طبقًا للمعرفة التي بين أيدينا الآن يمكننا تعريف العبودية على أنها إطارٌ قانونيٌّ يتيح لشخص (السيد) أن يقتني شخصًا آخر (العبد). يعود تاريخ العبودية إلى عصور قديمة، لكن المعاهدات الدولية المعاصرة (مثل اتفاقية الرق 1926) تعتبرها جريمة ضد الإنسانية، وبالرغم من تلك المعاهدات والاتفاقيات؛ لازالت العبودية واستغلال البشر قائمة حتى الآن، على جانبهما يقع إرثٌ من العبودية النفسية التي قد نراها في العديد من الأُسَر حيث تسود العلاقات المؤذية بين أفرادها.
تقوم العديد من الدراسات في مجال علم النفس والاجتماع بتفسير العبودية النفسية في ضوء حادثة حدثت عام (1973)، حيث قام لصّان بالسطو على بنك في ستوكهولم-السويد، باستخدام الأسلحة النارية والمتفجرات، ثم قاموا باحتجاز أربعة رهائن: ثلاثةُ نساء ورجل لمدة (131) ساعة، وبعد إنقاذهم أظهر الرهائن سلوكًا غريبًا.
فهؤلاء الرهائن الذين تم تهديدهم وإهانتهم وتخويفهم أظهروا شعورًا بالعرفان بالجميل تجاه اللصوص، وحاولوا الوقوف بجانبهم في التحقيقات! وتولد انجذاب عاطفي عند واحدة من النساء اللاتي كنّ رهائن تجاه أحد اللصوص، وقامت أخرى بإطلاق حملة جمع أموال للمساعدة في الدفاع الشرعي عن المجرمين!
يبدو الأمر غريبًا، إلا أنه يحدث في مواقف مشابهة في الحياة اليومية لدى الأطفال الذين يتعرضون للاعتداء، والنساء المقهورات في العلاقات العاطفية، وأسرى الحروب، وضحايا الاعتداء الجنسي من المحارم، وبشكل عام في العائلات التي تحتوي على اعتداء بدني أو نفسي على بعض أفرادها.
ويرجع تفسير هذا إلى نزوعنا الغريزي نحو البقاء، تفسر لنا متلازمة ستوكهولم -نسبة إلى حادثة ستوكهولم- أنه عندما تتوقف حياة ضحية ما على أفعال الشخص المعتدي، ينشأ رد فعل عاطفي يتحول تدريجيًا إلى عرفان بالجميل تجاه المعتدين في حالة النجاة، تمامًا كما يعبر العبيد عن عرفانهم بالجميل تجاه أسيادهم عند إطلاق سراحهم. يحدث هذا الأمر بالمثل تمامًا في العديد من العائلات اليوم، حيث يقوم الضحية -مملوءًا باليأس- بتكوين مشاعر إيجابية تجاه الشخص المسيطر أو المعتدى عليه، ويهيئ نفسه لتتعايش مع مثل هذا الاعتداء، وبالتالي يكون رد فعله سلبيًا تجاه أفراد الأسرة أو الأصدقاء الذين يحاولون إنقاذه من هذا الاعتداء، ليجد نفسه في سجن عاطفي تجاه هذا الانتهاك الذي يحدث له، حيث يصعب عليه التحرر منه.
هذا وأوضحت الدراسات والأبحاث أن مثل هذه العبودية السيكولوجية (النفسية) ترتبط ارتباطًا وثيقًا بأربعة عواطف رئيسية:
-
إدراك أن هناك تهديدًا بدنيًا أو نفسيًا قد يحدث وتصديق أن مصيبة ما على وشك الحدوث.
-
المغالاة في تقدير الأفعال الصادرة من المعتدي والتي تنم عن عطف ولو ضئيل تجاه الضحية.
-
الانعزال عن الآخرين.
-
رسوخ قناعة تامة عند الضحية باستحالة الخروج من المأزق.
تمامًا كما حدث في حالة رهائن البنك في السويد، تتولد علاقات شخصية يقوم فيها المعتدي ببناء سجن حول الضحية يصعب الخروج منه وهذا ما ينتج عنه العبودية النفسية.
قد يأتي ذلك التهديد بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أو قد يأتي لأشخاص آخرين داخل الأسرة، فعندما يشعر الشخص بالتهديد؛ يندفع تلقائيًا نحو البحث عن أي شيء يؤيّد رغبته في النجاة، وقد ينشأ إيحاء لدى الضحية أن المعتدي يُخفي نوايا حسنة تجاهه برغم الأذى الذي يقوم به، فقط إذا قام المعتدي أو المسيطر بفعل صغير ينم عن العطف، مثل تقديم كوب ماء له، وكنتيجة لذلك؛ تنمو صلة نفسية وشعور إيجابي من الضحية تجاه المعتدي فقط لكون الضحية على قيد الحياة. وفي بعض الأحيان قد يبرر الضحية عملًا إجراميًا، والأكثر من ذلك، قد يقوم الضحية بمساعدة المجرمين والانشغال بهموم المجرمين بدلًا من الانشغال بهمومهم هم.
عندما يحيا شخص ما في عالم من التسلّط والاعتداء؛ يتعلم كيف يكون حريصًا إزاء ما يقوله أو يفعله خوفًا من إثارة الاضطراب الذي قد ينتج عنه بعض العنف الذي يقع عليه. وكنتيجة لذلك الحرص؛ يحاول الضحية بقدر الإمكان إرضاء المتسلط أو المعتدي عن طريق تحاشي أي شيء من شأنه إزعاج المعتدي، ومحاولة إبقاء المعتدي في حالة من السكينة والسلام مهما كان الثمن.
ويؤدي هذا السلوك للأسف إلى استمرار الاعتداء، حيث يبدأ المعتدي بطلب المزيد والمزيد من ممارسة التسلط والسيطرة، وبدوره يجب على الضحية أن يبقى معزولًا لكي يتمكن المعتدي من التمادي في الهيمنة والاعتداء، ويقبل الضحية بالعزلة حيث تجنبه من مواجهة الصراع والإحراج ويبدأ في الابتعاد عن أفراد أسرته، وبعد ذلك وتحت تأثير الاعتداء والاكتئاب الناتج عنه؛ يبدأ الضحية في تقبل الأمر واعتباره جزءًا من حياته.
من الصعب جدًا -والمستحيل في بعض الأحيان- تحرير شخص ما من هذه العلاقة المؤذية، فكما توجد روابط نفسية تربط الضحية بالمعتدي، توجد أيضًا احتياجات مالية وشؤون قانونية ومدنية مثل مستقبل الأبناء، والخوف على شخص ما من الموت أو الانتحار.
العبودية النفسية حالة معقدة جدًا، ولكي نقوم بمساعدة من يحتاج المساعدة، علينا تقدير تلك الدرجة من التعقيد، كما أنه علينا إبقاء الاتصال بيننا وبين الضحايا، المساهمة في حفظ احترامهم لأنفسهم، وفتح الأبواب التي يستطيعون الهرب من خلالها خارج تلك الزنزانة حين يأتي الوقت الذي يدركون فيه قيمة حريتهم.
يمكنك معرفة المزيد عن متلازمة ستوكهول من خلال المقال التالي «متلازمة ستوكهولم» – لماذا يُصبح بعض الضحايا مرتبطين عاطفيًا بالأشخاص المسيئين لهم؟!