السياسة الاقتصادية الحكومية بين الماضي والحاضر

السياسة الاقتصادية الحكومية بين الماضي والحاضر

تعريف السياسة الاقتصادية

تُعرّف السياسة الاقتصاديّة الحكوميّة (Governmental Economic Policy) أو السياسات الحكومية المالية Fiscal policy أنها كافة التدابير التي تحاول الحكومة من خلالها التأثير على الاقتصاد الوطني فيها، وتنعكس تلك التدابير في بنود ومكوّنات الموازنة العامة للدولة، فالسياسة الاقتصاديّة ما هي إلا ترجمةٌ لأهداف الدول الاقتصاديّة، التي تقوم بها من خلال ثلاثة وظائف أساسية هي: وظيفة التخصيص، ووظيفة الاستقرار ووظيفة التوزيع.

السياسة الاقتصادية بين الماضي والحاضر

على مرّ العصور حدثت تغيّرات عديدة على الوظائف الاقتصاديّة للميزانية العموميّة. في القرن الـ 19، كانت وظيفة التخصيص تحتل المقام الأول في ميزانية الدول.  وكانت مهمة الحكومة الأساسيّة هي زيادة الإيرادات وتقليل المصروفات لتحقيق الكفاءة الاقتصاديّة، ولم تكن للدول سوى مهماتٍ اقتصاديّةٍ محدودة، تاركةً سائر القرارات الاقتصاديّة الأخرى بيد القطاع الخاص، ليؤديها بشكلٍ أفضل من الحكومة.

ولكن مع بداية القرن العشرين، تغيّرت السياسات الاقتصاديّة التي تتبناها الدول وأصبح لوظيفة التوزيع أهميةٌ متزايدة. وتدخلت الدول لتحقيق العدالة عن طريق اتباع سياسات جديدة تراعي العدالة الاجتماعية، واستخدمتْ العديد من الدول نظام الضرائب المتدرّجة التي تراعي الفقراء ومنخفضي الدخل لتحقيق نوع من العدالة الاجتماعيّة.  أما في فترة ما بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية وفي الخمسينيّات والستينيّات من القرن الماضي، كان اهتمام الدول مُنصبّاً على تحقيق الاستقرار الاقتصاديّ، وكانت السياسات الاقتصاديّة موجّهةً نحوهُ مع مراعاتهم لتحقيق العدالة والمساواة من خلال اتباع سياساتِ النظم الضريبيةِ التي سبق ذكرها،  ولكن في فترة السبعينيّات والثمانينيّات عادت الكرّة إلى الاهتمام مرة أخرى بوظيفة التخصيص على حساب وظيفتي الاستقرار والتوزيع اللتان أصبحتا أقل أهميةً في الموازنة العمومية ويُخصص لهما مقدار أقل من التمويل الحكومي.

خلاصة القول أن اختلاف الظروف الاقتصاديّة والسياسيّة هو الذي يؤدي إلى تغيير السياسة الاقتصاديّة التي تتبعها الدول، وتتغير بناءً عليها بنود الموازنةِ العمومية وحجم الإنفاق عليها.

الموازنة العامة

حتى تستطيع الموازنة العامة تنفيذ الأهداف الخاصة بسياسة الدول الاقتصاديّة عليها أن تقوم بتقديم مجموعة من المهام، من أهمها:

 وظيفة التخصيص

يُقصد بالتخصيص أن تحدِد الحكومةُ أوجه الإنفاق للإيرادات التي ستحصل عليها، وذلك عن طريق تخصيص الجزء الأكبر من الدخل القومي الذي تحصل عليه الحكومة وتوجيهه للإنفاق العام، حتى يكون لقرار التخصيصِ أهميةٌ أكبر من الناحية السياسية والاقتصادية. وذلك عن طريق وضع الأولويات التي يجب أن تقومَ الدولُ بتغطية تكاليفها، حتى لا تصل الدول إلى مرحلةٍ تجد فيها أن إيراداتِ العامةِ من الضرائب وغيرها من الموارد الاقتصادية غير كافية لتغطية كافة بنود الإنفاق العام، وتجد نفسها مضطرةً في حالةٍ عجز، فتَعمَد لتغطيته عن طريق الاقتراض.

السلع العامة

في بعض الحالات يجب على الدول أن تقوم بإنتاج بعض السلع التي لا يقوم القطاع الخاص بإنتاجها، سلعٌ ذاتُ منفعةٍ عامةٍ تخضع لنظريات اقتصادية تُعرف باسم نظريات «المنافع العامة». فهناك بعض السلع التي يحتاجها الأفراد ولا يمكن توفيرها من خلال السوق الخاص، كالمنارات كأحد الأمثلة التقليديّة،  فلا يوجد أي مالك سفينة يرغب في تمويل تكاليف بناء المنارة، من ناحيةٍ أخرى، إذا تم توفير منارةٍ لمالك سفينةٍ واحد، فيمكن إتاحتها للجميع دون أي تكلفة إضافية، بل على العكس ستكون متاحةً للجميع، لعدم وجود وسيلة عملية تمنع السفن من استخدامها، حتى لو رفض المستفيدون منها دفع ثمنها، لذلك فالطريقة العملية الوحيدة لتقديم مثل هذه السلعة تكون من خلال الحكومة التي تتولى جمع الضرائب من الأفراد وتجمعيها ومن ثم الانفاق على بناءها لتكون سلعةً عامةً يستفيد منها الجميع، بالإضافة إلى مشاركة الجميع في توفير المبالغ اللازمة لبنائها.

وهناك العديد من الأمثلة على السلع العامة التي يشارك الجميع بتمويلها، بينما تقوم الحكومة بتقديمها، كالطرق وبناء الجسور وبناء المدارس والمستشفيات العامة.

سلع الاستحقاق

يشير مفهوم سلع الاستحقاق (Merit Goods) إلى السلع العامة التي يجب أن تقوم الحكومة بتوفيرها مجانياً أو بثمن رمزيّ لأنها ضروريةٌ جداً للحياة بهدف التشجيع على استهلاكها، ومن الأمثلة عليها السلع المدعّمة والخدمات الاجتماعية التي تهدف لمساعدة الفقراء في الغالب، وخدمات الرعاية الصحية لكبار السّن، وقد تشمل أيضاً خدمات تنمية المجتمع بتوفير خُططِ التدريب وبرامج التنمية الحضريّة. فلو تُركت هذه السلع للقطاع الخاص لتسببت في ظهور مشاكلٍ عديدةٍ أبرزها الاستغلال وعدم المساواة.

تحليل العائد والتكاليف

عملية إعداد الموازنة العامة ليست سهلةً كما قد يتصور البعض، فهي عمليةٌ معقدةٌ يتخللها التفاصيل، واتخاذ قرارات بشأن كيفية تقسيم الموازنة العامة بين المجموعات المختلفة من الأنشطة العامة ليس بالأمر الهيّن. إذ إن الحكومة تقوم بتحديد أوجه الإنفاق المختلفة مسبقاً عن طريق القيام بتحليل التكلفة والعائد (Cost Benefit Analysis)، حتى تستطيع مقارنة التدفقات المالية المتأتّية لها والمنافع المستقبلية لها وبالتكاليف المستقبلية المرتبطة بالأنشطة المستقبلية التي ستُنفق عليها، فإذا كانت نسبة الفوائد إلى التكاليف مُرضية، اتخذت قراراً بوجوب تنفيذ هذه الأنشطة. أما إذا كانت نتيجة التحليل غير مرضية فيجب إلغاء الأنشطة واستبدالها بأنشطة لها أولويات أكبر حسب نتائج تحليل التكلفة والعائد لها. وهذا الأمر غاية في الصعوبة ويتطلب وقتاً كبيراً في الإعداد.

الملكية العامة والخصخصة

نتيجةً للسياسات الحكومية المختلفةِ في القرن الماضي التي كانت تهدف إلى توفير مصادر تمويل الموازنة لتقديم السلع والخدمات العامة، ظهر قطاعٌ حكوميّ كبير، يمتلك منشآتٍ اقتصاديةٍ متنوعة، ويعمل فيها عددٌ كبير من الموظفين. ثم بدأت تظهر مشاكلٌ إداريةٌ وإنتاجية تسببت في تحوِّله إلى عبءٍ كبير على الدولة، وبدأت الحكومات تتخذ نهجًا جديدًا في التعامل معه، وبدأت ببيعه إلى القطاع الخاص لتصل إلى الكفاءةِ في الاستخدام وتفويرٍ للسلعِ أكثرَ جودة. وانتهجت الدول سياسة الخصخصة (Privatization)، وقامت ببيع جزءٍ كبيرٍ من ممتلكاتها للقطاع الخاص، أو تشاركت معه في إدارتها، مع تركيزها على حقوق العاملين. وحصلت على إيراداتٍ كبيرةٍ تموّل عجز موازنتها العامة، التي كانت ضعيفة وهشّة نتيجة السياسات الاقتصاديّة السابقة.

خاتمة

بين الماضي والحاضر تعددت السياسات الاقتصاديّة التي تبنّتها الدول في توفير مصادرٍ لتمويلِ أنشطتها الاقتصاديّة المختلفة، فكانت تسعى إلى تخصيص الإيرادات اللازمة لتغطية نفقات القطاع العام، مع مراعاة تحقيق العدالة الاجتماعية واستقرار الاقتصاد. إذ يمكن القول أن السياسة الاقتصادية ديناميكيةٌ تتغيرُ بتغيرِ الظروف والإمكانيات. ولكن تبقى حقيقةٌ واحدةٌ ثابتةٌ لا تتغير تتمثل في أن للدولة دورٌ محوريّ في تسيير عجلة الاقتصاد.

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي