الطّبُّ المِصريُّ القديم
لا يوجد من يستطيع أن يجادل في نقطة اهتمام قدماءِ المصريّين الشّديد في الحياة الأُخرى، ومحاولاتهم لتخيُّل ما ينتظرنا خلف الجدار الذي يفصل بين العالَمين. وقد اهتمّوا بجمع الكثير من معتقداتهم وتصوُّراتهم المُتعلِّقة بهذا الموضوع في لفائفَ من ورق البردي التي حفظتها مقابِرهم لتصل إلينا سليمةً بشكلٍ كبير؛ لتعطينا لمحةً دقيقةً عن نظرتِهم للعالم الآخر، ويوم الحساب.
لكن، لو كنتَ تظنُّ أنَّ اهتمامهم في الحياة الأُخرى التي تنتظرهم بعدَ الموت قد طغى على اهتمامهم في أمور حياتنا هذه، فأنت بالتَّأكيد مُخطئ!
فهناك ما يعرف بالطّبُّ المِصريُّ القديم.
التَّحنيط هو مَدخَلُهُم لمعرفة خفايا الجسد البشريّ!
كان اهتمامهم بفنِ التحنيط سببًا في تعرُّفهم إلى أجزاء الجسد البشريّ المختلفة بشكلٍ وثيق؛ مما نتج عنه معرفتهم الكبيرة بأعضاءِ الجسد الدّاخلية، وكيفيّة عملها؛ وهو الذي أدَّى إلى التّقدُّم الكبير الذي حقَّقَته في مجال الطِّب، والذي تشهد عليه العديد من البرديّاتِ التي تركوها خلفَهم.
من أشهر تلك البرديّات: البرديّة المعروفة باسم برديّة (إدوين – Edwin) الجراحيّة التي تعود إلى عام ١٤٠٠ قبل الميلاد، والمكتوبة باللغة الهيراطيقيّة، وتشرح النُّصوص المدوَّنة بتلك البرديّة ٤٨ حالةً من الحالات المرضيّة المتعدِّدة، بدءًا من العظام المكسورة، مرورًا بإصابات الرّأس والعُنُق والظَّهر، وحتّى إصابات البطن. وقد تمّ ترتيبها بترتيب وجود العُضُو المصابِ بالجسد البشريّ.
كلّ حالةٍ مذكورةٍ بالبرديّة شُرحت وفُصِّلت بالكامل، مُتضمِّنةً الأعراض الجسديّة التي تظهر على المريض، والفحوصات التي يجريها الطّبيب عليه، وحتّى التّشخيص الذي يتوصّل إليه الطبيب بناءً على المعطيات الموجودة أمامه، وهل بإمكانه علاج الحالة، أم أنّها حالةٌ لا أمل في شفائها.(2)
الفراعنة هم أوّل من مارسوا الطِّب التشخيصيّ!
ومن ضمن تفاصيل الفحص المدوّنة، قيام الطّبيب في البحث عن أعراضٍ جسديّة معيّنة؛ لتساعده على تشخيص المرض. ربّما يبدو في الطّب الحديث أنّ الفحص الجسديّ والتفكير في الأعراض شيئًا بديهيًا، لكنّ فكرة أنّهم مارسوه منذ خمسةِ آلاف عام، فهذا شيءٌ عبقريّ!
وعلى عكس معظم النّصوص التي تعود لهذا الزمن (لِوَاذ ثلاثة آلاف سنةٍ قبل الميلاد)، فإنّ تلك البرديّة قامت بتنحية التعويذات والأمور السحريّة جانبًا، لتفسح المجال للمعلومات العلميّة والتفكير المنطقيّ.
لكن للأسف الشديد، مع غروب شمسِ الحضارة المصريّة القديمة، اختفت العلوم الموجودة بتلك البرديّة، ولم يلجأ البشر لأساليب التفكير المنطقيّ تلك مرّة أخرى حتّى عام ٣٠٠ قبل الميلاد، مع ظهور (Hipocrates – أبقراط) في اليونان القديمة. وهناك معتقدٌ كبير مفاده؛ أن اليونانيّينَ القدماء كانوا قد استطاعوا قراءة ما بتلك البرديّة قديمًا، ومنها استقوا معلوماتهم، فاعتمدوا عليها كثيرًا في زيادة علمهم في ذلك المجال.(1)
العسل أول مضادٍ حيويّ واللّحم النيّئ لوقف النزيف!
من ضمن الأساليب العلاجيّة الموصوفة بالبرديّة خياطةُ الجروح (بالنّسبة لجروح الشِّفاه، الحَلْق، والكَتِف)، بالإضافة إلى القيام بتطهير الجرح، ومنع تلوّثه بالعسل -وهو الأمر الذي أثبتته الأبحاث العلميّة الحديثة- وإيقافُ النزيف باللّحم النيّئ.
هناك كذلك نصائحٌ بصدد عدمِ تحريك المُصاب في حال إصابة الرّأس والعمود الفقريّ، وكسور الأطراف السُّفلى. وتعتبر تلك البرديّة أوّل وصفٍ معروف لتشريح الرّأس، وللسطح الخارجيّ للمخّ، وللسّائل الشّوكيّ. وتظهر بين كلمات النصّ كلمة (المُخّ) لأوّل مرّة في التّاريخ المكتوب على الإطلاق!(1)
كلّ جزءٍ له طبيبٌ خاصٌ به!
توشي الأساليبُ المتّبعة في العلاج معرفةً جيّدة من المصريّين القدماء في العلاج، تسبق زمنهم بكثير، فقد لاحظوا تأثير إصابة المخّ على بقيّة الجسد؛ مثلما يحدث في حالات الشلل. كما لاحظوا أنّ النّاحية التي تتأثّر من الجسد متعلّقة بالمكان الذي يصاب فيه المخّ، وبسبب نوعيّة الإصابات المذكورة في تلك البرديّة، يعتقد العلماءُ أنّها كانت ذات فائدةٍ كذلك في علاج إصاباتِ الجنود أثناء الحروب.
صحيحٌ أن كاتب البرديّة لم يفهم نقطةَ الدورة الدمويّة، لكنّه عرف أنّ هناك علاقةً بين إصابات القلب والنّبض، كما عرف أنّ القلب يخرُجُ منه أوعيةٌ تتّصل بكلّ جزءٍ من الجسد.
بالإضافة لهذا فقد عرفوا التخصُّصات، أي إن كلّ جزءٍ من الجسد له طبيبًا خاصًا به، ولا يسمح للطبيب المتخصِّص في جزءٍ معيّن أن يُعالج الأجزاء الأُخرى!(1)
أي إن هُناك طبيبًا للعين، وآخرًا للبطن، وثالثًا للأسنان، وهكذا.
وكانوا يظنون أنّ كلّ جزءٍ من الجسد يَحكُمُه إلهٌ مختلِف، وربّما كان هذا هو سبب جعلهم كلّ طبيبٍ يتخصَّص في مرض جزءٍ واحدٍ فقط؛ حتّى لا يُغضبوا تلك الآلهة.
وقد قاموا بتقسيم الجسد إلى ٣٦ جزءًا.
صحيح أنّ معلوماتهم بخصوص بعض أجزاء الجسد كانت قاصرةً إلى حدٍ ما، فلا تتعدى أنّ الهواء يدخلُ عبر الأنف ليصل إلى كلٍّ من القلب والرئتين، إلّا أنّهم على الصّعيد الآخر عرفوا النّبض، وعرفوا كذلك أنّ هناك أوعيةً تخرج من القلب لتتّصل بكلِّ جزءٍ من الجسد البشريّ. لكن يجب أنْ نضيف هنا أنّهم لم يعرفوا أنّ تلك الأوعية تنقل الدِّماء.
الوصفات الطبيّة والتعويذات السحريّة جنبًا إلى جنب!
لم يكونوا يعتمدون على العلاجات الدوائيّة فقط، وإنّما على التعويذات والتمائِم السحريّة كذلك؛ فبحسب اعتقادهم أنّ لكلِّ جزءٍ إلهٌ يحميه كما سبق أنْ ذكرنا، فقد كان الغرض من استخدام تلك التعويذات هو استمالةُ ذلك الإله ليتسبَّبَ في شفاء المريض.
على سبيل المثال: كان الإله “بتاح” -وهو إله إقليم “ممفيس” الرسمي- يختص بعلاج أمراضِ الأُذُن والعَيْن.(3)