عن ديكنز الكاتب
حتى وفاته، بقي (تشارلز ديكنز -Charles Dickens) محتفظًا بسره الأكبر لنفسه، ألا وهو جوهر طاقته. ديكنز -الذي وُلد منذ 200 عام- قد كتب رفًّا طويلًا من الروايات، بلغ 14 عملًا؛ من دون أن تُحسب معهم رواية «لغز إدوين درود -The Mystery of Edwin Drood» التي أنهى نصفها فقط قبل وفاته. لقد مَثَلَت تلك الأعمال المفعمة بالحياة تتمتم بفوضى الوجود ذاته. من السهل التفكير بالكاتب المُحنَّك المُعاصر لديكنز وهو (أنتوني ترولوب -Anthony Trollope) ذو الإنتاج الأدبي الغزير، فقد كان يكتب بانتظام وبشكل روتيني، ما يقارب 2000 كلمة يوميًا، حتى كانت محصلته بنهاية حياته نحو 47 رواية؛ ولكن لم يسِر ديكنز على هذا النهج.
لا شيء من الآثار المادية التي تركها وراءه يمكن أن ينفي ذلك؛ إذ أن مخطوطات رواياته -مثل «صديقنا المشترك –Our Mutual Friend» في «مكتبة مورغان -The Morgan Library»- لا تبدو أكثر تشويقَا من المخطوطات التي خلّفها الروائيون الآخرون. وكذلك الكلمات المكتوبة بخط اليد على الصفحة بالحبر الأزرق -المقروء منها وغير المقروء- ليست إلا علاماتٍ على عقلٍ كرّس نفسه للكتابة.
فلتستحضر منتصف رواية ديكنز المفضلة لديك، والتي تتمثل فيها لندن في القرن التاسع عشر مدينة مضطربة، مليئة بالدخان، مكتظة، وفي حالة من التناقض المبتذل. ثم تخيل ديكنز يعمل في منتصف تلك المدينة، شخص مفعم بالحيوية يمر سريعًا أمامك في شارعٍ مظلمٍ متَّسخ، يستدعي عواطفه ويدرسها وهو في تيه، في نوع من (التكلم البطني – ventriloquism) العقلي. كان يمشي في كل ليلة لمسافة عشرات الأميال، والتي من دونها -كما قال-: “حتمًا سأنفجر وأهلك”.
كما كتب تحت اسم مستعار (بوز -Boz): “لا يوجد شيء نتمتع به أكثر من بعضٍ من عشوائية الهواة”.
“التجول عبر شوارع لندن وكأنها مدينة غير مألوفة بالمرة لعقولنا المتجولة خلالها”.
طاقة لا تنضب
كانت طاقة ديكنز -والتي لم يبذل أي جهد لاقتصادها- أمرًا لا يمكن تفسيره، يمكنك أن تطلق عليها طاقة متجددة إن أردت. ربما كان ذلك بمثابة رد فعل على تلك التشككات التي انتابته في طفولته والخجل الذي عاناه كطفل كادح، عندما أدرك أنه واحدًا من الفنانين الصغار الموهوبين الذين يستحقوا المُشاهدة والمُتابعة.
لم يكن يُعرف عنه شيئًا من الانعزالية، حتى أن أحد الأشخاص الذين رأوه في غمرة سعادته في حفلة عائلية كتب أنه: “غنى أغنيتين أو ثلاثة بسعادة غامرة، إحداهم كانت أغنية هزلية تُسمى «The Dog’s Meat Man»، وقام بتقليدٍ بارعٍ للعديد من الممثلين المعروفين في ذلك الوقت”.
من العجيب أنه لم ينفجر أو يهلك قبل وفاته بفترة طويلة في 1870، عن عمر يناهز 58 عامًا. وبعيدًا عن الكتابة، فقد كان ديكنز مثل الإعصار، يعيش حياة لا مثيل لها في قوتها؛ إذ كان لديه مساره المهني كمحرر صحفي، إلى جانب كونه ممثل ومدير للإنتاج المسرحي، وكان أيضًا فاعل خير ومصلح اجتماعي. كذلك لا يمكن حصر مشاركاته الخاصة -من عشاء، نزهات، ورحلات مع صحبته من العائلة والأصدقاء-، بالإضافة إلى أن رواياته قد برزت بين العديد من المؤلفات الأخرى.
كان ديكنز مدفوعًا من قبل عواطفه المتقدة وإرادته الضارية، تلك التي تستلزم منه التحكم الكافي لكي يحسن توظيفها في ابتكار بعض من شخصياته التي أحبها أكثر مما أحب بعض أبنائه. كان من الممكن أن يصل به الحال لذرف دموع اللوعة أثناء كتابة أحداث موت نيل الصغيرة، في رواية «متجر الفضول القديم – The Old Curiosity Shop». ومع ذلك، فإنه أستطاع أيضًا أن يتبرَّأ بفتور من أي شخص ينحاز إلى زوجته كاثرين عندما انفصلا، بما في ذلك ابنه الذي يحمل اسمه.
حتى هو نفسه لم يفهم سر طاقته، لكنه أدرك أن هناك نوع من الاتقاد يتخلله، وكذلك هو الحال تقريبًا لكل شخص يعرفه.
شخصيات كوكب ديكنز
عندما التقى (دوستويفسكي -Fyodor Dostoevsky) بديكنز عام 1862 -وهو لقاء من الصعب تخيله- أوضح ديكنز أنه كان هناك شخصان بداخله، أحدهما يشعر بما يجب أن يشعر به والأخر يشعر بالعكس تمامًا.
ومن خلال تلك الشخصيتين قام ديكنز ببناء عالمه من الشخصيات، الطيبة منها والشريرة. وكان تعليق دوستويفسكي على هذا الأمر مقتضبًا وغامضًا بعض الشيء، فسأل: “شخصين فقط؟”. ومن الجدير بالذكر أن ندوات القراءة العامة لديكنز -والتي بدأت عام 1858- جذبت عشرات الآلاف من الناس من إنجلترا وأمريكا، إذ أنهم جاءوا ليس فقط لرؤية المؤلف نفسه؛ ولكن أيضًا لرؤية تلك الشخصيات التي تمثلت وتعايشت داخله- (سكروج- Ebenezer Scrooge)، (بيكويك- Samuel Pickwick)، (ميكوفير- Wilkins Micawber)، و(السيدة غمب- Mrs. Gamp).
ويتجسَّد لنا كوكب ديكنز بمثل تلك الواقعية؛ حيث كان يتغلغل في تفاصيل العالم من حوله. وعندما استقر أخيرًا في مكتبه، كان لا يزال يسبح في عالم من اختراعه، وكانت تنتظره الشخصيات -كما قال- ليأتي، فكانوا “على استعداد لقلمه”.
تلك الشخصيات وعشرات غيرها، لا تزال تعيش بكامل حيويتها القديمة، وبالرغم من أننا قد نشعر بالتفاوت في روايات ديكنز بوضوح أكثر مما كانت تُنشر على أجزاء شهرية، إلا أنه من الأسهل الآن تدارك أن ذلك التفاوت في معظمه هو من أعراض طاقته الساحقة.
كان الرجل نفسه متقلِّبًا ولا يمكن حصره في معيار ثابت، أكثر من قدرته على حصر شخصياته في معايير الكمال، حتى أنه من الممكن أن يهزم شخصياته التي ابتكرها بنفسه في الكمال!. الحقيقة هي أنه هو ذاته كان ديكنزيًا كمثل أكثر شخصياته اتقادًا، وقد كان سعيدًا بتلك الفكرة أيضًا. في عام 1843 وبعد فترة وجيزة من نشر «ترنيمة عيد الميلاد -A Christmas Carol» كتب عن نفسه إلى صديقًا مقربًا: “قبل 32 عامًا، لاح كوكب ديكنز في الأفق، ونال إعجاب وابتهاج العالم أجمع، وكانت تلك سعادة لا توصف للبشرية جمعاء”.