الطبيعانية
يتحدث البعض عن الصراع بين العلم والفلسفة، فنجد على سبيل المثال العالم الفيزيائي الراحل ستيفن هوكينغ (Stephen Hawking) يتحدث في كتابه «التصميم العظيم» (The Grand Design) عن موت الفلسفة -محتجًّا بأن المنهج العلمي تخطى الفكر الفلسفي وأصبح هو الأساس- قائلا:
«لطالما طرح البشر العديد من الأسئلة: كيف يمكننا فهم العالم الذي نعيش فيه؟ وكيف يتصرف هذا العالم؟ وما هي طبيعة الحقيقة؟ ومن أين جاء كل هذا؟ هل يحتاج العالم إلى خالق؟ أغلبنا لا يستهلك الكثير من الوقت قلقًا حول هذه الأسئلة، ولكن أغلبنا كذلك يقلق بخصوصها في مرحلة من حياته. وعلى نحو تقليدي فهذه الأسئلة فلسفية، ولكن الفلسفة قد ماتت، فهي لم تتمكن من مواكبة التطورات العلمية المعاصرة وبخاصة في الفيزياء. واليوم أصبح العلماء حاملين شعلة الاكتشاف في رحلتنا تجاه المعرفة»
ولكن ما مدى صحة كلام ستيفن هوكينغ؟ للإجابة عن هذا السؤال نحتاج إلى أن نبحر في انتقادات الكثيرين، وفي النقاشات الدائرة بخصوص المسألة. ولكن لعل أهم ما يميز أغلب هذه النقاشات هو طبيعتها الفلسفية. نعم ما قرأتَه صحيح، فنقد ستيفن هوكينغ والنقاش حول موت الفلسفة تمَّ في إطار فلسفيٍّ أكثر من أيِّ شيء آخر، والبعض يعدُّ هذا في حدِّ ذاته أكبر نقد لطرحه!
ولكن إذا أردنا الكلام أكثر عن الفلسفة والعلم، فلا يجوز أن نفعل ذلك دون أن نتطرق إلى المدرسة الفلسفية الأكثر سيطرة على المجتمع العلمي الآن، وهي المدرسة الطبيعانية، موضوع مقالنا الأساسي.
المدرسة الطبيعانية (Naturalism)، أو الفلسفة الطبيعانية، هي المدرسة التي تحتجُّ بالمنهج العلمي، وبأنه الوسيلة الوحيدة الممكن من خلالها دراسة العالم والطبيعة دراسة حقيقية، وبأن العالم المادي والطبيعة هما الأصل ولا غيرهما، أو بمعنى آخر لا معنى للكلام في إطارٍ بحثي علمي دونهما، فكل الظواهر لا تدرس إلا من خلال ما يُرصد ويُدرس من ظواهر، ونحن في النهاية غير قادرين على رصد غير المادي.
هدف هذا المقال هو ببساطة محاولة الوصول إلى فهم أوسع وأكثر دقة للواقع الفلسفي والعلمي المعاصر لنا، وتخيُّل جزءٍ من الصورة المليئة بمترابطات حول علاقة العلم بالفلسفة وصراعات المنهج العلمي، وبخاصة في اللحظة الراهنة التي يهيمن فيها المنهج العلمي، وتَقْدِر المؤسسات العلمية من خلال الثقة بها أن توقف كل الكيانات الاقتصادية، وتحرك العالم كما حدث في أحداث الكورونا الأخيرة، إلا أن البعض ينتقد هذا في الحقيقة، فنجد جيجيك يقول: «أصبح العلم كهنوتًا جديدًا، ومنهجه هو منهج العالم».
تُحسب الطبيعانية على الواقعانية الفلسفية (Philosophical Realism)، وهي الاعتقاد بأن الواقع مستقل عن تصوراتنا له، وليس مثلما قال الفيلسوف والراهب جورج بيركلي (George Berkeley) مثلًا، إن العالم لا يوجد سوى عندما ننظر إليه، فبيركلي بِعدِّه فيلسوفًا مثاليًّا- يُحسب على المثالية النسبية- وهو ليس من أصحاب النزعة الواقعية، وقد وصل إلى درجة عالية من تصور أن لا شيء له وجود خارج العقل، وأن الواقع معتمد على ما يرصده العقل. وفي المقابل يكون توجه الفلسفة الواقعية هو التأكيد على وجود عالم مادي منفصل عن العقل، قد نخطىء في رصده أو نختلف بخصوصه، ولكن هذا العالم له وجود وحقيقة ذاتية يمكننا اكتشافها.
إن تكلمنا كلامًا أكثر تفصيلًا عن الطبيعانية، فيمكن الإشارة إلى مجالات نقاش كثيرًا ما يُخاض فيها، ولكن قبل ذلك يجب الإشارة إلى مصطلحين مُهمّين يمثلان الطبيعانية، وسيُتحرك بينهما على مدار المقال؛ لذا وجب قبل أيِّ شيء آخر شرحهما كما يلي.
الطبيعانية الأنطولوجية (Ontological Naturalism)
الأنطولوجيا هي علم الوجود، أو تجريد الوجود. وهي من أهم فروع الميتافيزيقا. وتتساءل الأنطولوجيا بخصوص طبيعة الوجود ذاته، ومن هنا يمكن الكلام عن الطبيعانية الأنطولوجية. فببساطة كل ما يتم الكلام فيه ويتساءل عن الوجود والميتافيزيقا هو من جانب فهم الطبيعانية الأنطولوجية لا ميتافيزيقا.
الطبيعانية المنهجية / الميثودولوجية (Methodological Naturalism)
المنهج هو الآلية، الأسلوب الذي يُتّبع في أيِّ عملية، وها هنا فالعملية التي نتكلم عنها هي عملية الاستكشاف والبحث في الواقع، ومحاولة دراسته وفهمه، وكما أشرنا سابقًا فالطبيعانية تدَّعي هيمنة المنهج العلمي على غيره، وبأنه السبيل إلى الحقيقة، ومن هنا يمكن فهم أن كلّ ما سيُتكلَّم عنه في إطار المنهج والعلم والطبيعة هو نقاش عن الطبيعانية المنهجية وتساؤل بخصوصها.
وبعيدًا عن المدرستين، فللطبيعانية ادعاءات ومجالات نقاش يمكن تمثيلها من خلالها. والفلسفة كمحبة للمعرفة هي محبة النقاش والتساؤل. وفيما يلي سيُتعرض لفهم المسألة من خلال طرح تصور الطبيعانية وأفكارها. ولعل من أهم ما يمكن البدء به هو الأساس الجوهري في الطبيعانية بخصوص تحديد الفارق السببي.
إحداث فارق سببي (Making a Causal Difference)
تعد فكرة أن كل الكيانات الموجودة في عالمنا، سواء في إطار زمني أو مكاني، يجب أن يكون لها تأصيل «مادي»، من الأفكار المحورية حول الطبيعانية، فإن تكلمنا وناقشنا «عالم الذهن والأفكار» والتأثيرات النفسية، فسنرجعها إلى تأثيرات وكيانات مادية تنتج ذلك التأثير الذي نسميه «ذهني»؛ فالأفكار التي تدور في ذهننا هي نتاج عمليات كيميائية تحدث داخل المخ، وتحركها مؤثرات خارجية وداخلية يمكن إرجاعها إلى أصل مادي. وببساطة فكل جوانب الفرد: الذهنية، والبيولوجية، بل والاجتماعية، يمكن إرجاعها إلى كيانات مادية، وإلى تفاعلاتها وترتيباتها في الواقع. ففي النهاية نحن لا نرصد سوى المادي، ورصدنا للذهني يكون بمحركه المادي والمتأثر به المادي.
قد يصعب علينا أن ندرك التفاعلات والعلاقات السابق الإشارة إليها وخصوصًا في ذواتنا، ولكنه -حسب الفكر الطبيعاني- فإن له أصل مادي نبحث بخصوصه. ولعل المحرك الأساسي للطبيعانية الأنطولوجية، ها هنا، هو الحاجة إلى تفسير ماهية العالم الذهني، وماهية العلاقة بينه وبين العالم المادي، وكونه متأثرًا ومؤثِّرًا به، والبحث للاكتشاف يلخص الفرضيات الموجودة، في فرضية إمكانِ الوصول إلى إجابة.
من الملحوظ هنا وجود بعض التحديات في دراسة بعض الجوانب العلمية، مثل النقاش حول دراسة الرياضيات وهي أمور ذهنية بالكامل، ولكن قد يُردُّ على ذلك بأن الفكرة لها أصل مادي يتجلى في تفاعلات المخ وفي سلسلة الأسباب التي أدت إلى ذلك التفاعل وإلى ظهور ما نطلق عليه رياضيات، فيكون الاحتجاج بالكلام عن أصل «طبيعاني مادي» في النهاية، ويكون الجدل حول ذلك الأصل.
العلم الحديث والتأثير السببي (Modern Science and Causal Influence)
كان من الممكن، على مدار تاريخ تطور العلم، قبول فكرة أن هناك محركات غير مادية تؤدي إلى أحداث مادية، وتعد هي السبب، أو أن هناك ثنائية مادية وغير مادية مؤثرة، مثال ذلك: طرح نيوتن نفسه لفكرة التدخل الإلهي، فهو كان يرى أن التدخل الإلهي (وهو غير مادي) ضروري للحفاظ على استقرار الكون ذاته، وأن المادة تتفاعل مع غيرها تفاعلًا سببيًّا من خلال التدخل الإلهي[2] . إلا أن “لابلاس” تخطى الأمر بعد ذلك بخصوص الكواكب ومداراتها[3]. وبالنسبة إلى الطبيعانية الأنطولوجية، فلا يوجد سبب غير مادي، فالكون تحكمه قوانين الطبيعة، ولا معنى للكلام عن ما هو ميتافيزيقي غير مرصود خلفها، وهو ما يعده البعض إشكالًا.
نجد فيما سبق الدكتور ستيفن سي. ماير (Stephen C. Meyer) -وهو من معارضي الفكر الطبيعاني- يعترض على أن العلم ليس بالضرورة أن تكون حدوده التعامل مع الكيانات المرصودة والمادية فقط، ويطرح فكرة أن بالفعل بعض النظريات العلمية ليست قابلة للرصد، مثل نظرية التطور. ولكن حتى ذلك يُحدَّد بأن نظرية التطور هي شرح للواقع المادي الذي رُصِد؛ لذا فنحن في النهاية ندرس فقط ما رُصِد، ونحاول أن نشرحه بتصورات تُحدَّد وتُطوَّر باستمرار، ويمكن اختبارها وتكذيبها.
تحييد القيمة العظمى
كما تكلمنا سابقًا، فلا مدرَك غير ما هو قابل للرصد، وما يُرصد فهو مادة، والمادة محايدة، والطبيعة مادة، والحياة مادة، والكون مادة؛ لذا لا قيمة ذاتية يمكن الكلام عنها بخصوص كل ما سبق.
لا يمكن الكلام عن كون وُجد لأجل الإنسان، أو هدف يُجمِع البشر كلهم عليه، ويكون السبب وراء وجودهم. فما يُدرك هو فقط سلسلة العلاقات والأسباب المادية كونها هي ما يُرصد، ولا مجال للكلام عما لم يُرصد. ولكن كل ما سبق لا ينفي القيمة كمعنى إنساني أوجده الإنسان لذاته، كجزء من تركيبه السيكولوجي المعقد، وكجزء موجود بحكم الواقع ويمكن رصده، وهو ما يحرك الفرد، أو الجماعة حين يقرر أفرادها ذلك، ولكنه ليس منفردًا بذاته انفرادًا متعاليًا عن الواقع، بل إن وجوده معتمد على إرادة الأفراد المصدقين له، وله سلسلة أسبابه الخاصة، وباختلاف سلسلة الأسباب تختلف وتتغير القيمة.
الإنسان جزء من الطبيعة وكذلك إرادته
يولد الإنسان مُحمَّلًا بجينات، وفي سنوات عمره الأولى يُحمّل بعوامل فوق جينية، ومع الوقت يُحمّل بمؤثرات بيئية وغيرها من أمور لم يختَر أيًّا منها، والإنسان في ذلك مثله مثل مختلف أشياء الطبيعة من حوله، فهو لا يختلف في ذلك كثيرًا. بهذا المعنى فكثير مما يعتقد الإنسان أنه مخيّر فيه هو فقط نتاج عوامل لم يكن له يدٌ فيها على الإطلاق، فحتى إدراكه لتلك العوامل هو نتيجة لوجوده في مكان وزمان معينين، وضمن ظروف ذهنية معينة أدى إلى حدوثها عوامل لم يخترها. ولا يعني ذلك بالضرورة أن لا معنى لاختيار الإنسان، فهو في النهاية يتحرك حسب حجم الإدراك والرصد الذي لديه، وهو في ذلك كغيره من الحيوانات، وكونه مدرِكًا لوجود سلسلة من الأسباب لا يُلغي شعوره ورغبته وسعيه تجاه الأحسن من منظوره، والذي سيستغل فيه نظرته تلك ذاتها.
علاقة العلم والفلسفة والدين
المنهجية الطبيعانية يمكن عدُّها نظرة حول الممارسات الفلسفية، وحول تقارب الفلسفة والعلم وعدّهما يبحثان في العالم نفسه مستخدمين وسائل متشابهة، ولكنهما يطرحان أسئلة مختلفة؛ لأن أسئلة الفلسفة أكثر عمومية، ولكن يمكن فهمها بعدِّها بحثًا في وسائل ومناهج التوصل للمعرفة، لذلك هي أيضًا بحث في المناهج العلمية، وهذا ما يميل إليه بعض فلاسفة الدين، وهو عدُّها فرضية حول المنهج العلمي ذاته، وليس حول الممارسات الفلسفية.
فالبحث في وجود الإنسان علميًّا هو بحث في المادة المرصودة، وفي تسلسل الأسباب الممكن رصده، الذي من خلاله ظهرت تلك النسخة الحالية من الإنسان، وهو بحث منهجي يدرس الواقع ويتساءل بخصوص الواقع. ها هنا قد يُتساءل عما أوجد تلك النسخة الحالية من الإنسان. سيقول البعض هو الطبيعة ويكون الكلام عن نظريات مثل نظرية التطور، وسيقول آخرون هو الإله وسيُستفاض في الدين المحتج به، وفي النهاية سيقول الفكر الطبيعاني هو ما نرصده، ولا مكان للفكر الميتافيزيقي -ومنه الديني- ها هنا. فما لا نرصده لا نعرفه، ولا يمكننا الكلام عنه، أو عن وجوده، ونحن لا نرصد سوى الطبيعة والمادة.
يُفهم مما سبق أن نقد الفكر الطبيعاني هو فكر لاديني، وهو كذلك بالفعل، ولكنه ليس بالضرورة معارضًا للدين، فقط هو متجاهل له. يمكن عدُّه فكرًا عملانيًّا في هذه النقطة، حيث ستختلف التصورات الإيمانية دائمًا بين البشر، ولكن في المعمل سيجمعون على المنهج العلمي والأدلة، وعلى الواقع الممكن رصده ودراسته والحسم فيه. بهذا الفهم يمكن عدُّه النظرة إلى أن المعتقدات الدينية ليس لها مكان داخل الدراسات العلمية، وأن العلم لا يتطلب موقفًا بعينه تجاه الدين، ويمكن أن يُمارَس من قبل المعتقدين في الأديان واللادينين، وهو ليس بالضرورة معارضًا للدين قدر ما هو متجاهل له. فحتى إن حُيِّد الدين داخل عالم البحث العلمي ولم يكن له مكان -نتيجة لطبيعته وللضرورة-، فلأصحابه دائمًا مكان، وما يزال له حق الحضور خارج المعمل بلا مشكلات كما في الحياة الشخصية لكل باحث على حدة.
خاتمة
مما سبق يمكن تخيل المقصود عند الكلام عن الطبيعانية؛ فهي الفكر الأكثر سوادًا داخل الأروقة العلمية اليوم، وإن حاول البعض تحديه. ولعل ما عرضناه يصلح كمقدمة ومدخل مجمع للمسألة ولتوسيع الإدراك حولها، ما يسهل البحث على مَن يريد التعمق أكثر في الموضوع. ومن المهم التنبيه إلى أن ما يُطرح في المقال لا يُعبر عن وجهة نظر الكاتب قدر ما يتكلم ويسهب بخصوص المسألة ذاتها.
2 Responses