العقوبات الاقتصادية عبر العصور

العقوبات الاقتصادية عبر العصور

في عام 1985 نشرت مجلة «فن الحكم الاقتصادي» (Economic Statecraft) مقولة ديفيد بلادون (David Baldwin) الرصينة مفادها: «لا يمكن فصل الحرب عن الاقتصاد، فكلاهما أدوات تحقق الأهداف العليا للدولة»، مقولة قد تبدو قديمة، ولكنها ذات أصداء رنانة، ما زلت تسمع منذ القدم وحتى وقتنا الحالي.

فما هي العقوبات الاقتصادية، ومتى استخدمت؟ وكيف تستخدم؟ ثلاثة أسئلة وجيهة تستحق التّمعن والتفكير، ومن ثم تقديم إجابة وافية عنها.

العقوبات الاقتصادية عبر العصور

استخدمت العقوبات الاقتصادية، على مرّ العصور، كوسيلة مكملة للحروب العسكرية. إذ تشير الدراسات التاريخية إلى أن اليونان الإغريق هم أول من استخدمها، ففي العام 432 قبل الميلاد أصدر بيريكليس (Pericles) قرار بحظر التعامل التجاري مع المدن اليونانية التي رفضت الانضمام لحلف دليان الأثيني (Athenian-led Delian League) في فترة الحرب البيلوبونيسينة (Peloponnesian War). أما في فترة حروب الإصلاح الدينية التي حدثت في أوروبا في القرون الوسطى، فقد تم استخدام حظر التجارة كعقوبة اقتصادية توقع كشرط جزائي في حالة عدم الالتزام بالمعاهدات الموقعة لحماية الأقليات الدينية المسيحية.

ولكن في أواخر القرن التاسع عشر ارتبطت العقوبات الاقتصادية بالحرب، حيث تم منع تصدير السلع الاستراتيجية وتم فرض حصار تجاري على الدول التي تشارك في الحروب. تغير آخر طرأ على استخدام العقوبات الاقتصادية وذلك عام 1920، العام الذي توسّع فيه استخدام العقوبات الاقتصادية خارج أوقات الحرب، فبعد إعلان ميثاق عصبة الأمم الذي تضمن نصًا يشرّع استخدام عقوبات اقتصادية، أصبح هنالك إطار قانوني دولي للعقوبات الاقتصادية. حيث قامت عصبة الأمم بالتهديد بفرض عقوبات اقتصادية على الدول أثناء تسوية العديد من الخلافات الدولية في فترة العشرينيات من القرن الماضي، وركزت على استخدامه في فض منازعات ترسيم الحدود بين الدول. ومن أشهر الأمثلة التاريخية على العقوبات الاقتصادية في تلك الفترة، العقوبات التي فرضت على إيطاليا عند غزو ابيسينا (Abyssina) عام 1935، حيث فرضت عليها حظرًا تجاريًا ومنعتها من استيراد الأسلحة الحربية. كما لوّحت عصبة الأمم بفرض حصار اقتصادي على اليابان سنة 1931 عندما قامت بغزو منشوريا (Manchuria)، ولكنها لم تفرضه على أرض الواقع.

ولعل من أهم أسباب فشل وزوال عصبة الأمم، انعدام الرغبة السياسية لأعضائها في تأسيس نظام عقوبات اقتصادية فعّال. ولكن في فترة الحرب العالمية الثانية تمكنت كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية من فرض حظر اقتصادي على دول المحور، ومنعت تصدير سلع استراتيجية لهذه الدول، كما وقامت بتجميد الأصول الخارجية للدول التابعة لها.

أما بالنسبة للبداية الحقيقية لاستخدام العقوبات الاقتصادية فكانت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، إذ فُرض حظر اقتصادي مباشرة على بعض الدول بعد انتهاء الحرب، ومن أشهر الأمثلة عليه الحظر المالي والاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية على الدول الشيوعية سابقًا، كما استُخدمَ ضد الدول التي تمارس الإرهاب الدولي.

وتعد هجمات 11 سبتمبر 2001 نقطة التحول المركزية التي دفعت الولايات المتحدة الأمريكية في التوسّع في دائرة العقوبات الاقتصادية والمالية ضد الإرهاب الدولي والدول التي تدعمه.(1)

كيف تعمل العقوبات الاقتصادية

العقوبات الاقتصادية عبارة عن حصار اقتصادي مالي يُفرض على دولة ما أو جماعة معينة أو مواطن معين، تفرضه دولة أو عدة دول على دولة أخرى، بهدف الضغط عليها لإجبارها على تغير تصرفاتها على الساحة الدولية. وقد تفرض العقوبات الاقتصادية نتيجة قيام الدولة المستهدفة بتصرفات اقتصادية، أو سياسية، أو اجتماعية تزعج الدولة التي تفرض العقوبة. ويمكن وصف هذا الأسلوب «بسياسة العصا والجزرة» في تعاملات السياسية الخارجية. ولكن في النهاية الهدف الأساسي منها تغير تصرفات الدولة بالقوة بما يوافق سياسة الدولة أو الدول التي تفرض العقوبة.

أشكال العقوبات الاقتصادية

هناك العديد من الأشكال التي تستخدم كعقوبات اقتصادية، ومن أبرزها:

  1. فرض قيود جمركية على الواردات السلعية من الدولة المستهدفة.
  2. تحديد حصص استيراد ((Quotas لواردات وصادرات الدولة المستهدفة، بهدف تقويض تجارتها الخارجية.
  3. فرض قيود غير جمركية مثل اشتراط إصدار رخص استيراد عند التعامل مع الدولة المستهدفة، أو وضع مواصفات معينة للسلع التي يتم استيرادها من تلك الدول، مع فرض شروط معينة في التعبئة والتغليف، بحيث تقل قدرة الدولة على تصدير سلعها للخارج.
  4. الحظر التجاري الشامل (Embargo): وفيه يتم فرض قيود تجارية تمنع الدولة من التجارة الخارجية بجميع أشكالها مع العالم الخارجي، وتمنع معه تعاملات الشركات والأشخاص مع سلع وخدمات الدولة المستهدفة، ويعتبر من أشد أنواع العقوبات الاقتصادية، ومن أشهر الأمثلة عليه، الحظر التجاري الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية على كوبا في بداية الستينيات من القرن الماضي.
  5. تجميد الأصول المالية والودائع البنكية الخارجية للدولة المستهدفة، حيث تُمنع الدولة من استخدام أصولها أو بيعها أو نقلها للخارج.

وتختلف درجة حدة العقوبة الاقتصادية باختلاف شكل العقوبة، وبعدد الدول التي تشترك في فرضها، فإذا كانت العقوبات الاقتصادية أحادية، تفرضها دولة ما على دولة أخرى، فإن درجة حدتها أقل وتكون آثارها الاقتصادية أضعف. أما إذا كانت العقوبات الاقتصادية متعددة الدول، تشترك فيها أكثر من دولة في فرض حصار على دولة معينة، فقد يؤدي استمرارها لفترة طويلة إلى انهيار النظام الاقتصادي للدولة المستهدفة.(2)

ولعل أشهر مقاطعة اقتصادية كانت مقاطعة الدول العربية للولايات المتحدة الأمريكية في سبعينيات القرن الماضي، عندما أوقفت الدول العربية تصدير النفط لها، مما شكل أداة ضغط قوية لإيقاف الحرب، وترتب عليه آثار سلبية على الاقتصاد الأمريكي، شمل ارتفاع أسعار البترول فيها، وانهيار بورصة الأوراق المالية الأمريكية، حيث احتاج الاقتصاد الأمريكي فترة طويلة حتى استطاع التعافي منها.

الآثار الاقتصادية للعقوبات الاقتصادية

يتم فرض الحصار الاقتصادي وتقويض التجارة الدولية لدولة ما، كوسيلة عقابية تستخدم لأسباب حمائية الهدف منها حماية صناعة معينة أو حماية سلعة معينة من المنافسة الدولية غير العادلة، أو أنها قد تفرض لأسباب إنسانية بهدف حماية حقوق الإنسان في حالة تعدي الدولة على حقوق الأقليات فيها واتباع سياسة تمييز عنصري بناء على عرق، أو لون، أو دين في الدولة المستهدفة.

ولأن فرض العقوبات الاقتصادية يؤثر سلبًا على اقتصاد الدولة، ويترتب عليه عزلة اقتصادية ومخاسر حقيقية تتمثل في اختفاء بعض السلع من السوق، أو كساد صناعة معينة في الدولة، يتضرر منها الأبرياء أكثر من الحكومات، يُكتفى أحيانًا بالتلويح والتهديد في فرض عقوبات اقتصادية لردع الدولة عن تصرفاتها.

ولكن ما يجدر الإشارة إليه أن فاعلية العقوبات الاقتصادية وآثارها الاقتصادية تختلف باختلاف الدول، فإذا كان اقتصاد الدولة المستهدفة قويًا ولا يعتمد بدرجة كبيرة على العالم الخارجي فإن تأثره بالعقوبات يكون محدودًا جدًا، أما إذا كان اقتصاد الدولة المستهدفة من العقوبات ضعيفًا ويعتمد على العالم الخارجي، فقد تؤدي العقوبات إلى انهيار الاقتصاد، خاصة إذا استمر لمدة طويلة.

وأيّا كان مستوى الاقتصاد ومدى تأثره بالعقوبات، فقد برهنت التجارب الحقيقية للعقوبات أن فرض العقوبات الاقتصادية كان ذو أثر محدود على سياسة الدولة المستهدفة، وغالبًا ما تستمر الدولة في السياسة التي اتبعتها قبل فرض العقوبات.(3)

خاتمة

أخيرًا فإن العقوبات الاقتصادية التي تُفرض على التعاملات الخارجية الدولية، مالية كانت أو اقتصادية، موجودة منذ القدم، ولا زالت تستخدم حتى وقتنا الحالي، فالعقوبات الاقتصادية بأنواعها وسيلة رادعة إذا تم استخدامها بالوقت المناسب والطريقة المناسبة، ويجب توجيهها ضد الجهة المستهدفة بحكمة.

ولكن هناك سؤال وجيه يطرح نفسه الآن، وهو «ما مستقبل العقوبات الاقتصادية؟ وإلى أين ستصل؟» سؤال يتطلب التفكير في جدوى العقوبات الاقتصادية ومستقبلها وإمكانية طرح بدائل لها، يجب دراسته في النظام الاقتصادي العالمي الجديد.

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي