالإضافة إلى ما نحن قادرون على القيام به من المهام والأنشطة المختلفة مسببة الإجهاد في العمل أو المدرسة مما يقلل من كفائتنا في تأدية واجباتنا، الأمر الذي يتعارض مع طبيعة الكمالية وتحقيق النجاح والتميز، ويطرح ذلك التناقض سؤالًا مهمًا: هل السعى وراء العظمة ينتهي بتحقيقها؟ هل نحن قادرون على الارتقاء إلى سقف توقعاتنا وأحلامنا؟
ينشأ الشباب عادة في مجتمع تنافسي مما يُلقي عليهم بالمزيد من الضغط والتوتر للوصول إلى التفوق والتميز بطريقة تختلف عن البقية، حيث أظهرت دراسات حديثة أن الطموح المفرط للآباء والأمهات تجاه أبنائهم قد يعيق أدائهم، وأن التركيز على إنجاز أبنائهم قد يكون خطيرًا وله عواقب وخيمة في المستقبل. ولا يدرك الآباء أن ما يفعلونه تجاه أبنائهم لتحقيق النجاح؛ هو تعريضهم للمزيد من القلق والضغط النفسي والشك الذاتي، فيبدأ الأطفال في تطوير مفاهيم كعدم الفهم والفشل إن لم يتناسب نجاحهم مع التوقعات التي بناها الأهل مسبقًا، بل إن نسبة كبيرة تقدر بنحو (70%) من الشبان الذين لقوا حتفهم نتيجة الانتحار تعرضوا لضغط من الأهل وشعور متزايد بمطالب تفوق قدرتهم.
على الجانب الآخر؛ فإن المزيد من عبارات المدح والثناء المتكرره لا تقل خطرًا عن السابق، فقد وُجد أن هؤلاء الأطفال ارتفع مستوى النرجسية والأنانية لديهم وزاد شعور عدم الاستقرار وانعدام الأمان الذاتي، كما قلت مستويات التحفيز والأداء، فإذا أخبر أحد الوالدين طفله كم هو عظيم ومتميز دون أقرانه باستمرار؛ فقد يؤدي ذلك إلى نتيجة عكسية، وذلك لشعوره بانعدام قيمته عندما يدرك أن ما يُقال له غير صحيح وأنه لم يتطلع إلى تلك التوقعات التي كُرّرت على أذنيه باستمرار منذ الصغر، وأن الحب والاحترام الزائد للنفس يؤدي إلى نفس نتيجة انعدامهما ليسود جوٌ من عدم اليقين وانخفاض القيمة الشخصية على السطح.
سواء اتبع الآباء المدح والثناء المتزايد أو النقد والدفع المستمر فإن الطفل يجد نفسه غير مقبولٍ ومحبوب لما هو عليه؛ وإنما لما يردده والديه باستمرار، فعندما يجد الطفل نفسه غير مقبولٍ يحاول يائسًا بطرقٍ شتى لإظهار نفسه لينال الاستحقاق والتقدير من الآخرين.
ينشأ الأطفال الذين تعرضوا للضغوط أو المدح المزيف من والديهم ليشعروا أنهم إذا قاموا بفعل شيء وتفوقوا فيه بطريقة ما؛ فإنهم سيحصلون على الحب والقبول ولربما يعتقدون أن هنالك شيءٌ واحد فقط يتميزون به لذلك يتشبثون به بقوة ونتيجة لذلك لا يصلون لمستوى التوقعات حتى وإن حققوا نجاحًا مرة فالضغط سيكون كبيرًا في المرة القادمة نظرًا لشعور الانعدام بالثقة والأمان المصاحب لهم، لذلك يجب التخلص من جذور تلك الصفات المتأصلة داخلهم.
يتبنى الأطفال دائمًا اتجاهات ضارة ويتعلمونها من والديهم أو القائمين على رعايتهم أو يتعلمونها من تلقاء أنفسهم من خلال الصوت الداخلي الحرج الذي يصف عملية التفكير ذاتية التدمير التي يتبعونها.
يكون ذلك الصوت خلال حياتنا وقودًا لانعدام الأمان والاستقرار والضغط النفسي، ويحرك سعينا للكمال في مختلف مجالات الحياة وبغض النظر عما نحققه من نجاح؛ فإن ذلك الصوت لا يهدأ بل يطالب بالمزيد من الكمال والاحترام الذاتي، ولتجنب تلك المخاطر؛ يمكننا أن نسعى جاهدين لرؤية أطفالنا على ماهُم عليه وأن نشجعهم للاعتماد على أنفسهم مع المدح المعتدل لأدائهم الجيد وتشجيعهم على فعل ما يريدونه.