كان (رينيه ماجريت- Rene Magritte) فنانًا سرياليًا معروفًا عالميًا في كل العصور، إلا أنه لم ينلْ شهرته تلك حتى الخمسينيات من عمره، عندما تمكَّن أخيرًا من الوصول إلى شكل من أشكال الشهرة والاعتداد بعمله. وصف رينيه ماغريت لوحاته قائلًا: «لوحتي عبارة عن صور مرئية لا تُخفي شيئًا؛ فهي تُثير الغموض، وعندما يرى المرء إحدى صوري، يسأل المرء نفسه هذا السؤال البسيط، ماذا يعني ذلك؟ هذا لا يعني شيئًا، لأن الغموض لا يعني شيئًا، إنه أمر مجهول».
بدايات رينيه ماجريت
وُلد “رينيه ماجريت” في عام (1898)، وكان أبوه من الأثرياء أصحاب المصانع، أما أمه السيدة (ريجينا ماجريت- Régina Magritte) فقد قامت بالانتحار غرقًا في عام (1912) في نهر سامبري.
قرر رينيه الدراسة في (أكاديمية الفنون الجميلةAcademie des Beaux -Art) -التي كانت موجودة في بروكسل- في الفترة ما بين (1916 – 1918)، لكنه غادر المدرسة في النهاية، لأنه كان يعتقد أنها مضيعة للوقت. وبعد ذلك، قدم رينيه لوحات تنتهج المدرسة التكعيبية بابلو بيكاس وكانت تحظى بشعبية كبيرة في ذلك الوقت.
وفي عام (1922)، تزوج رينيه من (جورجيت بيرجر- Georgette Berger)، ولكي يعول نفسه وزوجته، تولَّى رينيه عددًا من الوظائف الصغيرة، بما في ذلك رسم الورود لشركة تصنع ورق الحائط.
وخلال الفترة الأولية المبكرة من حياته المهنية وبعد فترة قصيرة من زواجه، أمضى رينيه ماغريت وقت الفراغ الذي كان في صنع أشكالٍ فنية وبدءِ عددٍ من أعماله، وكانت تلك الفترة من حياته الذي أدرك فيها أنه يستمتع بكونه فنانًا سيرياليًا أكثر من أي إنسان آخر، وكان (القاتل المهدَّد- The Threatened Assassin) أحد أوائل أعماله في عام (1926)، والذي احتوى عدة عناصر نجدها في الكثير من أعماله اللاحقة.
(الفارس المفقود- The Lost Jockey) كانت قطعة أخرى قدمها في عام (1925)، وعرضت أيضًا عناصر أخرى لهذا الشكل الفني الذي يقدمه رينيه ماجريت، ومن المفيد أن نعرف أنه عَمل على تلك اللوحة مجددًا وأضاف إليها عددًا من المتغيرات وغَيَّر في التنسيق الأساسي، وكل ذلك لإحياء ما يريد المشاهد مشاهدته في تلك اللوحة.
وفي عام (1927)، قدم رينيه ماجريت معرضه الفني الأول المنفرد، والذي أُقيم في (جاليري لا سينتوري- Galerie la Centaurie) في بروكسل، وخلال هذه الفترة من حياته، كان ينتج هذا الفنان ما يقرب من قطعة واحدة من الأعمال الفنية كل يوم؛ لذلك قدم المعرض عددًا متنوعًا من التحفات الفنية والأعمال الفريدة ذات الأسلوب المختلف، لكن ومع الأسف أمطره النقاد بالتعليقات اللاذعة، مما أدى لفشله، وأُصيب رينيه بالاكتئاب ساعتها، فقرر السفر إلى باريس.
باريس والسيريالية
في عشرينيات القرن الماضي، تأثرت الحركة الأدبية، والفكرية، والفنية بالمدرسة السريالية، وذلك في حد ذاته يرجع لتأثر الحركة الثقافية بكتابات عالم النفس سيجموند فرويد التي قامت بثورة ضد قيود المنطق العقلاني، ومن ثم، فقد رأى المثقفون أن قواعد المجتمع الحالية -ساعتها- هي قواعد قمعية، كما نجد أن السريالية تضم أيضًا أيديولوجية ماركسية تتطلب منهجًا عادلًا للتاريخ كمنتج للتفاعل المادي والمصالح الجماعية. وأصبح العديد من الفنانين السرياليين المشهورين لاحقًا رموزًا للثقافة المضادة للقرن العشرين مثل الماركسي تشي جيفارا.
بعد انتقاله إلى باريس، أصبح رينيه ماغريت صديقًا للفنان (أندريه بريتون- Andre Breton) -مؤسس الحركة السريالية- وأصبح شخصية بارزة في حركة السرياليين المرئيين.
وفي نفس الوقت تقريبًا -وتأثرًا بلوحات (جورجيو دي شيريكو- Giorgio de Chirico) من عام (1910) إلى عام (1920)- بدأ مارجريت برسم أغراض مُثيرة “إيروتيكية” تتناقض مع ما حولها من محيط أقرب لنسيج الأحلام، ويمكن وصف أعمال رينيه ماجريت في هذه الفترة بالمزيج بين ما يقدمه (جون ميرو- Joan Miro) من مرئية تلقائية للحقيقة وما كان يقدمه الإسباني (سيلفاور دالي- Salvador Dali) من سيريالية وهمية.
أعمال رينيه ماجريت السيريالية الأولى
بالنسبة إلى ذلك الرسام الغامض، فإن الشيء المخفيّ أكثر أهمية مما هو متاحٌ للعرض، يبدو هذا صحيحًا ما إن ننظر لمخاوفه لطريقة تصويره للأشياء، ونجد ذلك واضحًا في أعماله، كأنْ يلف جسدًا بالكتان، أو يبعثر الستائر، أو الحوائط، أو يُخفي الرؤوس تحت القلنسوات، كل تلك العناصر لا تسمح بإخفاء مشاعره فقط، بل كانت طريقته لتحقيق تأثير الغربة والشعور بالانعزال، وقد استخدم رينيه ماجريت هذه التقنية في مرحلة مبكرة للغاية، نجدها على سبيل المثال في بعضٍ من أعماله الرئيسية مثل (اختراع الحياة، والعشاق، والقصة المركزية – Invention of Life, The Lover, and The Central Story).
الحرب
خلال الاحتلال الألماني لبلجيكا في الحرب العالمية الثانية، بقي ماجريت في بروكسل، مما أدى إلى انفصاله عن زميله الفنان أندريه بريتون، وبعد تلك القطيعة، تبنى رينيه ماجريت لفترة وجيزة أسلوبًا ملونًا وزاهيًا في الفترة (1943 – 1944)، ذلك العام كان فترةً استراحية تعرف باسم (فترة رينوار- Renoir Period)؛ كرد فعل على مشاعر الاغتراب والعزلة التي جاءت مع العيش في بلجيكا المحتلة بواسطة الألمان.
وخلال هذا الوقت، اضطر رينيه لدعم نفسه ماديًا عن طريق إعادة إنتاج لوحات مزيفة لفنانين مشهورين مثل (فنسنت فان جوخ، وبيكاسو، وسيزان- Vincent van Gogh, Picasso, and Cezanne)، ولكن تم الاستيلاء على هذه المشاريع في وقتٍ لاحق من قبل شقيقه بول ماجريت. وبعد انتهاء الحرب؛ ظلَّ رينيه ماجريت مقيمًا في بروكسل حتى نهاية حياته، ولو أنْ تخلَّل تلك الفترة بعض السفريات للولايات المتحدة وغيرها.
اتبع رينيه خلال معظم حياته المهنية أسلوبًا سرياليًا محددًا، ونادرًا ما انحرف عن هذا النموذج، هذا إن وُجِد، فالكثير من الأعمال التي قدمها تُصور مشاهد متشابهة ومواضيع متكررة. بعض من العناصر المفضلة له الصخور العائمة، أو إنشاء لوحة داخل لوحة، كما استخدم أيضًا العديد من الأشياء غير الحيّة وتَعمَّق بصياغتها ومزجها بالهيئة البشرية، مما خلق أنماطًا متميزة لم يقدمها أيُّ من الفنانين الآخرين.
أسلوب خاص
خلال مسيرته المهنية، كان رينيه ماغريت يستخدم اللوحات الشهيرة التي ابتكرها فنانون آخرون لصنع لمسته السريالية الساخرة على تلك الأعمال. ومن بين تلك الأعمال التي قام بها (الشرفة- The Balcony)، ويُعد ذلك العمل محاكاةً ساخرة وسوداوية لعمل بنفس الاسم للرسام (إدوارد مانيه- Edouard Manet)، وما قام به في تلك اللوحة هو إزالة الأشخاص في اللوحة الأساسية واستبدالهم بالتوابيت. وكانت هذه إحدى الطرق التي تُمكّنه من إظهار أسلوبه وإنشاء تصميم فريد من نوعه، مما أجبر المشاهدون على مشاهدة أعماله وحفزهم على البحث عن غير المألوف والتركيز على العناصر المميزة التي لم تكن موجودة في أي عمل من قبل.
عمل رينيه ماجريت على بعض الأعمال البارزة في أواخر مسيرته المهنية، دون الانحراف عن أسلوبه السيريالي بل والتركيز عليه أكثر وأكثر، كما كان لديه أسلوبٌ ساخرٌ واستفزازيٌّ ظهر في العديد من الأعمال النحتية التي ابتكرها، والتي أصبحت من أكثر أعماله شهرةً طوال فترة حياته المهنية. أحد الأمثلة على ذلك هو سلسلة لوحات الغليون (The Treachery of Images) التي بدأها في عام (1929). ونجد افتتان رينيه واضحًا جليًا بالتعارض ومناقضة الواقع في تلك السلسلة الفنية، خصوصًا عندما نشاهدها كمجموعة وليس كصور مفردة.
وعلى الرغم من أن العديد من الأعمال التي أنشأها رينيه ماجريت كانت معروضة في السنوات الأخيرة فقط، إلا أنَّ بعض أعماله قُدّمتْ في عددٍ من المعارض خلال فترة حياة ماجريت المهنية في بروكسل وكذلك في جميع أنحاء العالم، ففي عام (1936) أُقيم له معرضٌ في مدينة نيويورك، وبعد ذلك تم تنظيم معرضين له بأثرٍ رجعيّ؛ كان الأول في عام (1965)، في متحف الفن الحديث، والثاني في عام (1992)، في متحف المتروبوليتان للفنون.
لا يؤثر رينيه ماجريت في عدة فنانين فحسب، بل أبهر عملُه عالمَ الفن ككل والثقافة الشعبية آنذاك -وحتى الآن-، وذلك نظرًا لقدرته على الإبداعية الفريدة في تقديم شيء عاديّ للغاية، ولكن ما يراه الجمهور منه هو شيءٌ مختلفٌ تمامًا، وبالتالي كانت أعمال رينيه مطلوبةً بشدة وخصوصًا في فترة الستينيات من القرن الماضي. في الواقع، تم انتحال جزء كبير من أعماله واستخدامه في الكتب والإعلانات المطبوعة وغيرها من الحقول المشابهة، وذلك بسبب الأسلوب المُميز وعدم قدرة الفنانين العاملين على الإبداع بطريقة مماثلة.
على الرغم من أنه تُوفّي في عام (1967) بسبب سرطان البنكرياس؛ إلا أنَّ الكثير من أعمال رينيه ماغريت لا يزال معروضًا اليوم في مسقط رأسه في بروكسل وفي جميع أنحاء العالم.
رينيه ماجريت لم يقدم أسلوبًا جديدًا فحسب، بل كان رائدًا في أسلوب السريالية، وبالتبعية، أعمال مثل (ابن الرجل- The son of man) لرينيه ماجريت تُعد من أيقونات وعلامات الفن السيريالي جنبًا إلى جنب مع أعمال دالي مثل (استمرار الذاكرة- Persistence of Memory)، ولعل أعظم ما قدَّمه رينيه ماجريت للعالم هو طريقة جديدة بالكامل في النظر إلى الفنون التشكيلية.
إعداد: زياد جمال
مراجعة علمية: سلمى عياد
تَدقيقٌ لُغَوِيّ: محمود خليفة
تحرير: سامح منصور
المصدر:
https://bit.ly/2GlXkpq