لم يحظَ أي مخرج في تاريخ السينما بشعبية بين الجماهير مثل شعبية ألفريد هيتشكوك (1899-1980)، فهو المخرج الوحيد الذي وضع صورته على بوستر الفيلم ليقينه التام أن اسمه كان الأهم لترويج أي فيلم، حيث فاقت شهرته شهرة أهم الممثلين الذين كان يختارهم بعناية لبطولة أفلامه.
وعلى الجانب الآخر، فإننا نتكلم عن كوانتين تارنتينو الذي يُعتبر ظاهرة من أغرب الظواهر وأكثرها إثارةً للجدل في السينما الأمريكية. هو مخرج وسيناريست ومنتج وممثل ينقسم الجمهور حوله لمتعصبين بشدة وكارهين بشدة.
نتناول اثنين من المخرجين يفصل بين نهاية الأول وبداية الثاني عقود من الزمن ولكن كل منهم رسم شكلًا خاصًّا للسينما.
السينما بمنظور هيتشكوك
– بدأ العمل في بريطانيا ليحظى بنجاح لافت وشعبية كبيرة في الأفلام الصامتة والناطقة المبكرة، حتى انتقل إلى الولايات المتحدة في عام 1939 ليُكمل مسيرته في هوليود.
– كانت لهيتشكوك سمةً بارزةً جدًا في أعماله كلها تقريبًا، وهي مشاركته فيها كممثلٍ ليؤدي دورًا عابرًا أو حتى مشهد بسيط أو حتى تصل لدرجة أنه يظهر في صورة ثابتة، المهم أن يكون عمله لا يخلو من تواجده هو نفسه كممثلٍ وعنصر من عناصر العمل الجانبية.
– لم يكن اختيار عناوين الأفلام عند هيتشكوك اعتباطيًا، ولم يكن اختيارها أيضًا لأي اعتبارات جماهيرية مثلًا، بل كانت العناوين جزءًا مهمًا من الفيلم وعنصرًا فاعلًا في أحداثه، أو عنوان لحل اللغز أو علامة لبداية الذروة.
– هيتشكوك عَرَّف عملية كتابة السيناريو بأنها: «المرحلة التي تتخذ فيها كل قرارات الإخراج الجوهرية»، إذ أنه كان يكتب السيناريو وهناك كاميرا في رأسه تجعله يتصور كل شيء بالفيلم، من الزاوية التي سيتم بها تصوير اللقطة إلى حركة الممثلين داخل الكادر.
– بداية هيتشكوك مع السينما الصامتة جعلته يفهم تمامًا أن صوت الكاميرا قد يكون أعلى من صوت أي حوار، فلجأ إلى التعبير البصري بشكل مكثف لم يكن يستخدمه المخرجون الآخرون لأنهم كانوا يرون أن الحوار قد يُستخدَم لنقل الرسالة المُراد إيصالها للمشاهد، أما هيتشكوك فكان يرى في هذا نوعًا من العجز، فاستخدم هيتشكوك العديد من الأساليب في حركة الكاميرا بعضها من اختراعه لتوصيل تأثيرات معينة لايمكن أن يقوم بها أي حوار، أحد أشهر الأمثلة على هذا هي لقطة هيتشكوك المميزة: التحرك بالوراء بالكاميرا مع مزجها بـ(zoom in)، استخدم هذا في (Rebecca) لإعطاء إحساس بالاغتراب، وفي (Vertigo) لإعطاء إحساس بالدوار! هذه اللقطة – مثلها مثل غيرها من لقطات هيتشكوك – كثيرًا ماتم تقليدها من العديد من المخرجين الشهيرين.
– أبطال أفلام هيتشكوك ليسوا في ذكاء (شيرلوك هولمز) ولا في قوة (سيلفستر ستالون)، ولافي خفة حركة (ويل سميث)، إنهم لايتمتعون بقدرات خارقة أو مميزات فريدة من نوعها، بل هم على الأغلب مجموعة من البشر العاديين جدًا وربما ليسوا أسوياء أيضًا، فعلى الأغلب هناك مايشوبهم، قد يكون عقدةً أو عائقًا نفسيًا أو حتى عجز كامل عن الحركة مثل بطل فيلمنا هنا، إنهم باختصار أقل مني ومنك ولكنهم أُجبِروا على خوض مواقف غير عادية استلزمت منهم التصرف بشكل بطولي لأنه لم يكن هناك سبيلًا آخر أمامهم، إنهم شخصيات عادية في مواقف غير عادية، أو أبطال بالإجبار إذا جاز القول.
أهم أعماله
– The 39 Steps (1935): عن شخص يتورط في قضية عالمية، ويَفِرّ من العدالة بلمسات كوميدية خفيفة.
– The Lady Vanishes (1938): عن شابة تتعرف على سيدة مُسنة في قطار، ثم تختفي المرأة المُسنة وتتهم الشابة بالهلوسة.
– Rebecca (1940): شابة تتزوج من أرمل ثري، وتعيش في قصره، لكن شبح الزوجة الأولى يؤرقها.
– Shadow of a Doubt (1943): عن قاتل للأرامل المسنات الذي ينتقل إلى قرية صغيرة وعلاقته من ابنة أخته التي تحمل نفس اسمه.
– Notorious(1946): عن امرأة يتم توظيفها كجاسوسة للإيقاع بمجموعة من النازيين.
– Rear Window(1954): عن شخص مُقعَد يقضي يومه بمراقبة جيرانه، ويبدأ بالشك بوقوع جريمة قتل في الحي.
– Vertigo (1958): عن محققٍ خاص يُكلَّف بملاحقة زوجة شخص ثري ثم يقع في حبها.
– North by Northwest (1959): عن منظمة سرية تعتقل شخصًا بالخطأ تظن أنه جاسوس.
– Psycho (1960): عن امرأة تسرق مبلغًا كبيرًا من المال، وتهرب من المدينة.
– من أشهر أقواله
• «أشعر بالخوف في كل وقت، ومن كل شيء.. من الكلاب، ومن رجال الشرطة، من الصخب أو الصراخ المفاجئ.»
• «المسألة ليست معرفة من هو المجرم، فقد يكون معروفـًا للمُشاهد من أول الفيلم، الأهم من ذلك النجاح في كيفية التخلص منه.»
• سُئِلَ مرةً: لو أن جين مانسفيلد وآفا جاردنر سقطتا في الماء أمامك وأوشكتا على الغرق، فأي منهما تنقذ؟
فأجاب على الفور: «ولا واحدة، ستكون فرصة عظيمة للتخلص منهما الاثنتين.»
• «أنا لم أقل مطلقًا: إن كل الممثلين كالقطيع، لكن الذي قلته هو: إن كل الممثلين يجب أن يُعاملوا كالقطيع.»
• «رسامي الكارتون لديهم أفضل نظام لاختيار الممثلين، إذا لم يعجبهم أحدهم فإنهم يمزقونه بالكامل.»
• «البطل في أفلامي رجلٌ عادي، وبنفس المفهوم فإنني أجعل الأشرار يتميزون بالجاذبية، وأكثر ما يثير الرعب حول الأشرار هو أنهم يبدون في مظهرٍ يحبهم المُشاهد على الفور.»
• «الجريمة الكاملة ليست تلك التي لم يكشف المحقق فاعلها أو أثر يدل على فاعلها، وإنما هي الجريمة التي لم تُكتشَف مطلقًا.»
• «دائمًا، اجعل المشاهد يعاني قدر المستطاع.»
السينما بمنظور تارنتينو
– عمل في متجرٍ لتأجير شرائط الأفلام وفي هذا المتجر ثقلت موهبته الفنية، فتابع جميع أنواع الأفلام الكلاسيكية والحديثة الأمريكية والأوربية والآسيوية. تعلق بأفلام الغرب الأمريكي والساموراي، كما تعلق بالموسيقى وخاصةً موسيقى البوب. رأى تفاصيل كثيرة سُجِّلَت في مخليته، جعلت لديه رصيدًا من الكادرات والموسيقى والأفكار وطرق التمثيل. هكذا بدأت أسطورة تارنتينو في الظهور.
– سَهَّل تارنتينو لمحبي تعلم السينما في العالم طرقًا جديدةً للتعلم. فبعد أن كان الرأي الغالب أن التعلم يجب أن يكون أكاديميًا بما تحمله الدراسة الأكاديمية من مبالغ مالية باهظة ومجهود صعب، شغف تارنتينو وجَّه الناس للتعلم عن طريق المشاهدة الكثيفة والمتنوعة والتركيز على طرق التصوير والموسيقى والتمثيل.
– ملامح سينما تارنتينو
– الانتقام: كل أفلام تارنيتنو تقريبًا وقودها الانتقام، تارنيتو وضع الانتقام في عدة صور؛ صورة شخصية بحتة مثل (kill Bill) وصورة سياسية مثل فيلمي (Django Unchained- Inglourious Basterds)، برغم وجود تقاربات شخصية في بعض الشخصيات واختلافات أيدلوجية وشخصية في شخصيات أخرى ولكن برع تارنيتنو في إضافة دور الانتقام (أو العامل النفسي) في كل حدث في حياتنا.
– السيناريو : برغم شهرته كمخرج إلا أن الجزء الأبرع فيه هو السيناريست، فالسيناريو عند تارنتينو هو سلسلة من التلاعب المتقن بطريقة مخيفة بالمشاهد من أول مشهد لآخر مشهد. تارنتينو غَيَّر أسلوب السيناريو التقليدي أو بمعنى أصح تَعمَّق في السيناريو التقليدي بطريقة مخيفة؛ حيث أعاد أمجاد الحوارات الطويلة المملة (التي تُعتبر خطأ يرتكبه أي سيناريست) ولكن مع تارنيتنو أصبحت إحدى علاماته المميزة.
أهم أعماله
– Pulp fiction (1994): الفيلم الذي كان فتحًا حقيقيًا بالنسبة لقواعد السرد السينمائي، واحتفاءً استثنائيًّا بالسينما وبالحياة وبالتفاصيل، ليمنح تارنتينو «سعفة كان الذهبية» و«أوسكار» أفضل سيناريو.
السيناريو شديد الحِرفية يأخذه تارنتينو في سيناريو دائري، المشهد الافتتاحي يُعتبر بداية الدائرة ونهايتها.
الفيلم مُكوَّن من ثلاثة سيناريوهات: ترى السيناريو الأول وترى لمحة من سيناريو آخر، ثم تلف الدائرة على السيناريو الثاني وترى لمحة من الأول، وهكذا إلى أن تصل الدائرة لنقطة البداية التي هي نقطة النهاية.
التلاعب الأشهر لتارنتينو في هذا الفيلم هو الحقيبة التي يفتحها كل أبطال الفيلم تقريبًا، لا ترى أنت ما بداخل الحقيبة ولكنهم ينبهرون بما هو داخلها، فسَّرها الكثير من الناس بطرقٍ مختلفة. البعض فسَّر ما بداخل الحقيبة تفسيرات دينية، والبعض الآخر فسَّرها تفسيرات موسيقية، وآخرون تفسيرات تقليدية. وعندما سُئِل تارنتينو قال: «إن ما بداخل الحقيبة هو ما تخيَّله المُشاهد.»
– Kill Bill (2003-2004): وُجِدَ عقب الانتهاء منه أن مدته قاربت على الأربع ساعات، فقرر تقسيمه لجزئين على عامين متتاليين، ويُعد من أمتع وأجمل ما قدّمت السينما، حيث قدم فيه تحيته الخاصة للأفلام عبر قصة انتقام تقليدية.
الانتقام هو المحرك الرئيسي والوحيد تقريبًا، ولكن من ناحية الصورة فالفيلم هو تأريخ للفن الياباني وأجواء الساموراي والأزياء والطعام الياباني والخرافات أو الحقائق التي تُقال عن الساموراي. وكعادة تارنتينو في تجسيد تاريخ الفن في فيلم واحد؛ صُمِّمَت بعض المشاهد المُعقَّدة بطريقة الكارتون اليابانية، كذلك جُسِّدَت معارك الساموراي العنيفة جدًا ذات الحركات البالغة السرعة وجسد رهبان في التبت.
– Inglourious basterds (2009): يستمر تارنتينو في ممارسة هوايته المحببة في «اللعب» بالسينما بأقصى ما يستطيع، صانعًا عملًا لا يشبه أي فيلمٍ آخر قد شاهدته من قبل فعليًا، تارنتينو بعد أن تلاعب بتاريخ السينما الأمريكي والياباني، وبعد أن اقتحم عوالم عديدة، أراد التلاعب بالتاريخ ذاته. فغيَّر في الحقائق التاريخية. فيحوّل التاريخ إلى قصة كوميكس، أو إلى فيلم عصابات رخيص، يقرر أن الحرب قد انتهت بفضل رغبة انتقام، يجعل شخصيات القرن الأشهر شخصيات في عبثٍ لا ينتهي. رُشِّح الفيلم لثمان جوائز أوسكار، بما فيها أفضل فيلم ومخرج، ونال كريستوف فالتز جائزة أوسكار أفضل ممثل مُساعد عن أدائه العبقري ليجمع بينها وبين أفضل ممثل في مهرجان كان الذي عُرِض الفيلم فيه.
– Django unchained (2012): صُوِّر الفيلم بطريقة أفلام الويسترن واُستخدِمَت نفس موسيقاها. الفيلم به العديد من المقاطع الموسيقية القديمة شديدة الإبداع.
من الناحية السياسية جمع تارنتينو بين الاختلافات الطبقية والفكرية والرغبات النفسية في الانتقام بطريقة شديدة الإبداع. فالفيلم يدور بين جانجو العبد الذي وجد فرصةً للتحرر واستعادة حبيبته والدكتور كينج شوت وهو طبيب أسنان وصائد مجرمين يؤمن بحرية العبيد. ومن ناحية أخرى كيلفن (ليوناردو ديكابريو) تاجر العبيد ومحب مصارعة العبيد حتى الموت، وستيفن (سامويل جاكسون) مساعد كيلفن الأسود الذي لا يؤمن بحرية السود برغم أنه منهم. كذلك يعرض الفيلم الحالة عندما يختبر الإنسان مبادئه ويقف أمامها، ماذا يفعل؟ تارنتينو انحاز إلى أن الإنسان سيخالف ما تقوله مبادئه. دكتور كينج شوت برغم قوله أنه مع حرية العبيد ولكنه قايض جانجو في حريته مقابل خدمة يقدمها له. كذلك جانجو الذي سمح بأن تأكل الكلاب عبدًا أسود حتى لا تنكشف خطته. للفيلم جانب سياسي واضح ومعالجة أراها من أقوى المعالجات التي قُدِّمت في أفلام السود والعبيد.
إعداد: Eslam Mostafa
مراجعة: Mohamed Sayed Elgohary
تصميم: Wael yassir
المصدر: https://goo.gl/o4lEfP