السفسطائيون هم أبناء عصرهم، ولا يمكن تصور ذاك العصر بدونهم، ولا يمكن تصورهم في غير هذا العصر، لأنّه بإلقاء نظرة سريعة على أحوال بلاد الإغريق السياسية والاجتماعية والدينية، سيتضح في جلاء أنّ السفسطائيين لم يخلقوا فلسفتهم من عدم، بل انتزعوها من بيئتهم انتزاعًا، فهم أجلى صورة لعصرهم. فمن أهم الأسباب التي أدت إلى نشوء هذه الحركة الفكرية، هو أنّه بحلول منتصف القرن الخامس وبانتهاء الحروب الميدية والانتصار النهائي على الفرس، تحول ما كان تحالفًا مفككًا بين الولايات الإغريقية ضد الفرس إلى إمبراطورية عظمى ومركزها أثينا، أخذت الديموقراطية تنتشر شيئًا فشيئًا من أثينا إلى باقي الإمبراطورية، وما كان هذه ليحدث لولا ظهور حاكم عظيم هو «بركليز» صديق المفكرين والأدباء وهو الذي كان يجنح إلى إعطاء المزيد والمزيد من السلطة إلى الشعب. وإذا ما كانت الديموقراطية تعني إقامة علاقات سياسية من نوع جديد، حيث أنّ النبلاء والإقطاعيين لم يعودوا ملاك السلطة، فكان لهذا أثره في إضعاف قوة التقاليد الأخلاقية والسياسية القائمة والاجتماعية. وكان مما ترتب على هذا الأمر هو زيادة أهمية الفرد، لاسيما في نظر نفسه، لأنّ النظام السياسي الجديد يتيح لأي شخص الوصول إلى السلطة السياسية، شريطة أنْ يكون مؤهلاً لذلك، وكان من أهم هذه المؤهلات بطبيعة الحال، القدرة على إقناع الشعب في المجالس السياسية والنيابية. ثم الشعور بنسبية الأشياء، فالإغريق مختلفون في القيم فيما بينهم، فلكل ولاية قبل الوحدة تحت راية «أثينا- بركليز» قيمها الخاصة، فضلاً عن الاختلاف الكلي بين الإغريق مثلاً والشعوب الأخرى كالمصريين والفرس، فأسفار «هيرودوت» المؤرخ الإغريقي إلى أصقاع كثيرة خارج اليونان، ووصوله إلى بعض الاكتشافات المثيرة عن معتقدات الشعوب الأخرى وعادتهم وتقاليدهم وسلوكهم، أدى ذلك إلى طرح بعض المفكرين لاسيما السفسطائيون منهم بعض الأسئلة المقلقة، فمثلاً ذكر هيرودوت في إحدى سفرياته، أنّ ملك الفرس «داريوس الأول» الذي أراد أنْ يلقن الإغريق المقيمين في إمبراطوريته درسًا، وكان من عادة الإغريق أنْ يحرقوا موتاهم. فيقول «أبو التاريخ» أنّ داريوس استدعى الإغريق الذين يعيشون في بلاده، وسألهم عن الثمن الذي يرضونه كي يلتهموا آباءهم حين يتوفون. فأجابوه بأنّه لا شيء البتة على ظهر الأرض يمكن أنْ يغريهم بفعل هذا. حينئذٍ استدعى داريوس الكالاتيين «Callatians» الذين يأكلون آباءهم بالفعل، وفي حضور الإغريق بمعونة من يترجم لهم، سأل الكالاتيين عن الثمن الذي قد يرضونه لكي يحرقوا جثث آباءهم حين يتوفون. فكان أنْ تعالت صرخاتهم وناشدوه ألا يذكر مثل هذه الشناعة. وعلى إثر هذه الكتابات التي حملها إليهم أبو التاريخ هيرودوت عن معتقدات وعادات الشعوب الأخرى، جعل من «بروتاجوراس» يلقي الحجر في المياه الراكدة، ويسأل الأسئلة المحرمة فقال: « إذا كانت الشعوب الأخرى تعتقد في أشياء مختلفة عما تعتقده أنت؛ فكيف تعرف أنّ معتقداتك صحيحة؟ بل كيف تعرف أنّ معتقدات شخص ما صحيحة؟ لذلك نادى بعض المفكرين منهم «كارل بوبر» بضرورة التفريق فيما بين «العرف» و«الطبيعة» وذلك في كتابه «المجتمع المفتوح».
ولكي لا نشطح بعيدًا عن سياق مقالنا، نود أنْ نقول أنّ هناك سبب أخير لنشوء حركة السفسطائية، وهذا السبب فكري بحت وخاص بالفلسفات الطبيعية السابقة، فكل الفروض الممكنة قد ذكرت ولم يبق إلا التوفيق، وليس هناك من جديد إلا فيما ندر، ومن جهة أخرى فقد لاحظ «غورجياس» السفسطائي، أنّ كل هذه الفروض أو النظريات السابقة أو أقوال الطبيعيين يناقض بعضها بعضًا. فهذا يقول بالواحد، وذاك بالمتعدد، هذا بالسكون وذاك بالحركة، وهذا يقول بأنّ الأشياء لا تتكون، وذاك يقر بأنّ لها نشأة وفساد. ولمّا لم يكن أي من هذه النظريات أقوى من نظيراتها بصورة قاطعة، فضلوا الاهتمام بشئون البشر أو الإنسان أفضل من الاهتمام بشئون السماء، وهذا لا يمنع أنهم كانوا أصحاب فلسفات أو مذاهب عقلية، بل كان منهم فلاسفة وخطباء وكتاب مسرح وسياسيين وأطباء نفسيين ومعلمين بل وحتى كان منهم السفراء كبروتاجوراس مثلاً حيث قدم إلى أثينا كسفير لبلده أبديرة؛ فكان رفضهم للفسفات الطبيعية بسبب، أنّهم لمْ يكنْ لديهم الوقت الكافي لما اعتبروه نظريات وتأملات عبقرية لكنها غير مقنعة أو مثمرة.
كانت كلمة «سفسطائي» في بداية أمرها تطلق على جميع أنواع الحكماء، والغريب أنّ بعض كتاب القرن الرابع استمر في استخدام هذه الكلمة في الإشارة إلى كل الفلاسفة السابقين حتى طاليس وسولون وفيثاغورس، بل إنّ سقراط أيضًا يأخذ هذا الاسم عند أريستوفانيس، إلى أنْ اقتصر هذا الاسم بأولئك الذين يأخذون مالاً مقابل ما يعلمونه للناس، لاسيما أولئك الذين يعلمون مهارات الجدل والبلاغة والسياسة.
من هم رواد السفسطائية وماهي فلسفتهم ؟؟
أولاً: بروتاجوراس:
تنسب إلى بروتاجوراس كتب عديدة، منها «في الحقيقة»، «في الوجود»، «الحجج القاضية»، «الخطيئة الكبرى». وهناك كتاب آخر منسوب أو لعله عنوان من كتاب آخر له تحت اسم «في الآلهة» أو «عن الآلهة» وهي تقول فيما يخص الآلهة: «فإنّي غير قادر على قول لا لأنهم موجودون، ولا لأنّهم غير موجودين». فعوامل كثيرة تحول دون هذه المعرفة، منها غموض الموضوع، ومنها كذلك قصر الحياة الإنسانية.
وهنا يطرح سؤال:
هل موضوع الشك هو وجود الآلهة؟ أم الاعتقاد بوجودهم؟
وللإجابة على هذا السؤال يجب الرجوع إلى جو النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد، حيث كانت تهمة عدم احترام آلهة المدينة أو عدم الاعتراف بوجودهم كانت توجه غالبًا للمفكرين، وقد تعرض لها أناكسجوراس ويقال أنّ بروتاجوراس قد تعرض لها وقد هرب من المدينة، لكن المدقق للعبارة يحس منها أنّه لا يمس الاعتقاد بشيء، بل موضوعها هو معرفة الآلهة، أو بالأدق معرفة وجود الآلهة، ولعله كان يقصد المعرفة اليقينية التي قصدها بارمنيدس في قصيدته «في الطبيعة».
وهناك شذرة أخرى منسوبة له وهي الأشهر والأهم: «الإنسان هو مقياس كل شيء، مقياس وجود الأشياء الموجودة، ومقياس لا وجود الأشياء غير الموجودة»، وهذه العبارة هي الأساس في الفكر السفسطائي.
لكن من هو «الإنسان» الذي يقصده؟ هل هو الإنسان الفرد؟ أم الإنسان كنوع؟ اُختلف في ذلك، لكن الأرجح أنّ المقصود هو الإنسان كنوع، لأنّ بروتاجوراس يعارض «الإنسان» بكل الوجود، فيكون المعنى هو أنّ الإنسان أو الطبيعة البشرية هو مقياس وجود الأشياء، فبروتاجوراس هو الذي أحدث هذه الثورة الفكرية التي نقلت مركز الثقل من الأشياء إلى الإنسان، فعملية الإدراك المتباينة هي المشكلة التي حاول ديموقريطس أنْ يقف لها على حل حينما رفض الأحكام الذاتية عن الحلو والمر والساخن والبارد وغير ذلك تعتبر محض اعتقادات، فقدم «ديموقريطس» بديلاً “موضوعيًا” لها ألا وهو «الذرات والفراغ»، أما بروتاجوراس فقد قدم حلاً للمشكلة في صورة فكرية مختلفة وصادمة، إذ- وعلى العكس من ديموقريطس- تمسك بـ «الذاتية» بدلاً من رفضها، فما أدركه هو حقيقة بالنسبة لي، وما تدركه هو حقيقة بالنسبة لك؛ إذن فليس هناك حقيقة واحدة للعالم المادي، بل هناك عدة حقائق للوجود فكل ما يدركه أي فرد هو حقيقة بالنسبة له. ويعرف هذا النوع من وجهات النظر بـ «النسبية».
ثانيًا: غورجياس:
هو الثاني في الأهمية بعد بروتاجوراس، وقد اشتهر بالخطابة، وقد نسب إليه كتاب «في الطبيعة» أو «في اللاوجود أو في الطبيعة». ومنه: «لا شيء موجود، وإنْ وجد شيء فلا يمكن أنْ يعرف، إذا أمكنْ أنْ يعرف فلا يمكن نقله للغير»، وفي قوله لا شيء موجود تابع فيه الفلاسفة الإيليين الذين أنكروا وجود الأشياء التي تقع تحت الحواس، فالحواس خداعة، وفي النقطة الثانية وهو عدم معرفة الأشياء الموجودة، لأنّ ذلك سيحدث عن طريق الحواس، وهى تختلف بدورها من شخص إلى أخر، لأنّ لو هناك مثلاً شخصًا مصاب باليرقان سيرى كل الأشياء باللون الأصفر، ولا معنى لقولنا هنا أنّ الأشياء في حقيقتها ليست صفراء، فإنّها تبدو صفراء لهذا وبلون آخر لذاك فهذا هو الأدق.
ثالثًا: هيبياس:
كان رجلاً موسوعيًا بحق، لأنّه كان من الناحية العملية مستعدًا لتدريس أي شيء، بل ولم تقف مواهبه عند التدريس فحسب، بل إنّ أفلاطون قد روى أنّ هيبياس قد تباهى عندما ظهر في الألعاب الأوليمبية التي تقام عند جبل أوليمبوس ليلقى بعض قصائده، فقيّم نفسه قائلاً: «لم أجد قط رجلاً يتفوق عليّ في أي شيء».
رابعًا: أنتيفون:
أما أنتيفون، فهو أحد السفسطائيين الأكثر تواضعًا من هيبياس، بَيْدَ أنّ كلماته أحيانًا مفعمة بالتشاؤم، وله كتاب «في الحقيقة»، وقد عثر بمدينة الفيوم بمصر بردية تحمل بعض شذراته. وكانت فكرته الأساسية هي أنّ «العدالة هي اعتداء المواطن على شرائع المدينة التي يعيش فيها، فإذا كان الأمر كذلك فأفضل سبيل يسلكه المرء موافقًا للعدالة أنْ يخضع لنواميس المدينة….»، فقد كانت فكرته الأساسية التي نادى بها تتحدث عن الأخلاق وتحديدًا ماهية العدالة، فإليك مثلاً إذا كان الإنسان فاضلاً ولا يجور على حق غيره، فإنّ الالتزام بالقوانين قد يضر مصلحته الشخصية، فمثلاً إذا ظلم رجل رجلاً، قد يلجأ المظلوم إلى القانون بدلاً من الانتقام، وفي هذه الحالة قد لا يعاقب المخطئ لبراعته في استخدام الحجج مثلاً، فغالبًا النصر يذهب إلى من لديه قدرة عظيمة على الإقناع. لذلك هل إتباع القانون هنا يعتبر عدالة؟ وقد قال أنتيفون أيضًا «معظم الأشياء العادلة من الناحية القانونية معادية للطبيعة»، وهنا وردت مشكلة سياسية كانت قد أقلقت بال سياسيو هذا العصر، فما هو الأجدر بالإتباع: القانون؟ أم الطبيعة؟ أو بمعنى آخر: حكم المجموع أم رغبة الفرد وقدرته؟ كان في الجواب، رأي يقول أنّ الأجدر بالإتباع هو «القانون»، وهذا رأي سوف يؤيده سقراط، أما السفسطائيون فمالوا إلى العكس، فإذا ما اتبع الإنسان ما تمليه عليه الطبيعة فسيفعل ما يُمكنّه من النجاح وما فيه أكبر قدر من النفع بالنسبة له. فالقانون غالبًا ما يسعى إلى كبح مصلحة الفرد لصالح مصلحة المجموع.
خامسًا: بروديقوس:
يقال أنّه أذكى السفسطائيين وأفضلهم سيرة، ويقال أيضًا أنّه علم سقراط اللغة في مجال المفردات واشتقاقات الألفاظ، وقد ألّف كتابا سماه «في الطبيعة»، غير أنّه لم يصلنا منه شيئًا للأسف، وله آراء في الأخلاق، وكان يرى أنّ الخوف من الموت أمر غير معقول طالما أنّ الموت لا يهم لا الأحياء ولا الأموات، وأنّ الموت شيئًا بالنسبة لنا، فحيث نكون لا يكون الموت، وعندما يكون الموت لا نكون نحن.
وبهذا الأخير يكون قد انتهى الجيل الأول من رواد السفسطائية ليبدأ الجيل الثاني بـ:
أولاً: تكاليكليس:
وهو أحد تلامذة غورجياس وهو الذي تحدث عن قانون الحق للأقوى، أي أنّ الأخلاق والقوانين من عمل الضعفاء من الناس، وهم الأغلبية في المجتمع ليكبحوا جماح الأقوياء فيطيلوا الكلام عن العدالة، وما إلى ذلك من النظريات الأخلاقية للتقليل من سيطرة الأقوياء فقط؛ لذلك كان ينادي بنبذ القانون ويدعوا الناس إلى حياة الفوضوية.
ثانيًا: تراسيماخوس الخلقدوني:
هو رائد الجيل الثاني من السفسطائيين وخطيبهم الأعظم، وكانت له آراء في القانون متباينة مع آراء كاليكليس، إذ كان يرى أنّ القانون يقف بجوار الضعفاء.
ثالثًا: كريتياس:
اشترك في الحياة السياسية، وكان أحد الطغاة الثلاثين الذين أطاحوا بالديموقراطية.
وكان هناك سفسطائيين آخرين بَيْدَ أنّه لم يصل أي شيء من أعمالهم. كـ (أوتيديموس، دينوسيدروس، ليكوفرون، سيداماس).
إنّ الصورة الذهنية السيئة التي التصقت بالحركة السفسطائية، كان سببها سقراط وأفلاطون وأرسطو، فكان أفلاطون يكرس جهده لتشويه سمعتهم والافتراء عليهم بالكذب أحيانًا، فلا تحكم على تلك الحركة بمحاورات أفلاطون، فالحق أنّ هذه الحركة الفكرية كانت تبشيرًا بعصر تنويري حاسم في تاريخ الفكر الإنساني، وأنّهم أول من شكّ في قيمة المعرفة الإنسانية ونقدوا وسائلها، فلقد كانت محاولتهم هي أول محاولة إنسانية لعودة العقل إلى ذاته وانعكاسه على نفسه. وهذه الكراهية التي تعرضوا لها لا من غمار الناس وحدهم، بل من أفلاطون ومن سائر الفلاسفة اللاحقين، إنّما هو بسبب تفوقهم العقلي، فالبحث عن الحقيقة حين يصدر عن إخلاص تام وبعيدًا عن الأهواء، لابد أنْ يتبعه غض النظر عن الاعتبارات الخلقية، وكان السفسطائيون على استعداد أنْ يتابعوا الحجاج حيث تسوقهم الحجة، وكثيرًا ما ساقتهم الحجة إلى التشكك. لكن وماذا عن النقد الذي وجهه أفلاطون وأنصاره لهذه الحركة؟ هل كان نقدًا مستحقًا؟ ليس صحيحًا أنّ منتقدي السفسطائية رأوا أنّ الجدال والإقناع لا يجب تنميتهما، فقد كتب أرسطو نفسه أقوى المقالات تأثيرًا عن البلاغة، وذكر فيها ما تعلمه من غورجياس من جدال، وذكر ذات مرة أنّه يجب أنْ نكون قادرين على استخدام وسائل الإقناع في كلا الاتجاهين، ليس لكي نتمكن من الإقناع بشكل علمي على كلا الطرفين (فلا يجب ألا نقنع الناس بما هو باطل) ولكن لكي نرى الحقائق بوضوح، وحتى نتمكن من دحض حجج من يجادلون بالباطل.
ثمة عوامل أخرى تقف خلف هذا النقد، قد يكون من ضمنها العجرفة، فقد كان أفلاطون أحد النبلاء، وهذا على العكس من بركليز وعصره عصر الديموقراطية، وكانت مبادئ السفسطة تنادي بالمساواة، والتي تقول أنّ كل إنسان يمكنه أنْ يتعلم الحكمة ويتحلى بالفضيلة ويعد لأداء دور مهم في الحكومة إذا كان لديه المال المناسب لاستئجار معلم سفسطائي فحسب؛ لذلك شبّه أحد رفقاء سقراط السفسطائيين بالعاهرات لأنّهم مستعدون لبيع خدماتهم لمن يدفع ثمنها. لكن هناك شيء أكثر ألمًا لدى أفلاطون وهو ما جعله يقسوا في نقده للسفسطائيين، هو إعدام سقراط، فقد حمّل أفلاطون السفسطائيين هذه المأساة بمسئولية غير مباشرة، فكان أفلاطون يرى أنّ التهم التي وجهت لسقراط من إفساد عقول الشباب لأنّه «جعل الحجة الأضعف تغلب الحجة الأقوى، وكان يُعلم الآخرين أنْ يحذو حذوه» ناتجة عن سمعة السفسطائيين، وكان رجل أثينا العادي في ذاك الوقت لم يكن يملك أدوات التفريق بين أسلوبي سقراط والسفسطائيين، كل ما عرف عنه أنّه كان يجادل الناس في الشوارع، فبدى سقراط وكأنّه سفسطائيًا وحسب في نظر الرجل العادي، لذلك ولإنقاذ سمعة سقراط بشكل خاص وسمعة الفلسفة بشكل عام، كان على أفلاطون أنْ يفرق أو يفصل بين سقراط والحركة السفسطائية، فقال أنّ سقراط رجل الفضيلة، بينما كان السفسطائيين قومًا فسدة أو على الأقل يسببون الضرر حيث يحلّون، وما من شك أنّ هناك ممن نُسب إليهم كانوا ذوي أخلاق سيئة بَدُو كمحتالين، بَيْدَ أنّ هؤلاء لم يتعرضوا لنقد أفلاطون اللاذع لشخصهم إلا نادرًا.
أثر السفسطائية على الفلسفات الحديثة:
في نهايات القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين، عاد فكر السفسطائيين وبقوة، لاسيما لدى «فريدريك نيتشه» الذي تحدث عن إرادة القوة وأنّ الحياة بطبيعتها توّاقة إلى الازدهار والانتشار، فالحق أنّها إرادة قوة وليست إرادة حياة فحسب، فضلاً عن نقده اللاذع للدين والعادات والقيم والثقافات السائدة، فقد قسم المجتمع والناس إلى أقوياء ولهم ثقافتهم وقانونهم، وضعفاء ولهم ثقافتهم وقانونهم، تمامًا مثلما فعل سلفه السفسطائي «تراسيماخوس»، وقسم الأخلاق أيضًا إلى أخلاق الأقوياء والضعفاء. ثم جاءت الفلسفة «البراجماتية» في نهاية القرن التاسع عشر أيضًا، مع مجموعة فلاسفة سموا أنفسهم بالبراجماتيين، طوروا فكرة أنّ الشيء المهم في المعتقدات فائدتها العامة ودورها في الحياة، واوضع البرجماتية «وليم جيمس»، ورغم أنّ وليم جيمس لم يتوصل إلى أنّ الحقيقة نسبية، فقد رأى أنّ أفضل طريقة لتحديدها تُبنى على المنفعة بالمعنى العام لها. فالبرجماتية ترى أنّ الحقيقة هي في صميم المعرفة الإنسانية، وأنّ المعرفة ألة أو وظيفة في خدمة مطالب الحياة، وأنّ صدق القضية يقاس بمدى نفعها للناس. وكان «شلر» وهو أحد المؤسسين الثلاثة للبرجماتية أو النفعية، كان من عادته أنْ يقول عن نفسه إنّه تلميذًا لبروتاجوراس.
السفسطائية في العالم الإسلامي:
عرف المسلمون اسم السفسطائية، كما عرفوا مذاهبها، ووضعوا السفسطائيين تحت اسم «مبطلو الحقائق»، وعرفوا شكهم في العقليات والحسيّات، واعتبارهم الوهميات فقط هي مقياس المعرفة الإنسانية، وقسموا مذاهبها على النحو التالي:
- مذهب “العِنديّة”، وهو مذهب بروتاجوراس.
- مذهب “العنادية”، مذهب غورجياس.
- مذهب “اللاأدرية”، وهو مذهب بيرون- لعله أوطيفرون-.
وقالوا: إنّ قومًا يظنون أنّ السفسطائية قومٌ لهم نحلة ويتشعبون إلى ثلاث طوائف:
- اللاأدرية، وهم الذين يقولون: نحن شاكون، وشاكون في أنا شاكون.
- العنادية، ويقولون: ما من قضية بديهية أو نظرية إلا ولها معارضة، أو مقاومة مثلها في القوة والقبول عند الأذهان.
- العندية، ويقولون: مذهب كل قوم حق بالقياس إليهم، أو باطل بالقياس إلى خصومهم، وقد يكون طرفا النقيض حقًا بالقياس إلى شخصين، وليس في نفس الأمر شيء بحق؛ بل إننا نجد مصدرًا من أقدم المصادر وهو أبو منصور الماتريدي يتلكم عنهم فيقول: «لما وجدنا الإنسان يعلم شيئًا، ثم يبطل، ويجد لذة ثم يزول ويهلك هوام البر في البحر، والبحر في البر، ويُبصر الخفاش في الليل، ويعشى بالنهار، ثبت أنّه لا يصح علمًا، وإنّما هو اعتقاد لا غير، وإنْ اختلف عن اعتقاد غيره».
وذهب بعض المؤرخين إلى أنّ منهج الجدل عند المعتزلة هو أشبه بمنهج السفسطائيين، وهناك من حاول أنْ يربط بين منهج «النّظام» وتلميذه الجاحظ بمنهج السفسطائيين.